فضج الناس وصفقوا من الطرب.
وسار ذكر فلورندا في شرق قرطبة وغربها. وأصبح جمالها وفنها حديث كل دار، وسمر كل مجلس، وانهمر الذهب على بترو انهمارا. أما السيد جارسيا فقد صار من أثرياء قرطبة وظرفائها، يسكن قصرا فخما، ويلبس الأقبية والبرانس الحريرية من خير ما تخرجه مناسج المرية، ويعيش عيشة الترف والنعيم، ويتسابق الناس إلى معرفته والتقرب إليه، وأصبح حديثه ظريفا رائعا، ونكتته بارعة الخيال، ولكنته في العربية جميلة رشيقة زادت العربية جمالا!
وكان يغشى حانة بترو زمرة من أبناء الوزراء والقضاة وكبار تجار المدينة، منهم غالب بن محمد بن أبي حفص، كان أبوه من وزراء المنصور المقربين عنده، الذين جمع لهم جاههم ومنصبهم ثروة تتحلب لمثلها أشداق اليهود.
كان غالب في الثلاثين، وكان ظريفا أديبا، وفتى مدللا، ففتن بفلورندا أول ليلة رآها، ودلهه حبها، وأصبح صبا بها متبولا،
6
فكان يذهب مع خاصة أصدقائه في كل ليلة إلى الحانة، وينثر الذهب على فلورندا، ليحظى منها بنظرة رضا أو ابتسامة حنان.
وطال الأمد على هذا الحب، وغالب مثابر، ينعشه بصيص من أمل، وفلورندا جادة في التيه المتقطع الذي تذهب به بسمة مشرقة، وتعود به تعبيسة غائمة. فلما ناء صدره بما يحمل، وضاق ذرعه بما يلاقي، ذهب صبيحة يوم إلى جارسيا، وأطلعه على أمره، وأنه لا يطيق الحياة بغير فلورندا، وأنه يطلبها له زوجا، وأنه يبذل فيها كل ما أرادت وأراد أبوها من مال. فأطرق الأب وعبث بلحيته طويلا، وأحب العرض، لأنه لم يكن يحلم يوما أن تصبح ابنته في يوم من الأيام زوجا لابن وزير المنصور، وإذا كان ينعم الآن بالمال الذي يغرقه فيه بترو، فإنه سوف ينعم بالمال الذي يفيض عليه من غالب، والمال الأول يأتي من ابنته وهي راقصة متبذلة، والمال الثاني يأتي من ابنته وهي زوج مصونة تعيش في كنف وزير. ما أبعد البون، وما أعظم الفرق بين الحالين! وهنا رفع رأسه وقال: ولكن ماذا نفعل ببترو؟ إنه لن يفرط في فلورندا. - هل اشتراها بالمال؟ أهي إحدى جواريه فهو يحوزها بملك اليمين؟ - لا. ولكنه هو الذي نشأها، وهو الذي صنعها، فلو أخذت منه الآن لأصبحت حانته أخلى من شنت ياقب حينما دخلها المنصور. - إنه كسب من ورائها مالا كثيرا. - نعم يا سيدي، ولكنني أصر على مقابلته وإرضائه.
ورأى غالب أنه لو عرض على بترو الأمر في رجاء واستعطاف لفسد كل شيء، لأنه رجل جشع نهم، لا يرضى بانتزاع فلورندا منه في سهولة ولين، لذلك اتجه إلى جارسيا وقال: أواثق أن فلورندا سترضاني زوجا؟ - أنا رضيتك زوجا لابنتي يا سيدي، وهي لا تعصى لي أمرا. - عظيم! نجتمع هنا الليلة مع بعض أصدقائي لنعقد الزواج. - كيف يا سيدي؟ وماذا نعمل لبترو؟ - هذا ما ستعلم نبأه بعد حين، غير أني أرجوك ألا تخبر أحدا بما دار بيننا إلا فلورندا.
وانطلق غالب فجمع بعض جند أبيه وأعوانه، وأمرهم أن يذهبوا جميعا إلى دار بترو، وأن يحضروه إليه في عنف وقسوة، كأنه اقترف أشنع الجرائم. وجاء بترو خائفا مرتعدا، فلما مثل بين يدي غالب صاح في وجهه: أنت بترو بن برفكيوس؟
فعجب بترو أن يسأله غالب عن اسمه، وهو من رواد حانته في كل ليلة، وأعرف الناس به من أمه وأبيه، ولكنه أطرق خائفا مستحذيا وقال: نعم يا سيدي.
Неизвестная страница