Философский урожай двадцатого века: и другие философские исследования
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Жанры
تقديم
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين
تطور العقل النقدي
نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس
دور الفلسفة في الثقافة المعاصرة
الوعي التاريخي بين الماضي والمستقبل
المفارقة التاريخية عند نيتشه
البيئة والمسئولية نحو نموذج معرفي وأخلاقي جديد للخروج من أزمة الإنسان مع بيئته
تقديم
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين
Неизвестная страница
تطور العقل النقدي
نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس
دور الفلسفة في الثقافة المعاصرة
الوعي التاريخي بين الماضي والمستقبل
المفارقة التاريخية عند نيتشه
البيئة والمسئولية نحو نموذج معرفي وأخلاقي جديد للخروج من أزمة الإنسان مع بيئته
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين
وبحوث فلسفية أخرى
تأليف
Неизвестная страница
عطيات أبو السعود
تقديم
يضم هذا الكتاب مجموعة من الدراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة التي نشر بعضها في مجلات ثقافية متنوعة على فترات زمنية مختلفة، وما زال البعض الآخر - حتى كتابة هذا التقديم - قيد النشر. وقد كانت بعض هذه الدراسات مساهمة في مناسبات خاصة؛ فالدراسة الأولى التي جعلناها العنوان الرئيسي لهذا الكتاب «الحصاد الفلسفي للقرن العشرين» تمت في إطار المشروع الكبير الذي تبنته مؤسسة عبد الحميد شومان الأردنية عن «حصاد القرن العشرين»، وهو المشروع الذي رصد كل ألوان المعرفة من علوم وفنون وآداب على مدى قرن من الزمان، واختصت هذه الدراسة بالحصاد الفلسفي للقرن العشرين.
وكانت الدراسة الخاصة ب «المفارقة التاريخية عند نيتشه» مشاركة في احتفال العالم بمرور مائة عام على رحيل نيتشه. وقد كنت في ذلك العام في مهمة علمية بالولايات المتحدة الأمريكية، وعاصرت هذه الاحتفالات التي تمثلت في إقامة عدد كبير من المؤتمرات والندوات التي اهتمت بإعادة إحياء فكر نيتشه واكتشافه من جديد، ومحاولة تقييمه، وإعادة الاعتبار له. وفي هذه الفترة الزمنية نفسها - أي فترة وجودي بالولايات المتحدة الأمريكية - تعرفت عن قرب على فكر الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي عندما حضر إلى ولاية فرجينيا حيث كنت أقيم - وقد كان يعمل بجامعتها أستاذا للعلوم الإنسانية قبل انتقاله إلى ولاية كاليفورنيا - وذلك للمشاركة في احتفال قسم الفلسفة بجامعة فرجينيا التكنولوجية ببلوغ إحدى عضوات هيئة التدريس فيه عامها التسعين. وينظر الأمريكيون إلى ريتشارد رورتي على أنه الفيلسوف الأول للدولة ومجدد البراجماتية. وقد دفعتني هذه المناسبة إلى التعرف على فكر هذا الفيلسوف، وتمكنت من الحصول على مؤلفاته، فكانت الدراسة الخاصة ب «دور الفلسفة في الثقافة المعاصرة، بحث في آراء فيلسوف البراجماتية الجديدة ريتشارد رورتي».
وعلى الرغم من تنوع موضوعات هذا الكتاب وانتمائها إلى الفكر الغربي، إلا أن ما يربطها جميعا هو التوجه النقدي لهذا الفكر الذي لم نكتف بعرضه، والتعريف به، والإطلال عليه فحسب، بل تناولناه تناولا نقديا في محاولة للحوار مع هذا الفكر والوقوف منه مواقف تحليلية وتقييمية يمكن أن تفيد في تفعيل نشاطنا الفلسفي في العالم العربي. ولعل النقد - بعد العرض والتعريف الضروريين - أن يكون هو إسهامنا الحقيقي والإيجابي في الفكر العالمي - على الأقل في مرحلتنا الحالية - الأمر الذي يمكن أن يبلور لدينا نظريات ومدارس فلسفية ما زلنا نفتقر إليها في حياتنا الفكرية المعاصرة.
في النهاية أرجو أن يساعد هذا الكتاب على إعطاء القارئ فكرة عن بعض ما يدور في الساحة الفلسفية الغربية من دراسات وحوارات ومشكلات وقضايا لا مفر لنا من الإلمام بها، والتعرف عليها، واتخاذ المواقف النقدية المناسبة منها، بحيث يؤدي ذلك كله إلى إثراء حياتنا الفكرية وحفز طموحاتنا إلى التقدم والنهضة الحقيقية.
الإسكندرية، في أغسطس 2002م
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين
مقدمة
يعيش العالم الآن الأيام الأخيرة من القرن العشرين. ومع اقتراب النهاية التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى تعالت صيحات بعض المفكرين، فمنهم من يتنبأ بنهاية العالم، ومنهم من يقول بنهاية التاريخ، وآخرون يعلنون نهاية الفلسفة، ولكن أين الحقيقة من الأوهام في هذه المزاعم؟
Неизвестная страница
إذا تناولنا الزعم القائل بنهاية الفلسفة، وحاولنا فحصه للوقوف على حقيقة الأمر فيه، فلا بد ونحن على مشارف الألف الثالثة للميلاد أن نتخذ موقف المراجعة النقدية لكل الاتجاهات الفلسفية التي سادت القرن العشرين، وأن نرصد حركة التفكير الفلسفي - وهو موضوع هذا البحث - حتى نتبين هل أفضت هذه الحركة إلى وضع نهاية لهذا التفكير بالفعل أم لا؟ وكيف تجلت الروح النقدية بأشكال وصور مختلفة في جميع التيارات الفلسفية التي سنتعرض لها بالرصد والمتابعة والتقييم؟ وأخيرا هل استطاعت الفلسفة طوال مائة عام - وهي الحقبة الزمنية التي يتناولها البحث بالتقييم - أن تواكب احتياجات المجتمع المتغيرة في تلك الفترة التاريخية التي تميزت بالاحتجاج والتمرد على كل ما هو مألوف ومعتاد؟
وإذا كان الرد على هذا السؤال بالإيجاب، فما هي السمات العامة للتفكير الفلسفي التي ميزت القرن العشرين عن القرون الماضية؟ وهل استطاعت الفلسفة أن تلحق بركب التطورات السريعة للتقدم العلمي والاجتماعي، بحيث أصبح وجودها لازمة ضرورية مصاحبة لهذا التطور؟ أم أن الطفرات التي حققها التقدم المذهل في العلوم الطبيعية قد أزاح دورها الريادي؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل تراجعت الفلسفة بالفعل عن مكانتها بما يسمح للبعض بإعلان نهايتها؟ وهل النهاية المقصودة في هذا المقام تعني المعنى الحرفي للكلمة، أم هي إعلان بنهاية المشكلات التقليدية للفلسفة ومنع طغيانها على الفلسفة المعاصرة؟ أم هي إيذان بتحولات جديدة في التفكير الفلسفي وفي طرح مشكلاته كما تمثلت في الثلث الأخير من القرن العشرين؟ وإذا كانت الفلسفة تقف الآن في مفترق الطرق بين التقدم الهائل للعلوم من ناحية، وعصر يموج بالمتغيرات والمتناقضات والتحولات في ظل ثورة المعلومات والاتصالات من ناحية أخرى، فما هي الوظيفة الموكلة إليها في خضم الهجوم الشديد عليها من قبل بعض الاتجاهات - كالماركسية والبراجماتية والوضعية المنطقية والوجودية - بهدف التقليص من مهمتها؟ وإذا كانت الفلسفة جزءا من الحياة وعليها مسئولية تاريخية لا ينبغي التهوين من شأنها، فماذا تبقى لها؟ وما مصيرها؟ وماذا ينبغي على كل فيلسوف حي الضمير أن يفعل؟ وما هي مهمته؟
يحاول هذا البحث الرد على هذه التساؤلات التي تستلزم الإجابة عليها الرجوع إلى الوراء قليلا لرصد حصاد التفكير الفلسفي منذ بدايات القرن العشرين، وحتى نهايته بقدر الاستطاعة، فكثرة الفلسفات المتنوعة والمختلفة بشكل مذهل ومحير في آن واحد، تجعل مهمة محاولة إيجاد وحدة تربط هذا التنوع مهمة مشكوكا فيها، طالما كنا نحن أنفسنا ننتمي إلى هذا العصر، وغارقون فيه حتى آذاننا. وربما ترجع صعوبة تقديم صورة كلية ونظرة بانورامية شاملة على التيارات الفلسفية في القرن العشرين إلى عدة عوامل نحاول إجمال أهمها في النقاط التالية:
أولا:
أن التنوع الهائل للتيارات الفلسفية في القرن العشرين يجعل مهمة رصدها من الأمور الشاقة العسيرة. فلم يشهد أي قرن من القرون الماضية مثل هذا الكم الضخم من الاتجاهات الفلسفية المتشابهة أحيانا والمتباينة أحيانا أخرى كثيرة كما شهد القرن العشرون. وإذا كنا نستطيع أن نصف القرون الماضية بأن نقول إن القرن السابع عشر هو عصر المذاهب العقلية والتجريبية، وإن القرن الثامن عشر هو عصر التنوير، والقرن التاسع عشر هو عصر الفلسفات المادية بأنواعها المختلفة، فإننا لا نستطيع أن نفعل هذا مع القرن العشرين الذي تميز بتيارات فلسفية متنوعة تنوعا مبالغا فيه مما يجعل من غير الممكن تحديد خصائص عامة لكل هذه التيارات.
ثانيا:
أن التفكير الفلسفي في القرن العشرين ليس مقطوع الصلة بفلسفات القرن التاسع عشر ولا بالقرون السابقة عليه. فهناك بعض التيارات - خاصة في النصف الأول من القرن - التي تعد امتدادا وتطويرا للأفكار الأساسية التي سادت في القرن الماضي أو حتى القرن الذي سبقه. وإذا كان هذا التأثير لا ينفي عن هذه التيارات جدتها وأصالتها، فهذه هي طبيعة التفكير الفلسفي الذي يتميز بأنه فكر متصل ومستمر وفي حالة جدل وحركة دائمين. كما تتميز بعض اتجاهاته بأنها تكاد أن تكون مقطوعة الصلة بكل ما سبقها، فهناك تيارات ومذاهب - في النصف الثاني من القرن - جديدة ووليدة القرن العشرين، وتكاد أن تكون في زعم أصحابها بداية جديدة كل الجدة، ومختلفة عن التيارات السابقة عليها، وبين هذا الاتصال والانقطاع يقع الراصد لحركة الفكر في نوع من الحيرة والذهول معا تجعل من الصعب عليه أن يلم بهذه الحركة في نظرة واحدة موحدة.
ثالثا:
يتميز القرن العشرون بأنه عصر يموج بالمتناقضات والمتقابلات ويحفل بالتغيرات والتحولات السريعة. وتنتاب الباحث في سمات التفكير الفلسفي في القرن العشرين وحصاده النهائي مشاعر متناقضة ومتباينة بسبب تشابك الفلسفة في هذا القرن مع علوم أخرى كثيرة، وعلى الرغم من انفصال العلوم عن الفلسفة قبل قرنين من الزمان، وعلى الرغم أيضا من أن الفلسفة لم تعد هي أم العلوم ولا المشرع لها ولا الحاكم المطلق في أمرها، إلا أنها عادت وتشابكت مع العلوم الطبيعية والرياضية والإنسانية مرة أخرى بصور مختلفة، كما تداخلت مع كل آداب العصر وفنونه. وبالإضافة إلى هذا الشعور المتناقض والمتباين يحس الباحث أيضا بالاغتراب كلما توغل بحثه واقترب من نهاية القرن، فهناك نوع من الانشطار بين بداية القرن ونهايته، فالتطور والتحول السريع الذي حدث في التفكير الفلسفي في النصف الثاني - أو إذا توخينا الدقة في بداية السبعينيات من هذا القرن - هو المسئول عن الإحساس بهذا التغريب، حتى ليخيل للمرء أن انتقاله من النصف الأول من القرن إلى نصفه الثاني أشبه بالخروج من عباءة العصر الوسيط إلى عصر جديد كل الجدة. إن النظرة العامة إلى المشكلات التقليدية للفلسفة من ميتافيزيقيا ومعرفة ومنطق وأخلاق قد اهتزت من أساسها؛ إذ «أصبحت الميتافيزيقا والمعرفة مجرد أيديولوجيا، والأيديولوجيا نفسها قد ساءت سمعتها بشكل متزايد. لم يعد أحد يجرؤ على التساؤل عن العناصر الأساسية للوجود، كما فعل الميتافيزيقيون القدامى، ولم يعد باستطاعة أحد أن يعلمنا المبادئ الأساسية للمعرفة الإنسانية، كما فعل الإبستمولوجيون القدامى، ولم يعد المنطق موضوعا فلسفيا، بل أصبح معظم المناطقة أعضاء في أقسام الرياضيات. كذلك الأمر في فلسفة الأخلاق التي تحولت إلى الدراسات الفلسفية التحليلية، وانتهت إلى ما بعد الأخلاق
meta-ethics
Неизвестная страница
وهي الدراسة التي يفترض أنها ستجد مكانها الصحيح في علم اللغويات الجديد.»
1 (1) خصائص التفكير الفلسفي في القرن العشرين
للأسباب السابقة يصعب أن تتوحد فلسفات القرن العشرين تحت تصنيف واضح، كما يصعب وضع خصائص للتفكير الفلسفي لهذا القرن يمكن أن تنطبق على كل تياراته المتنوعة. ومع ذلك يمكن إجمال سمات التفكير الفلسفي في القرن العشرين في النقاط التالية: (1)
يتصف التفكير الفلسفي - خاصة في النصف الأول من القرن - بالاستمرارية والاتصال مع فكر القرن التاسع عشر بالإضافة أيضا إلى الجدة، فقد «حاول تقديم إجابات متطورة عن أسئلة أو تساؤلات طرحها الإنسان في نهاية القرن التاسع عشر، بل وفيما قبل ذلك القرن. إلا أن سمة الحياة الجديدة بوجه عام أدت إلى طرح أسئلة جديدة كذلك، فالسؤال عما إذا كان سوء استخدام اللغة يؤدي إلى كثير من مشكلات الفلسفة بعامة، والميتافيزيقا بخاصة؛ سؤال جديد في فلسفة التحليل المعاصر.»
2 (2)
اختفت المذاهب والأنساق الفلسفية الكبرى التي تميز القرون الماضية، «ولا نكاد نجد لدى أغلب الفلاسفة المعاصرين هذه الأنساق أو التركيبات الفكرية الهائلة أو المذاهب الفلسفية الضخمة التي نجدها في الفلسفات التقليدية. وإنما نجد نزعات تحليلية يتوخى أصحابها الاهتمام بالمنهج، ويحرصون حرصا شديدا على الوضوح في الفكر والمعنى، وكذا الدقة البالغة في استخدام اللغة وأساليب التعبير.»
3 (3)
التمرد على النزعة المثالية هي السمة المميزة للعقل الفلسفي في القرن العشرين. وقد عبر هذا التمرد عن نفسه في أشكال عديدة من التفكير سادت في الفلسفة المعاصرة: الماركسية، والوضعية، والفلسفة التحليلية الإنجليزية، والبراجماتية والوجودية. تمرد الماركسيون على النزعات المثالية لإغفالها الظروف المادية الاجتماعية والتاريخية للمجتمع، كما تمرد الوضعيون عليها، واعتبروا عباراتها فارغة من المعنى، وتمرد التحليليون الإنجليز على المثالية على أساس من نزعتهم الواقعية، وتمردت الوجودية عليها أيضا؛ لأنها لم تكترث بالقلق الإنساني والتاريخ والزمان، وهذا التمرد على المثالية هو في حقيقة الأمر ثورة على النزعة العقلية بوجه عام. (4)
تحول الهجوم على الميتافيزيقا العقلية التقليدية إلى هجوم على الفروض المنهجية للنزعة العقلية، «لم تكن البراجماتية ولا الوجودية وحدهما في نقد النزعة العقلية الكلاسيكية. فالحقيقة أن الهجوم عليها جاء من كل الاتجاهات، وكان إحدى العلامات المميزة والسائدة في القرن العشرين، فكل فيلسوف منذ كانط جعل جزءا كبيرا من مهمته - سواء بشكل ضمني أو صريح - مواصلة نقد العقل الذي استهله كانط نفسه، وقد أعلن هوسرل مؤسس الفينومينولوجيا الحديثة أن مهمة الفلسفة هي إعادة تأسيس أو تكوين العقل
reconstitution of reason .»
Неизвестная страница
4
وهذا يدلنا على أن النقد الجذري هو القاسم المشترك لا بين هذين الفيلسوفين الأصليين فحسب، بل بين جميع الاتجاهات التي سنتوقف عندها بعد قليل. (5)
ترتب على رفض الفلسفة المثالية «أن أصبح الاتجاه إلى الواقع وإلى الإنسان أمرا طبيعيا، فنزع كثير من الفلاسفة المعاصرين إلى الواقعية، وترتب على نقد فكرة المطلق لدى معظم الفلاسفة المعاصرين ازدياد الاهتمام بالإنسان الفرد، بذلك عادت أصداء دعوة سقراط إلى معرفة الإنسان لنفسه تتردد من جديد، وبخاصة عند بعض الوجوديين.»
5 (6)
أصبحت الفلسفات المعاصرة أكثر ارتباطا بالعلم، وإن لم تعد قائمة على العلم ونتائجه بشكل مباشر كما كان الحال في القرن التاسع عشر. وانعكس هذا التأثير على استخدام المنهج العلمي والاستعانة بنتائج العلوم الطبيعية والنظريات العلمية في أغلب التيارات الفلسفية السائدة في القرن العشرين، حتى أصبح يطلق عليه اسم عصر المنهج والتحليل. وإذا كان الاهتمام بالمنهج يعود إلى عهد ديكارت وهيوم ... إلخ، إلا أن هذا القرن نجح نجاحا كبيرا في تحليل المفاهيم وتصنيف أشكال التفكير والتحرر من الميتافيزيقا التقليدية. (7)
كانت العقود الأولى من القرن العشرين فترة فحص نقدي، وامتدت الدراسة النقدية طوال القرن لتشمل كل مناحي الحياة والعقل والعلم والأخلاق والفن والدين، بل والفلسفة ذاتها. صحيح أن التحليل النقدي هو جوهر الفلسفة على امتداد تاريخها، لكن الدراسات النقدية في القرن العشرين اتخذت أبعادا مختلفة وشملت كل شيء في حياة الإنسان في المجتمعات الرأسمالية والصناعية المتقدمة، حتى تبلورت في مدرسة فلسفية حاولت أن تؤسس نظرية نقدية كان لها تأثيرها على أغلب فلاسفة النصف الثاني من القرن العشرين، وهي مدرسة فرانكفورت ونظريتها النقدية الاجتماعية. (8)
يوصف القرن العشرين بأنه عصر الكلمات والرموز بقدر ما هو عصر مضاد للميتافيزيقا. وينطبق هذا بوجه خاص على النصف الثاني من القرن وهي الفترة الزمنية التي ظهرت فيها تيارات فلسفية يمكن القول بأنها جديدة ومقطوعة الصلة بما سبقها، ومفرطة في طموحها. فقد انشغل الفلاسفة المعاصرون في إنجلترا وأمريكا بتحليل المفاهيم والبحث عن الدلالة والمعنى في الاستخدامات اللغوية، وحدث نوع من التحول في التفكير الفلسفي في تلك الحقبة، وتطورت الفلسفة التحليلية الإنجليزية، «وتحولت إلى دراسة اللغة العادية في كل تنوعها وكان فيتجنشتين هو المهندس الرئيسي لهذا التحول، حينما أكد أننا نكتشف اللغة من خلال استعمالها في مختلف مجالات النشاط الإنساني في حياتنا اليومية، وليس فحسب في استخدامها العلمي ، فالكلمة لها معنى فقط داخل تيار الحياة.»
6
وهكذا سادت تيارات فلسفية طالبت العقل بالتريث وآمنت بأن الجهل باللغة وسوء استخدامها هو المسئول عن الإخفاق العقلي والفوضى الروحية التي سادت التفكير الغربي، وأصبحت اللغة هي أحدث ملاذ للفلسفة والمأوى الآمن من الهجوم الضار عليها. وتطورت هذه النوعية من الدراسات على أيدي الفلاسفة الفرنسيين بوجه خاص، كما سنرى في تحليلات البنيويين والتفكيكيين. (9)
ظهرت في الثلث الأخير من القرن العشرين بعض التيارات الفلسفية المعروفة باسم فلسفات ما بعد الحداثة، وشهدت فرنسا على وجه التحديد تحولا جديدا في الفكر الفلسفي يتسم بشيء من الأفول النسبي لفلسفات الوجود. وظهرت البنيوية ثم التفكيكية وغيرهما من فلسفات ما بعد الحداثة التي تعد رد فعل بنهاية الحداثة أو هي التجربة الأخيرة بالحداثة، كما أنها رد الفعل العقلي والأخلاقي والجمالي لنهاية الحداثة. (10)
Неизвестная страница
واجه التفكير الفلسفي في نهاية القرن مأزقا شديدا، فبعد أن تطورت العلوم الطبيعية الحديثة تطورا هائلا أبعدت مجالات كثيرة عن سلطة التفكير الفلسفي، ولم تعد الفلسفة تستطيع أن تزعم أنها تسيطر على كل جوانب المعرفة، كما وجدت نفسها - أي الفلسفة - في مفترق طرق ونقطة تحول، وتعالت الصيحات بأنها أصبحت عديمة النفع، وكان لا بد من التفكير: ماذا بعد الفلسفة؟ وظهرت بعض التيارات التي تؤكد أن «استمرار الفلسفة لا يكون إلا من خلال تحولها إلى هيرمنيوطيقا فلسفية أي التأويل الفلسفي»،
7
كما في مشروع جادامر وريكور، أو في تحطيم «أو تجاوز وتفكيك» الميتافيزيقا الغربية كما عند دريدا، أو في نقد الأيديولوجيا المتجذرة في الظلم الاجتماعي عند هابرماس، أو في استمرارها عند البعض في السيمانطيقا (علم الدلالة)، وعند البعض الآخر في النظرية العامة للاتصال اللغوي.
وفي كل الأحوال كان التحول البارز الذي تعين على الفلسفة أن تتجه إليه هو التحولات اللغوية التي انطلقت بشكل أساسي من فلسفة كل من هيدجر وفيتجنشتين. وينتهي القرن بطرح التساؤل عن مصير الفلسفة! فقد رأى البعض علامات النهاية ونذرها الزاحفة، ورأى البعض الآخر أن هناك حاجة ماسة لمفهوم نسقي جديد للفلسفة، ورأى آخرون أنها «ليست في العلم ولا الفن ولا هي نظام معرفي
Discipline ، ولا يمكن لها أن تقدم أي شيء، بل هي دائما وللأبد نشاط وفعالية للروح الإنسانية»،
8
وإن اختلفت الآراء كذلك حول طبيعة هذه الفاعلية وموضوعها وأدواتها ... (2) تصنيف التيارات الفلسفية في القرن العشرين
تعددت المدارس الفلسفية، وتنوعت في القرن العشرين - كما سبق القبول - إلى حد اختلاف الباحثين والفلاسفة أنفسهم حول تقسيمها، فيقول رسل: «بثلاث فرق أساسية، الأولى اتباع الفلسفة الكلاسيكية (فلسفة كانط وهيجل)، والثانية تتكون من البراجماتيين وبرجسون، والثالثة ممن يتصلون بالعلم.»
9
وقدم «وولف» ستة اتجاهات: «المذهب المادي، المذهب المثالي المطلق، مذهب الكثرة الروحية، مذهب التجربة الجديد (الظاهريات)، فلسفة الحياة ومذهب الواقع.»
Неизвестная страница
10
أما بوشنسكي فقد ميز أهم النظم الفلسفية في النصف الأول من القرن العشرين من حيث المحتوى إلى ست مجموعات «المذهب التجريبي أو فلسفة المادة، وهو خليفة المذهب الوضعي (وهما يمتدان من مذاهب القرن التاسع عشر)، والمثالية في صورتيها الهيجلية والكانطية. ثم يأتي مذهبان قطعا كل حبال الاتصال مع القرن التاسع عشر؛ وهما فلسفة الحياة وفلسفة الماهيات أو الفينومينولوجيا. وأخيرا تأتي مجموعتان تعبران عن المحاولات الأصيلة والمعبرة عن القرن العشرين، وهما مجموعة الفلسفة الوجودية ومجموعة ميتافيزيقا الوجود الجديدة.»
11
أما تصنيف هذه المذاهب حسب المنهج فيرده بوشنسكي إلى «التحليل الرياضي المنطقي من جهة، وإلى العمليات الفينومينولوجية من جهة أخرى.»
12
ومما لا شك فيه أن تصنيف المذاهب - كما يعترف بوشنسكي نفسه - لا يخلو من تعسف؛ لأن هناك فروقا كبيرة تفصل بين فلسفات تم وضعها تحت عنوان واحد، ومع ذلك فالتصنيف ضرورة من أجل تقديم صورة كلية ونظرة شاملة. وسنعرض الآن لأهم التيارات الفلسفية في القرن العشرين، ولكن هذا العرض أيضا لا يخلو من تعسف، فالمساحة المتاحة لهذا البحث لا تسمح بعرض كل الاتجاهات؛ لذلك سنقتصر على أكثر التيارات تأثيرا في فلسفة القرن العشرين، وسيتم اختيار الفلاسفة الذين نظن أن لهم وجهات نظر ثاقبة، أو لهم إسهام مميز وتأثير واضح في مناهج أو نظريات أو تأملات فلسفية أخرى، والذين أصبح لهم تأثير على عقول فلاسفة واعدين الآن .
سنبدأ أولا بعرض التيارات الفلسفية التي سادت الفكر الغربي في النصف الأول من القرن العشرين، والتي كانت رد فعل أو امتدادا لتيارات القرن التاسع عشر، ولكننا سنستثني من هذا العرض الفلسفة الماركسية، وعلى الرغم من أنها تنتمي إلى مذاهب القرن التاسع عشر، فقد كان لها تأثير على بعض الفلاسفة في القرن العشرين، لا سيما بعض الفلاسفة الماركسيين الذين اجتهدوا في تجديد الفكر الماركسي من الداخل - مثل بلوخ وأصحاب التيار النقدي الاجتماعي من مدرسة فرانكفورت - وحاولوا تحذير العالم مما سيئول إليه الفكر العقائدي المتزمت بعد أن شهد النصف الأول من القرن العشرين أهوالا عديدة، فقد سيطرت حكومات شمولية استبدادية على النظم السياسية في العديد من بلدان أوروبا كالفاشية الإيطالية والشيوعية السوفيتية والنازية الألمانية، وشهد أيضا ملايين الضحايا في حربين عالميتين انتهتا بأن تركتا العالم في حالة فوضى، بعد أن وصلت ذروته بإلقاء القنابل الذرية على هيروشيما ونجازاكي. لذلك ظهرت الدعوة إلى تجديد الفكر الماركسي والوقوف في وجه النظم الشمولية، ولكن لم تكن هناك آذان صاغية لهذا التجديد، ولسنا في حاجة إلى الإشارة إلى المصير المأساوي الذي انتهت إليه الماركسية، فالانهيار العظيم يشهد عليه. ومع ذلك سنكتفي بالإشارة إلى تيار واحد حاول تجديد الفكر الماركسي من حيث المنهج، وإن كان قد تخلى عن معظم مقولاته الفلسفية الأساسية، وهو التيار النقدي لمدرسة فرانكفورت، والذي سنعرض له في حينه. ونبدأ العرض بالتيارات التي سادت في النصف الأول من القرن العشرين مثل البرجسونية والبراجماتية والفلسفة التحليلية. وقد كانت فلسفة برجسون الحيوية مناهضة للمذهب المثالي والفلسفة الوضعية المنتمين للقرن الماضي، كما عرضت لأول مرة مفهوم الديمومة. وقدم برجسون نظريته في التطور، وكانت دفعة كبيرة للأبحاث الفلسفية اللاحقة لها.
وكانت البراجماتية امتدادا للتيار التجريبي باعتبارها شكلا من أشكال الفلسفة التجريبية، ثم أصبح لها تأثير عميق على المسار اللاحق لها، «ليس فقط على الفلسفة التكنولوجية، بل أيضا على ازدهار نظم معرفية لم تكن مستقلة بنفسها تمام الاستقلال
half-independent disciplines
مثل علم الدلالة، وعلم النفس، والسوسيولوجيا والتشريع والتعليم.»
Неизвестная страница
13
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى تعتبر البراجماتية بمثابة حركة انتقالية أو الحلقة المفقودة بين عصر الأيديولوجيا وعصر التحليل.
ثم نعرض للفلسفة التحليلية وللوضعية المنطقية التي صدمت الحياة الفلسفية، وكانت الطفل المرعب لفلسفة القرن العشرين، فلم تكن تسعى كغيرها من التيارات إلى تجديد الفلسفة، بل دعت إلى تدميرها، بزعم أنها تبحث في موضوعات لا معنى لها. وبذل الوضعيون المناطقة كل جهودهم لوضع حد حاسم بين الميتافيزيقا والعلم الطبيعي، وجعلوا مهمتهم الأولى هي حذف الميتافيزيقا، ثم توضيح لغة العلم وتحديدها. وعلى الرغم من الصخب الذي أحدثه أصحاب هذا الاتجاه في بدايته المبكرة، إلا أن نجمهم قد أفل وانخفض صوتهم، وتحول اتجاههم الفلسفي إلى تيارات علمية وتجريبية أخرى متطورة.
ثم يعرض البحث لأكثر التيارات تأثيرا في القرن العشرين - والتي لم تكتشف في رأينا كل كنوزها حتى الآن - وهي فلسفة الظاهريات أو الفينومينولوجيا ومؤسسها هوسرل، أو هو بالأحرى مؤسس فلسفة الوعي، الذي كانت مهمته إعادة بناء نقدي للمعرفة، وربما لا نبالغ إذا قلنا إن الظاهريات هي بحق العباءة التي خرجت منها معظم التيارات الفلسفية اللاحقة لها في هذا القرن، وإن لم يكن لها تلك الشعبية التي حظيت بها هذه التيارات (مثل الوجودية على سبيل المثال). والظاهريات هي الفلسفة التي تنتمي عن أصالة لفكر القرن العشرين، وهي التي يصفها مؤلفها بأنها «عالم البحث المحايد الذي تنبت منه جذور شتى العلوم.»
14
ثم ننتقل إلى الوجودية وهي من أكثر الفلسفات انتشارا في منتصف القرن العشرين. وهي أيضا من أكثر الفلسفات التي تأثرت - بكل تياراتها المختلفة - بظاهريات هوسرل. عادت الوجودية بتاريخ الفلسفة إلى جذور السؤال عن الوجود والماهية، كما عبرت عن أزمة الإنسان الأوروبي في مرحلة ما بين الحربين العالميتين. وإذا كانت الوجودية قد انحسرت منذ ما يقرب من ربع قرن، إلا أنها امتدت في تيارات أخرى انتشرت في الثلث الأخير من القرن العشرين، وهي التي تسمى بفلسفات «ما بعد الحداثة»، والتي انبثقت من فلسفة هيدجر على التحديد.
ثم نعرض لتيار آخر اجتاح الفكر الفلسفي الأوروبي منذ أواخر الربع الأول من القرن العشرين، لكنه لم يتبلور في شكل نظرية إلا بعد الحرب العالمية الثانية، وهو التيار النقدي الاجتماعي الذي أرسى دعائمه أعضاء مدرسة فرانكفورت، وصاغوا له النظرية التي عرفت باسم «النظرية النقدية». وشكلت هذه المدرسة تيارا فلسفيا داخل الفكر المعاصر، مستعينة بالأدوات التحليلية والطاقة النقدية للماركسية، لتحليل المجتمع الصناعي والرأسمالي. وإن كان يؤخذ على أصحاب النظرية النقدية أنهم لم يقيموا نسقا منهجيا محكما، إلا أنهم يمثلون تيارا فلسفيا لا يمكن تجاهله، فقد حاول أن يعيد للفلسفة دورها في المجتمع، وخاصة على يد أحد أهم أعلام جيلها الثاني وهو يورجين هابرماس.
ثم نعرض للبنيوية، ذلك التيار الذي سيطر على الفكر الفرنسي في الستينيات، بعد أن هدأ الصراع الفكري بين الوجودية السارترية وأنصار الماركسية، ذلك الصراع الذي سيطر على الساحة الثقافية الفرنسية في تلك الفترة الزمنية. والبنيوية ليست مذهبا فلسفيا جديدا بقدر ما هي منهج في المعرفة العلمية، احتذى بالنجاح الذي حققته علوم اللغة بهدف الوصول إلى مرتبة العلم المنضبط على نمط العلوم الطبيعية. وقد أثارت البنيوية، فكرا ومنهجا، الكثير من الجدل بين الحماس لها من ناحية وبين الغضب عليها من ناحية أخرى.
ويعرض البحث للفلسفات الجديدة التي ظهرت في مطلع السبعينيات، وتركز معظمها في الفكر الفرنسي على وجه التحديد. ومنذ ذلك الحين بدأت تظهر فلسفات «المابعدية» - إذا صح هذا التعبير - أعني تلك التيارات التي اتخذت شعار: «ما بعد التجريبية»، «ما بعد العصر الصناعي»، «ما بعد الميتافيزيقا»، «ما بعد الأخلاق»، «ما بعد الحداثة»، «ما بعد الفلسفة»، «ما بعد النقد»، «ما بعد البنيوية»، «ما بعد الحكاية». ولا غرابة في أن تظهر هذه الاتجاهات في الثقافة الفرنسية التي اشتهرت «بالبدع» أو «الموضات» الثقافية والفكرية بنفس القدر الذي اكتسبت به شهرتها في «تقليعة» أو «موضة» الأزياء. تعبر كل هذه «المابعدات» عن التغيرات الأساسية التي طرأت على الثقافة والمجتمع الغربي في أخريات القرن العشرين، وظهرت بوضوح في مجالات الآداب والفنون، ثم انتقلت إلى مجالات الفلسفة والنظريات الاجتماعية. ومن أهم هذه التيارات التي سنعرض لها في هذا البحث فلسفة التأويل (الهرمنيوطيقا) والتفكيكية. (3) أهم التيارات الفلسفية في القرن العشرين
قبل أن نعرض لأهم تيارات هذا القرن لا بد أن نؤكد أن الغالبية العظمى من فلاسفة القرن العشرين انتابتهم رغبة جامحة للإتيان بأفكار وتيارات جديدة، واقتلاع القديم من جذوره، ولهذا السبب كانت الروح النقدية هي الدافع الأول في هذه التيارات. وإذا كانت هذه الرغبة مشروعة في الحياة بصفة عامة، فهي بغير شك أكثر مشروعية في الفكر الفلسفي الذي يعد النقد جوهره وأهم سمة من سماته، هذا من جانب، ومن جانب آخر لا بد من التأكيد أيضا أنه ليس هناك بداية مطلقة من الصفر، كما يستحيل على أي جديد أن يتبرأ تماما من دينه نحو الأسلاف، ولا يمكن على الإطلاق أن تكون هناك جدة مطلقة لا تتصل على نحو من الأنحاء - ولو على سبيل الرفض والقطعية - بما سبقها من أشكال الفكر ومضامينه. (3-1) فلسفة الحياة
Неизвестная страница
نبدأ هذه البانوراما الفلسفية للقرن العشرين بالتيار المسمى بفلسفة الحياة، وسنكتفي منه بالفيلسوف الفرنسي هنري برجسون (1859-1941م)، ولن نقف عنده كثيرا، لا لعدم أهميته ولكن لأنه - من بين فلاسفة قلائل - حظي باهتمام كبير في الفكر العربي، حيث ترجمت معظم مؤلفاته إلى اللغة العربية، وصدرت في عدة طبعات مختلفة، وتجاوبت معه الرومانسية العربية. لقد كان لبرجسون تأثير قوي ليس على الحياة الفكرية الفلسفية فحسب، بل على الحياة الفكرية والأدبية أيضا في النصف الأول من القرن العشرين، لما كان يتمتع به من أسلوب أدبي مرهف ودقة في التعبيرات الفلسفية، فذاعت شهرته وراجت كتبه. وعلى الرغم من أن آراء برجسون ليست جديدة تماما على الفكر الفلسفي الغربي - حيث نجد فيها أصداء هرقليطس وأفلوطين وهيجل وشيلنج ومين دي بيران - إلا أنه «يعد أكبر فيلسوف في فرنسا منذ عهد بعيد لما بذله من براعة في الجمع بين هذه الآراء والتجديد في عرضها، وقد أذاع لونا من التفكير وأسلوبا في التعبير طغيا على سائر فروع المعرفة العلمية وتجاوزاها إلى الأدب.»
15
واجهت فلسفة برجسون الحيوية كلا من النزعة الآلية الميكانيكية والنزعة المادية مواجهة نقدية حاسمة. وقدم برجسون فلسفة للحياة من خلال نظرية التطور في إطار حدده هو لنفسه واتخذه أساسا لاتجاهه الفلسفي، وليس في الإطار الذي حدده كل من اسبنسر ودارون، فقد عرض لتطور الحياة في لغة شعرية وأدبية بعيدة عن اللغة العلمية التي استخدمها علماء البيولوجيا. وقد اتخذ من «الوثبة الحيوية» أصلا للتطور، كما عرضها في كتابه «التطور الخالق» عام 1907م، ولم يكشف العقل عن هذه الدفعة أو الوثبة الحيوية، بل هناك ملكة أسمى منه - في رأي برجسون - وهي الحدس التي نتعرف من خلالها على ما بداخلنا من صيرورة مستمرة وديمومة حقيقية، وهي الملكة الوحيدة القادرة على فهم الحياة، وإدراك كل ما هو حي ومتغير ومتحرك وجديد في الزمان.
وفي كتابه «المعطيات المباشرة للشعور» يؤكد برجسون أن الحياة النفسية «تيار غير منقطع من الظواهر المتنوعة، أي تقدم متصل من الكيفيات المتداخلة، بخلاف الظواهر المادية التي هي كثرة من الأحداث المتمايزة المتعاقبة.»
16
وإذا كان برجسون يرفض المنهج العقلي كمنهج للفلسفة، فهو لا ينكره في ميدان العلم؛ لأنه هو القادر على القياس والتحليل والتركيب، ولكنه لا يستطيع النفاذ إلى داخل الأشياء، بل يعرفها من الخارج فحسب. أما الزمان الشعوري أو الباطني فلا يمكن إدراكه إلا بالحدس، وهو ضرب من الإدراك المباشر لحياتنا الباطنية ولمجرى شعورنا الداخلي. وقد حاول برجسون بذلك «تجاوز التفرقة بين الذات والموضوع بوصفهما قطبين متضادين، ولكنه نظر إلى هذا التجاوز نظرة مثالية، مقدما العالم الداخلي للإنسان، حدسه وحريته، بوصفهما بديهيات أساسية في الفلسفة.»
17
لقد كان الإسهام الأكبر الذي قدمه برجسون للفلسفة في بداية القرن العشرين هو إنقاذ فلسفة الروح من النزعة الوضعية، وقصد إلى «إنقاذ القيم التي أطاحها المذهب المادي، فهو واحد من أولئك الذين يقومون في الإنسانية ليعلنوا إيمانهم بالروح.»
18
ولقد كانت فلسفة برجسون بأكملها دفاعا عن الروح والحرية، والتأكيد على أن لكل إنسان شخصيته الحية المتميزة، وأن «كل خط للتطور ينتهي إلى تحرير الوعي عند الإنسان، ويظهر الإنسان وكأنه الغاية النهائية من تنظيم الحياة على كوكب الأرض»،
Неизвестная страница
19
ولكن فلسفة برجسون انحسرت مع نهاية الحرب العالمية الثانية - على الرغم من انتشارها السريع والشهرة التي حظيت بها في معظم بلدان أوروبا، وامتدت إلى الشعوب الشرقية - ويعزو البعض هذا الانحسار إلى اهتمامها المبالغ فيه بالزمان الشعوري، باعتبار أنه وحده هو الزمان الحقيقي، وتجاهلها للزمان المكاني. وربما يعود السبب الحقيقي لهذا الانحسار هو اكتساح الوجودية للساحة الفلسفية والفكرية في فرنسا في تلك الفترة وخاصة الوجودية السارترية. (3-2) البراجماتية
تعد البراجماتية من بين فلسفات القرن العشرين التي أدت دورا هاما في الفكر المعاصر، واشتهرت بأنها شديدة الإحساس بالمصالح الإنسانية. وهي الفلسفة التي ترجمت الأفكار إلى فعل وعمل؛ فالحقيقي في الفلسفة البراجماتية هو ما يمكن التحقق من صدقه في الواقع الموضوعي، وأن المنفعة والقيمة والنجاح هي المعيار الوحيد للحقيقة. ولا نستطيع القول إن البراجماتية مذهب فلسفي بقدر ما هي منهج يتتبع النتائج العملية للأفكار. وعلى الرغم من ردود الأفعال المتباينة التي تشكك في قيمة وأصالة البراجماتية، إلا أنها تعبر عن فلسفة حضارة جديدة، فبدون تشارلز بيرس ووليم جيمس، وجون ديوي (وهم أعلام هذا التيار) يصعب تخيل الحياة العقلية في القرن العشرين وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية معقل هذا التيار. وعادة «ما ينظر إلى بيرس على أنه سقراط النزعة البراجماتية، وجيمس على أنه أفلاطونها أما ديوي فهو أرسطو.»
20
في حضارة القارة الجديدة.
تشارلز بيرس (1839-1914م) «أول فيلسوف أمريكي يخرج على العالم بفكر جديد يبلور فيه الحياة العقلية كما تمثلت في القارة الجديدة، فهو الذي خلق الفلسفة البراجماتية خلقا، ثم هو الذي بلغ بها غاية كمالها، حتى إذا ما جاء بعده التابعان الكبيران اللذان سارا على نهجه، وهما وليم جيمس وجون ديوي لم يسعهما إلا أن يتحركا في الإطار نفسه.»
21
وأهم ما يميز فلسفة بيرس هي أنها فلسفة علمية وليست تأملية، وأنها بعيدة عن الرطانة الفلسفية الأكاديمية. ويعتبره البعض «أكبر مفكر أنجبته أمريكا، له إسهاماته المتميزة في المنطق، وفلسفة العلم، والميتافيزيقا، والإبستمولوجيا، وفروع أخرى من الفلسفة بجانب اشتغاله بالعلم.»
22
والفكرة الأساسية عند بيرس هي أن الوظيفة الوحيدة للفكر تنحصر في النتيجة العملية المثمرة التي يتمخض عنها الفكر. ويشترك وليم جيمس (1842-1910م) مع بيرس في هذه الفكرة الأساسية، وهي أن الفكر لا يكون مفيدا وله معنى يمكن فهمه، ولا يكون له مصداقية إلا من خلال علاقته بغاياته، فالمعرفة بالنسبة لهما ليست تأملا ولا حدسا، بل هي فعل وعمل.
Неизвестная страница
وربما كان بيرس ووليم جيمس هما أول من «عرض بوضوح الاتجاه المميز للقرن العشرين في النظر بعين الاعتبار للمعنى، ووضعه في قلب الفلسفة، ففي اعتقادهما أن الفكرة الموجودة في العقل لها وظيفة تكيفية تتجلى في الفلسفة وفي نظرية المعنى»،
23
وهذه هي إحدى آثار نظرية دارون التطورية. ولوليم جيمس إسهاماته في ظهور البراجماتية على الساحة الفلسفية، على الرغم من أنه ليس مؤسس هذه النزعة (مثل بيرس)، ولا هو الذي قدمها بشكل محدد (مثل جون ديوي)، ولكن قوة شخصيته ونشاطه لعبا دورا حاسما في الأثر الذي طبعته البراجماتية على معاصريه. ومحاضراته عن البراجماتية يؤرخ بها لبداية هذا التيار الفلسفي كحركة واضحة المعالم، خاصة في بحثه عن مفهوم الصدق، فبعد أن اختلف الفلاسفة طويلا حول طبيعة الصدق، جاء جيمس ليؤكد أن الفكرة الصادقة هي التي تتلاءم مع غيرها من الأفكار التي تثبت صحتها عمليا. وتصبح الفكرة حقيقية عندما تثبت التجربة أنها صالحة ومفيدة.
ثم يأتي جون ديوي (1859-1952م) أحد الفلاسفة الثلاثة الذين طوروا البراجماتية بما له من وعي عميق بالبعد الاجتماعي للفكر الفلسفي. فقد أدرك أكثر من أسلافه ليس فحسب قيمة التفاعل بين الفلسفة والأنشطة الثقافية الكبرى، بل أيضا قيمة الفلسفة ذاتها ومواجهتها المستمرة مع السياسة والتعليم. مما جعل لفلسفته تأثيرا عظيما على الحياة الأمريكية، فقد «ذاعت شهرة جون ديوي على الأخص باعتباره مفكرا تربويا يروم إصلاح مناهج التربية على أساس آراء اجتماعية متشددة في شأن الطابع الاجتماعي للتربية. وقد كانت فلسفته لمدة طويلة أقوى قوة عقلية في تلك البلاد التي تعبد التكنولوجيا، ولم تعرف خبرة التقدم العلمي على النحو الذي عرفته أوروبا.»
24
لقد شارك جون ديوي زميليه بيرس وجيمس في المبدأ العام للبراجماتية، وهو أن الفكرة خطة عمل ، وأنها - أي الفكرة - لن تكتسب أية قيمة إلا حين تثبت أنها قابلة للعمل، وقادرة على تحقيق نجاح تلك الخطة، ولكن لفلسفة ديوي مفتاح آخر مختلف وهو مفهومه عن الخبرة وتأثره بالنزعة السلوكية، والخبرة عنده هي خبرة بالطبيعة؛ لأنه لا توجد - في رأيه - معرفة حقيقية غير التي يأتي بها منهج العلوم الطبيعية؛ ولذلك فهو يرفض كل الأفكار التي تتعالى على الطبيعة، ويتجه مباشرة إلى الخبرة.
ولعل أهم إسهام قدمه ديوي في تطور البراجماتية هو نظريته في التربية ورفعه شعار التعليم بالممارسة؛ فالتربية الواعية هي إعادة بناء مستمر للخبرة، وأن الأفكار لا تكون أفكارا حقيقية إلا إذا كانت أدوات أو ذرائع نستعين بها في حل المشكلات التي تواجه الفرد والمجتمع على حد سواء. ولا غرابة في أن تنشأ الفلسفة البراجماتية وتجد صدى لها - بل وتحقق نجاحا باهرا أيضا - في مجتمع يحكمه منطق القوة والنجاح كالمجتمع الأمريكي، ولكنه ليس بالضرورة هو أفضل المجتمعات. وربما لهذا السبب أيضا لم تجد البراجماتية رد فعل إيجابي في المجتمعات ذات القيم المثالية العريقة؛ لأن ربط الأفكار الحقيقية والصادقة بآثارها العملية سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة استدعى استبعاد كل القضايا الأخلاقية وأحكام القيمة، بل وبعض قضايا العلم أيضا من دائرة الحق والصدق. كما يحصر الفكر الفلسفي في الجانب العملي الذي يحقق منفعة مباشرة، ويزعم بغير حق أن الحقيقة مساوية للنجاح والتأثير العملي. والأبعد من هذا أن البراجماتية بهذا المفهوم تهدم الهدف الأسمى للفلسفة، وهو البحث عن الحقيقة ذاتها، أي البحث المنزه والمجرد من كل غاية أو هدف أو منفعة عملية، وربما كان هذا هو الجانب السلبي من المنهج البراجماتي، لكن هناك بغير شك جانبا إيجابيا يتمثل في نزعتها النقدية للمطلقات المثالية والميتافيزيقية، كما تتمثل أيضا في ترجمتها للأفكار إلى فعل وسلوك عملي، وتوجهها بوجه خاص نحو آفاق المستقبل. (3-3) الفلسفة التحليلية
أحدثت الفلسفة التحليلية ثورة في تاريخ الفكر الفلسفي - كما يقول آير - بانتقاله على أيدي التحليليين من البحث في مجال الموضوعات والأشياء إلى مجال آخر يبحث في الألفاظ والعبارات التي يستخدمها العلماء والفلاسفة. ولم تكن الفلسفة التحليلية مذهبا، بل هي منهج في البحث اهتم اهتماما شديدا بالتحليل اللغوي بهدف إضفاء الوضوح والدقة على لغة الفلسفة، والكشف عن حقيقة الكثير من مشكلاتها، وجورج مور (1873-1958م) هو رائد النزعة التحليلية في الفلسفة المعاصرة، وهو يمثل مع رسل وفيتجنشتين المدرسة التحليلية التي يطلق عليها اسم الواقعية الجديدة. والتحليل عند مور ينصب على التصورات أو الأفكار والمفاهيم، وليس على الألفاظ أو العبارات اللغوية. كما اصطنع رسل منهجا للتحليل للوصول إلى المكونات الأساسية التي يتألف منها الفكر عن طريق التحليل اللغوي، وأيضا عن طريق تحليل المفاهيم والتصورات الرياضية وتحويلها إلى مفاهيم منطقية. وقد حصر رسل مهمته في أن «يمنطق الفلسفة كلها، من أجل أن تقلع الفلسفة عن دراسة الوجود الكلي، وأن تقنع بدراسة الوجود العام، وهو الوجود المنطقي الذي أراد أن يحصر فيه الفلسفة كلها»،
25
فالمعروف أن السمة الأساسية التي تجمع بين فلاسفة التحليل هو عداؤهم الشديد للفلسفة المثالية والميتافيزيقا بوجه خاص.
Неизвестная страница
تتحول الفلسفة كلها على يد فيتجنشتين - الذي يحتل مكانة عظيمة الشأن، في النزعة التحليلية - إلى تحليل للغة. وقد تجاوز تأثيره الفلسفة التحليلية ليتبوأ موقعا هاما في الفلسفة المعاصرة، ففلسفته المتأخرة وخاصة في كتابة «بحوث فلسفية» فتحت «آفاقا جديدة أفاد منها علم اللغة والعلوم المتصلة به، ولم يقتصر الأمر على اكتشاف الفروق الأساسية بين لغة العلم ولغة الفلسفة ولغة كل يوم، وإنما تعداه إلى الاختلافات المتنوعة بين اللغات، واختلاف العناصر المكونة داخل كل لغة على حدة، وتعدد الألعاب اللغوية حسب القواعد المستخدمة في كل لعبة بمفردها.»
26
ولا ترجع أهمية فيتجنشتين إلى تأسيسه لمنهج جديد للتحليل المنطقي للغة، بل تمتد أيضا إلى إثارته للقضايا «بطريقة نقدية أصيلة أخرجتها من دائرة «التسليم»، ووضعتها في دائرة «الإشكال»، وبذلك استحقت أن تكون رافدا هاما من روافد النزعة النقدية الغالبة على التفكير الفلسفي المعاصر.»
27 (3-4) الوضعية المنطقية
ظهرت الوضعية المنطقية حوالي عام 1922م بالتقاء مجموعة عرفت باسم حلقة فيننا، وكان لكتاب فيتجنشتين «رسالة منطقية فلسفية» أثر كبير على أعضاء هذه الحلقة، كما كان أيضا لمنطق رسل وطريقته الفنية في التحليل أثرها العميق عليهم، ولقد «اختار الوضعيون المناطقة لفظة «منطقي» ليشير إلى اهتمامهم بالتحليل المنطقي للمعرفة، ولكل نتائج العلم والحياة اليومية لإضفاء الوضوح عليها، وشرح العلاقة التي تربط هذه النتائج.»
28
وللوضعية المنطقية بعض السمات الخاصة التي أثارت حولها الكثير من الجدل والخلاف في النصف الأول من القرن العشرين منها: رفض الفلسفة التقليدية بما في ذلك رفض الفلسفات المثالية والميتافيزيقا لحساب العلم والتفكير العلمي. ويرجع رفض الوضعيين المناطقة للمثالية إلى أنهم ورثة بيرس من ناحية، ورسل من ناحية أخرى، وقد حصروا الفلسفة في وضع أسس التفكير العلمي أو خدمة العلم الوضعي، وربطوا التراث التجريبي بالتطور الجديد في المنطق.
من أهم المشكلات التي أثارتها الوضعية المنطقية مشكلة «مبدأ التحقق»
Verification ، ويقوم هذا المبدأ على أن الأحكام أو العبارات التي «لا نستطيع إثباتها بالإدراك التجريبي هي بالمعنى الحرفي للكلمة مجرد لغو؛ إذ لا يوجد أي معنى أو دلالة يمكن أن تنسب إليهما ... فما يمكن إثباته عن طريق الوقائع
facts
Неизвестная страница
هو وحده ما يمكن أن يكون له معنى ... ولقد طبق الوضعيون المناطقة هذا المبدأ على رفضهم للميتافيزيقا»،
29
باعتبار أن قضاياها هي من قبيل ما لا معنى له. وينسب أعضاء حلقة فيينا هذا المبدأ إلى فيتجنشتين، والذي كان له أكبر تأثير عليهم خاصة في كتابه «رسالة منطقية فلسفية» - وهو الكتاب الذي كان نقطة تحول في تاريخ الفكر الفلسفي المعاصر - والذي انتهى فيه إلى أن «مشكلات الميتافيزيقا والفلسفة التقليدية قد نشأت عن إساءة فهم منطق اللغة، وأن تحليل لغة العبارات والقضايا قد بين أن معظمها ليس كاذبا، وإنما هو خال من المعنى.»
30
يعد كارناب (1891-1970م) أبرز ممثلي الفلسفة الوضعية، وصار المتحدث باسم حلقة فيينا إلى أن فقدت الحركة زخمها من الناحية الفلسفية عام 1936م، وتشتت أعضاؤها بموت بعض روادها ومقتل شليك، وهجرة بعض أعضائها إلى بريطانيا، والبعض الآخر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ويمكن القول إن المرحلة الأولى من الوضعية المنطقية قد خبت وانطفأت شعلتها للأسباب السابقة، وبسبب انصراف الحركة الفلسفية عنها - بعد أن كانت تشغل مكانا متميزا في فلسفة القرن العشرين - كنوع من الاحتجاج على دوجماطيقية أعضائها، ولكن هذا لا يعني أن الوضعية المنطقية قد انقرضت أو انتهت تماما، وإنما تطورت عند كارناب أفضل ممثليها وأنشطهم، وخاصة في دراساته في السيمانطيقا أو علم المعاني، التي يتجاوز فيها التحليلي المنطقي للغة.
وربما يكون الدرس الوحيد المستفاد من غلو هذه المدرسة في مرحلتها الأولى أنه ليس هناك رأي قاطع وحاسم في الفلسفة، وكما أن هناك مبدأ التحقق من الصدق؛ فهناك أيضا مبدأ التكذيب - الذي قال به بوبر - والذي يعني أن القضية أو النظرية تظل صادقة، حتى تظهر قضية أو نظرية أخرى تكذبها. وإذا كان للوضعية المنطقية تأثير إيجابي في الحياة الفلسفية المعاصرة، فهو بلا شك أنها دفعت الدراسات المنطقية دفعة هائلة نحو التجديد، كما أنها برفضها للميتافيزيقا نبهت الفلاسفة إلى ضرورة إعادة النظر في استخدامهم للعبارات الفلسفية الفضفاضة، وأن عليهم أن يقدموا نماذج للأفكار تتسم بالدقة والوضوح، وأن يصوغوا عباراتهم الفلسفية صياغة لغوية دقيقة. (3-5) فلسفة الظاهريات (الفينومينولوجيا)
كان للفلسفة التحليلية عند مور ورسل وفيتجنشتين أثر كبير على فلاسفة البلدان الناطقة بالإنجليزية، بينما ساد في أوروبا نظام من التفلسف برز في الوجودية الألمانية، والوجودية الفرنسية وكلاهما تأثر إلى حد كبير بفينومينولوجيا هوسرل - وهي مفتاح تطور الوجودية المعاصرة - فكان الاختلاف شاسعا بين الفلاسفة التحليليين من ناحية، والفلاسفة المهتمين بالتراث الأوروبي المعاصر من ناحية أخرى، بحيث يصعب على كلا الفريقين الاتصال بالآخر. ورفضت الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة أن تنظر للفلسفة باعتبارها علما تجريبيا، وكان هوسرل (1859-1938م) أحد حاملي لواء هذا الاعتراض، الذي بدأ فلسفته بالهجوم الشرس على علم النفس، بل جعل هدفه تدمير النزعة السيكولوجية في المنطق، والهجوم على المثالية والوضعية التجريبية، وقدم منهجه في الظاهريات.
الظاهريات هي أحد التيارات الهامة في فلسفة القرن العشرين التي سادها الاعتقاد بأن الفلسفة ليست كالعلوم الطبيعية أو الواقعية، وأنها لا يمكن أن تستخدم مناهج تلك العلوم. ولذلك فإن أهم سمتين أساسيتين من سمات الفينومينولوجيا هي أنها منهج في المقام الأول «ينحصر في وصف الظاهرة أي ما هو معطى مباشرة ... ومن جهة أخرى فإن موضوعها - أي الفينومينولوجيا - هو الماهية
essence
أي المضمون العقلي المثالي للظواهر، الذي يدرك في إدراك مباشر، هو رؤية الماهيات.»
Неизвестная страница
31
وقد عارض هوسرل بهذا الفلسفة الكانطية التي تنكر معرفة الماهيات. واستطاع أن يؤسس فلسفة جديدة في الفكر الغربي في القرن العشرين، يمكن القول بأنها فلسفة البدايات الأولى التي لا تفترض مسبقا معرفة قبلية بالأشياء، بل تقوم بتجربة الأشياء في الشعور كظواهر محضة. الفينومينولوجيا - إذن - هي علم دراسة الظواهر أو المعطيات التي تتكشف في الوعي، وجعل هوسرل مهمته إيجاد المنهج الفلسفي الذي يستطيع رؤية الماهيات أو حقيقة الموضوعات العينية.
والماهيات ليست ماثلة أمام الذهن أو الوعي، ولكن بلوغها لن يكون إلا من خلال مراحل متدرجة هي مراحل المنهج الفينومينولوجي الذي ليس استنباطيا ولا تجريبيا، بل هو منهج استبطاني ليس بالطريقة السيكولوجية، وإنما يتم من خلال عمليات ثلاث تبدأ بالاستغناء عن كل المعلومات السابقة عن الشيء، وبالتوقف عن الحكم، ووضع بعض عناصر المعطى - وهي العناصر التي لا تهتم بها الذات، بحيث لا يبقى لها إلا ما هو معطى من الموضوع - بين قوسين واستبعادها من التأمل، أي تقويس العالم، والانصراف بالوعي إلى الماهية الخالصة، وهذا ما يسميه هوسرل بالرد الترنسندنتالي، ولكن الوعي لا يكون إلا وعيا بشيء ما، أي أن للوعي طابعا قصديا، ونشاطاته نشاطات قصدية. والقصدية هي الفكرة الأساسية في فلسفة الظاهريات. ويتجاوز الوعي الصفات العارضة وينفذ إلى الماهية، وهو ما يسميه هوسرل بالرد الماهوي، بمعنى الوصول إلى ماهية الشيء، ثم البحث عن معنى أو دلالة الظاهرة. بمعنى آخر يمكن أن نقول إنه تتم عملية حفر للوعي أو - إذا استعنا بتعبير فوكو - أركيولوجيا الوعي.
مهمة الفيلسوف الفينومينولوجي إذن هي بحث الظاهرة الماثلة أمام الوعي أو الشعور الذي يتوجه إليها، ويقصدها «بأفعاله القصدية، وغدت رؤية الماهيات وتحليلات المعنى هي أدواته في البحث.»
32
ولعل ما أسفر عنه هذا المنهج هو نوع جديد من المثالية، أطلق عليه المثالية الذاتية المتعالية. إن الحقيقة الوحيدة والمطلقة في هذا المنهج هي الذاتية المتعالية التي يعتمد عليها كل وجود آخر في العالم، بحيث يمكن أن نقول إنها ذروة الذاتية بعد ديكارت، بل هي تعميق للذاتية والارتفاع بها. فإذا ما اندثر كل شيء في العالم سيبقى الوعي صانع الماهيات والحقائق. وربما لهذا السبب أيضا تعرضت فلسفة الظاهريات للنقد كشكل من أشكال المثالية الذاتية، فهي كفلسفة للباطن قد أكدت «عجز كل الفلسفات المثالية الذاتية عن التأثير في حركة الواقع التاريخي والاجتماعي»،
33
ولكنها من ناحية أخرى كانت شهادة بإفلاس العقل الغربي، وعودة إلى الشعور الفردي الحي؛ فقد أيقظت الوعي بالأشياء والعالم والتجربة الحية. وبرؤية الماهيات من خلال الوعي أو الشعور تصبح الحقائق حية.
إن أثر الفينومينولوجيا على الفلسفات الأخرى يؤكد الجانب الإيجابي منها، فهي كمنهج - أكثر منها فلسفة - تعد منهجا خصبا أثر على العديد من فلسفات العصر، وطبق تطبيقات مثمرة في مجالات مختلفة؛ لقد أعطى هوسرل إشارة البدء من جديد لعلوم كثيرة منها «علم النفس، دراسة العقل، والمنطق، وفلسفة الرياضيات، والقانون، والعلوم الاجتماعية، وفلسفة الفن والأخلاق وفلسفة الدين.»
34
Неизвестная страница
هذا بالإضافة أيضا إلى تأثيرها العميق - كما سبقت الإشارة - على الفلسفات الوجودية، وفلسفة اللغة، وفلسفة التأويل أو الهرمنيوطيقا، وتأثيرها غير المباشر على أعضاء مدرسة فرانكفورت. وعلى الرغم من تأثير فلسفة الظاهريات في تيارات متعددة وبعثها للحياة في حقول بحثية جديدة، إلا أنها تعد أقل الفلسفات حظا من الانتشار والفهم أيضا. وربما يعود هذا إلى غموضها من ناحية، وصعوبة التعامل مع مفاهيمها المخالفة للنظم الفلسفية السائدة حينذاك من ناحية أخرى. فهي ما تزال غير معروفة معرفة كافية بالمقارنة مع التيارات الفلسفية المعاصرة لها، والتي حظيت بانتشار واسع ودراسات وافية، وإن لم تكن تفوقها عمقا وقدرة على التأثير. وعلى الرغم مما تحتويه كتابات هوسرل من تحليلات دقيقة وعميقة إلا أن «المؤرخين لم يضعوا أيديهم بعد على كل ما يشكل قيمة هذه الكتابات التي تعد نبعا عظيما للمعرفة، ولم يحددوا بعد مدى قوة فائدتها، ويظهر أن كتابات هوسرل (التي ما زالت تنشر تباعا حتى اليوم) في طريقها إلى أن تصبح مصدرا أساسيا معتمدا من مصادر الفلسفة الغربية ترجع إليها الأجيال القادمة في الحضارة الغربية.»
35
هكذا فتح البحث الفينومينولوجي آفاقا جديدة جعلته أحد المنابع الرئيسية للتفكير الفلسفي للحضارة الغربية في القرن العشرين. وكما جاءت الظاهريات ببعض وجهات النظر النقدية - الجذرية - للفلسفات السابقة عليها، وزعمت أنها فلسفة البدايات، وكانت صيحتها على لسان هوسرل بالرجوع إلى الشيء نفسه، وكما وجه نقده اللاذع للوعي الأوروبي وأزماته، محاولا البدء من الوعي - تعميقا لفلسفة ديكارت - وكما وجهت الفينومينولوجيا نقدها للمثالية والتجريبية والنزعة النفسية في المنطق، فإن هناك بعض الانتقادات التي وجهت إلى الظاهريات نفسها وعرضتها للنقد لاستغراقها في استبطان الوعي وإغفالها إلى حد كبير للبعد الاجتماعي، وتحويلها للفلسفة إلى نوع من الاستبطان المنطقي المعرفي الذي انتهى إلى مثالية ذاتية متعالية بعكس الهدف الأصلي لهذه الفلسفة. (3-6) الفلسفة الوجودية
كان للمنهج الفينومينولوجي أكبر الأثر على الفلسفة الوجودية التي كان لها حظ كبير من الشهرة والانتشار - خاصة فيما بعد الحرب العالمية الثانية - يفوق بكثير الأصول التي نهلت منها. لقد كانت رد فعل قوي على المذاهب العلمية والفلسفات التي حاولت أن ترسخ في الأذهان فكرة المطلق. وإذا كان نيوتن «قد وضع أساس المطلق في العلم. وجاء هيجل ليؤكد فكرة المطلق في الفلسفة، فقد جاء عدد من المفكرين وركزوا على التجربة الإنسانية الفردية الحية التي تتمتع باستقلال ذاتي.»
36
ونقطة البدء في الفلسفة الوجودية هي الإنسان الفرد بمفارقاته الفردية، والمواقف التي يخوضها مع الحياة، وتحليل الوجود الإنساني إنما يبرهن على أن الموجود (الإنساني) هو الذي يتساءل عن الوجود.
تتعدد تيارات الفلسفة الوجودية وتتباين فيما بينها، على الرغم من أنها نبعت جميعا من مصادر واحدة، وإلى جانب تأثير المنهج الظاهرياتي على جميع فلاسفة الوجود - بصفة عامة - فقد كانت لفلسفة الحياة بصماتها أيضا، بالإضافة إلى انتساب جميع فلاسفة الوجود إلى كيركيجورد الأب الروحي للفلسفة الوجودية. وأهم أعلام التيار الوجودي هم جابريل مارسيل، وكارل ياسبرز، ومارتن هيدجر وجان بول سارتر ، ويمثل ياسبرز وهيدجر تيار الوجودية الألمانية وهما اللذان تأثرا بكيركيجورد، وأضافا إليه وأخرجا فلسفته الوجودية من الوجود الذاتي بمعناه الضيق إلى الوجود العام. وهناك أيضا الوجودية الفرنسية بشقيها المؤمن والملحد، يمثل جابريل مارسيل التيار الأول، ويمثل كل من سارتر وميرلونتي التيار الثاني. وهناك اختلافات أساسية فيما بين أعلام هذه الاتجاهات تجعل من الصعب الحديث عنهم جميعا تحت مسمى واحد. ومع ذلك نستطيع أن نجمل بعض الخصائص المشتركة بين الفلاسفة الوجوديين: (1)
تنبع الفلسفة الوجودية من تجربة حية معاشة تسمى تجربة وجودية، تحمل طابعا شخصيا. (2)
الوجود هو الموضوع الرئيسي للبحث الفلسفي عند الوجوديين. (3)
يتصور الوجوديون الوجود على نحو فاعلي نشط فلا «يكون» الوجود، بل «يصير». (4)
Неизвестная страница
أن الوجوديين يفهمون «الذاتية» بمعناها الخلاق؛ فالإنسان يخلق نفسه بنفسه. (5)
يقول كل المفكرين الوجوديين بالتبعية المزدوجة، تبعية الإنسان للعالم وتبعيته للبشر. (6)
يرفض كل الوجوديين التمييز بين الذات والموضوع، بل ينبغي التعامل مع الواقع الذي يتم في تجربة القلق، وفيه يدرك الإنسان أنه محدود قاصر. وبالرغم من هذه السمات المشتركة بين الفلسفات الوجودية، فإنه توجد اختلافات عميقة بين ممثلي الوجودية، إذا أخذ كل منهم بمفرده.
37
حظيت الوجودية الفرنسية - وخاصة السارترية - بشهرة واسعة ليس في أوساط المثقفين فقط، بل أيضا على المستوى الجماهيري والشعبي، ويليها حظا من هذه الشهرة وجودية هيدجر، وإن كان انتشار هذه الأخيرة على المستوى الأكاديمي أكثر منها على المستوى الجماهيري. وعلى الرغم من هذا يعد كارل ياسبرز (1883-1969م) - الأقل شهرة وانتشارا - من بين «الفلاسفة الوجوديين المعاصرين أغزرهم إنتاجا، وأوضحهم تفكيرا، وأوسعهم اهتماما، وأقربهم إلى التفكير العام. ليس فيه غموض هيدجر ولا جفاف لغته، وليس فيه عبث سارتر.»
38
ويؤكد ياسبرز - كسائر الوجوديين - أن الإنسان هو الحقيقة الأساسية التي يمكن إدراكها في العالم، وأنه موجود في مواقف عينية واقعية في الحياة. وأن الوجود «انفتاح على العالم، ولن يتحقق - أي الوجود - إلا في الفعل والسلوك، ونقابل هذا الانفتاح في المواقف الحدية (مثل الموت والألم والصراع والخطيئة)، وفي الوعي التاريخي، وفي الحرية، وفي التواصل مع الآخرين.»
39
يتحقق وجود الإنسان إذن في لحظة خروجه من حال الإمكان إلى حال التحقق، وهو بهذا يحقق معنى الحرية التي هي جوهر الوجود الماهوي عند ياسبرز.
ثم يأتي مارتن هيدجر (1889-1976م) الممثل الآخر للوجودية الألمانية، والأكثر شهرة من سلفه، ويعلن أن نقطة البدء في فلسفته هي الموجود - هناك
Неизвестная страница
Dasein
ليبدأ مرحلة جديدة في فهم الإنسان. ويبدأ أيضا بحثه عن «الوجود الأصيل» مسقطا بذلك مشكلة وجود العالم الخارجي؛ لأن الموجود هناك بطبيعته موجود في العالم، وبحثه عن وجوده الخاص يرتبط ببحثه عن الوجود العام. وينطلق هيدجر في «تحليلاته الأنطولوجية للوجود الإنساني من الحياة اليومية أو «الموقف الطبيعي» الذي نحياه جميعا. وهذه التحليلات للوجود-في-العالم، والوجود بالقرب من الأشياء والمعية والأداتية ... إلخ تعد من أثمن ما قدم هيدجر للحياة الفلسفية.»
40
مما جعله يمثل تحولا بارزا في الفكر المعاصر خاصة في كتابه «الوجود والزمان» الذي يعتبره بعض الباحثين بداية عصر جديد من التفلسف كان له أكبر الأثر على بعض التيارات الفلسفية في القرن العشرين.
يؤكد هيدجر أن المنهج الوحيد الملائم للتحليل الوجودي هو المنهج الفينومينولوجي، ولكنه لم يأخذ بمفهوم هوسرل للظاهريات «كفلسفة ترانسندنتالية تصل في مراحلها التكوينية الأخيرة إلى رد كل شيء إلى الأنا (الذات أو الوعي) الخالص الذي يبقى ولو فني العالم كله ... ولكنه يعلن تنصله من الظاهريات فلسفة واتجاها، واستفادته منها منهجا وطريقا للكشف عن أشكال الوجود.»
41
وكأن فلسفة الظاهريات تقوم عند هيدجر بدور عمل التأويل، وهي تدرس الكينونة من أجل تفسير تركيبها وتكوينها، وتصبح الفلسفة نظرية أنطولوجية فينومينولوجية عامة، تنتج عن تأويل «الموجود-هناك».
42
مهمة التحليل الأنطولوجي إذن عند هيدجر هي الكشف عن الوجود الإنساني بصفة عامة، أي وجوده-في-العالم، بمعنى أنه يمضي من تحليل الموجود إلى تحليل الوجود.
والوجود - في - العالم عند هيدجر يعني أن الوجود البشري قذف به على غير إرادته في عالم ليس من صنعه، وفي محاولته - أي الموجود البشري - المستمرة للخروج من ذاته يصطدم بعالم الأشياء والأدوات ليحقق إمكانياته، ويكون ما لم يكنه، والموجود البشري لا يوجد في العالم فقط، بل أيضا مع الآخرين. والقلق الوجودي - وليس السيكولوجي - هو ما يميز حياة «الموجود-هناك»، وهو الحالة الانفعالية التي تتكشف فيها حقيقة الوجود، وأنه وجود للموت، وأن الموت هو أعلى إمكانيات «الموجود-هناك» وهي إمكانية انتهائه وموته. ومفهوم هيدجر عن الموت يفترض كذب المفهوم الأفلاطوني، المسيحي، بمعنى انفصال الجسد الفاني عن الروح الخالدة، فالموت عدم مطلق، سقوط في اللاشيء. وكما ألقي الإنسان في العالم بدون هدف أو معنى، فهو يلقى به أيضا للموت وبدون أن يكون لمجيئه أو رحيله معنى.
Неизвестная страница
43
فالإنسان محكوم عليه بالموت، والموت هو عبور «الموجود-هناك» إلى حيث لم يعد هناك وجود.
كانت الوجودية الفرنسية هي التيار الآخر للفلسفة الوجودية، وقد انقسم هذا التيار نفسه - كما سبق القول - إلى تيارين متعارضين، أحدهما ديني كاثوليكي ويمثله جابريل مارسيل (1889-1973م)، والآخر ملحد ويتزعمه سارتر. لن نقف عند الأول، أعني جابريل مارسيل؛ لأنه لم يؤسس نظاما فلسفيا، ولم يترك سوى تأملات على شكل يوميات، وهو أقرب إلى كيركيجورد من كل ممثلي الفلسفة الوجودية، ولم يكن له شهرة ولا تأثير سارتر، القطب الآخر للوجودية الفرنسية، الذي تجاوز تأثيره ساحة الفكر الفرنسي إلى بلدان أخرى كثيرة، ومنها بعض البلدان العربية التي حظي فيها باهتمام كبير وحركة ترجمة واسعة لأعماله.
تطورت فلسفة سارتر (1905-1980م) على مراحل ثلاث تأثر فيها بثلاثة فلاسفة هم هوسرل وهيدجر وماركس. كانت المرحلة الأولى من هذا التطور سيكولوجية ظاهرية، والمرحلة الثانية أنطولوجية، ثم المرحلة الثالثة وجودية ذات ميول ماركسية. وأثمر هذا التطور الأخير ما يعد أهم كتب سارتر وهو «نقد العقل الجدلي» الذي أدرك فيه البعد التاريخي للوجود الإنساني مما أتاح الفرصة لإقامة فلسفة أساسها عقل جدلي يدرك أن حقيقة الإنسان متغيرة، ولن تتوقف عن الصيرورة.
وإذا كان الإنسان عند هيدجر هو الكائن المحكوم عليه بالموت، فهو عند سارتر محكوم عليه بالحرية؛ لأنه هو الذي يختار أن يصبح أو يصير. وكما يقول سارتر في الوجودية والنزعة الإنسانية، أن الإنسان مسئول عن وجوده ونوعه، وكذلك مسئول عن كل البشر في كل اختيار أو قرار له. ومبدأ الوجود عنده، الإنسان هو ما يصنعه بنفسه! الإنسان مشروع
Man is Project .
44
والإنسان يوجد بقدر ما يحقق ذاته وإمكاناته في أفعال ملموسة، بمعنى آخر أن الإنسان هو مجموع أفعاله.
يعود الانتشار الواسع للفلسفة الوجودية في منتصف القرن العشرين - إلى الحد الذي أصبحت معه «موضة العصر» - إلى أنها تعبر عن أزمة مبادئ وقيم مرحلة ما بين الحربين العالميتين، لقد وضعت المبادئ الأساسية للفلسفة التقليدية بكل قيمها وحقائقها موضع التساؤل، معتبرة مشكلة الإنسان المشكلة الأساسية. فقد عاد الفلاسفة الوجوديون بتاريخ الفلسفة إلى السؤال عن مصير وماهية الإنسان، والسؤال عن معنى الوجود أو حقيقته بعد أن طغى الطابع العلمي على فلسفات القرن التاسع عشر، واختزلت الوجود الإنساني وقصرته على الوجود المادي، فجاءت الفلسفة الوجودية لتبحث عن ماهية الوجود الإنساني من حيث وجوده - في - العالم، ووجوده مع الآخرين ومن أجلهم. وربما كان هذا سببا قويا في انحسار الفلسفة الوجودية - فيما بعد - واتهامها بإهمال الجانب العقلي في الإنسان باعتباره عصب الثقافة الأوروبية القائمة على العلم.
حدث نوع من الانحسار للفكر الوجودي بعد موت كل من هيدجر وسارتر، وبقيت قيمة فلسفة هذا الأخير في كونها أعمالا أدبية. أما عن فلسفة هيدجر فنستطيع أن نقول إنها من النوع الذي يتم اكتشاف كنوزها، وتزداد أهميتها بعد موت أصحابها، فعلى الرغم من انحسار التفكير في الوجودية كفلسفة، بقيت قيمة فلسفة هيدجر في أنها تولدت عنها فلسفات أخرى أثارت الكثير من الجدل، وأحدثت تغييرا جذريا في مسار التفكير الفلسفي في الثلث الأخير من القرن العشرين، وأقصد بوجه خاص تأثير فلسفة هيدجر - لا سيما في تحليلاته لبعض نصوص الفلاسفة قبل سقراط والنصوص الشعرية لهيلدرلن وغيره - على كل من فلسفة التأويل أو الهرمنيوطيقا والنزعة التفكيكية. وفيما بين التأثير الفعال والتراجع والانحسار تعرضت الفلسفة الوجودية للكثير من النقد، على الرغم من أنها قامت في الأساس لتوجيه النقد للفلسفات السابقة عليها، وعلى الرغم أيضا من زعم أحد روادها (أعني هيدجر) أنه تجاوز الميتافيزيقا الغربية، وأنه يؤسس فكرا جديدا للوجود. على الرغم من كل هذا فإن الوجودية نفسها لم تسلم من سهام النقد الموجه إليها باعتبارها نزعة معادية للعلم. وكانت فلسفة هيدجر في بعض جوانبها مرتعا خصبا لهذا النقد، خاصة في إغفالها البعد الاجتماعي والسياسي في حياة الموجود الفرد، وانغلاق فلاسفة الوجود بصفة عامة في الفردية الذاتية - باستثناء سارتر - إلى حد تجاهل الواقع الجدلي المتحرك حولهم. وقد كان هذا الجانب هو الأساس الذي ارتكز عليه نقد أعضاء مدرسة فرانكفورت لفلسفات الوجود. (3-7) النظرية النقدية
Неизвестная страница
امتد تأثير بعض أفكار فلسفة الظاهريات وفلسفة الحياة وفلسفات الوجود إلى تيار آخر ساد في أواخر الثلاثينيات من هذا القرن أطلق عليه اسم التيار النقدي، وانطلق من «معهد البحوث الاجتماعية» بمدينة فرانكفورت، ومن هنا أطلق على هذا التيار اسم «مدرسة فرانكفورت»، واحتفظ بهذا الاسم حتى بعد أن هاجر أعضاؤه - في فترة الحكم النازي - إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ثم بعد عودتهم مرة أخرى إلى بلادهم عام 1951م. اتخذ أعضاء هذه المدرسة من التحليل النقدي منهجا لهم فعرفت باسم «النظرية النقدية»، وقد تطورت هذه النظرية على مرحلتين أساسيتين، تمت المرحلة الأولى على يد الجيل الأول من المؤسسين وهم هوركهيمر وأدورنو وماركوز وإريك فروم وغيرهم، وتطورت المرحلة الثانية على يد الجيل الثاني الذي يعد هابرماس أحد أشهر أعلامها.
إن السمة الأساسية التي جمعت أعضاء «مدرسة فرانكفورت» بجيلها الأول والثاني هو «نقد» العقلانية التقنية التي سادت الفكر الغربي في ظل الحضارة الصناعية والنظام الرأسمالي. إنها تعبير عن رفض العقلانية العلمية، وعقل التنوير بكل ما نتج عنه، وقد تبنى أعضاء المدرسة المنهج التحليلي النقدي للماركسية دون مقولاتها التقليدية. «وبلغت هذه المدرسة ذروة تأثيرها على الحياة الفلسفية والعقلية وعلى تفكير الرأي العام المثقف في أوروبا وألمانيا الغربية في النصف الثاني من عقد السبعينيات عندما تبنت حركة الطلاب المعروفة بعض أفكار النظرية النقدية وأدمجتها في أيديولوجيتها اليسارية الجديدة الرافضة لكل أشكال السلطة والتسلط.»
45
اكتفى الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت بنقد سلبيات المجتمع الأوروبي في ذلك الحين التي ذكرنا بعضها، ولكنها لم ترق إلى وضع نظرية نقد نسقية، ولم تقدم بديلا عما قامت بتوجيه النقد إليه. ولعل الدور الهام الذي لعبته هذه النظرية في مرحلتها الأولى هو تأكيدها على الدور النقدي للفلسفة. وأخيرا «تشتت أبناء الجيل الأول للمدرسة مع بداية الثمانينيات، وبقيت أفكارهم الثورية بغير أثر علمي ملموس، وانفضت عنهم حركة الطلاب المتمردين، وأحكمت الدولة قبضتها، وراحت تطارد اليسار الجديد وعلى رأسه رواد المدرسة وتلاميذهم، لكن المدرسة ظلت حية في الجيل التالي الذي ما يزال ممثلوه ممسكين بالخيوط التي نسجها الرواد، عاكفين على مواصلة تراثها النقدي الثوري وبلوة نظريتها النقدية.»
46
ويعد يورجين هابرماس (1929م-...) أهم ممثلي الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت. أفاد كثيرا من تطور العلوم الاجتماعية، وتعمق في مشكلات نظرية المعرفة وفلسفة اللغة، وبعض اتجاهات الفلسفة المعاصرة كالهرمنيوطيقا والأنثروبولوجيا الفلسفية، وانعكست كل هذه التيارات على تطويره للنظرية النقدية، أو بمعنى آخر إعادة بنائها وتزويدها بدماء جديدة، وساهمت كل اتجاهات الفلسفة المعاصرة - بالإضافة إلى التراث النقدي الذي ينحدر منه هابرماس نفسه: بدءا من كانط، وانتهاء بالجيل الأول من مؤسس النظرية - في تكوين القاعدة النقدية لفلسفة هابرماس، بحيث مكنته من «تأسيس منطلقات جديدة لنظرية نقدية خاصة به تتميز بمتانتها المعرفية والمنهجية، وتتسم بالامتداد والتواصل مع متغيرات المستقبل.»
47
وإذا كان الجيل الأول من مؤسسي النظرية النقدية قد هاجم عقل التنوير وكل ما تمخضت عنه أفكار الحداثة، فإن هابرماس دافع عن العقل، ونظر إلى الحداثة على أنها مشروع لم يكتمل بعد. وعندما نادى بعض المحدثين بأن تتخلى الفلسفة عن دور المرشد أو القاضي الذي يعين للعلوم مكانها ومناهجها ووظيفتها، وحاولوا تبرير قولهم بخلع الفلسفة عن عرشها بزعم أن الأفكار الأساسية (مثل الحقيقة والمطلق) ليست شروطا ضرورية للحياة البشرية، بل من الممكن أن تسقطها البشرية من حسابها؛ أقول عندما نادوا بذلك، تصدى هابرماس للدفاع عن دور الفلسفة وضرورة ارتباطها بالعقل، ولكنها عنده ليست دليلا للعلوم أو المعرفة، وإنما تشغل مكانها داخل العلوم، بمعنى أن الفلسفة لا تضع حدودا للعلوم ومناهجها، بل تكون هي نفسها منخرطة في هذه العلوم ومفسرة لها.
أكد هابرماس - إذن - على دور الفلسفة «باعتبارها منخرطة
Stand-in
Неизвестная страница