واشتد ضعفه وأرجف الناس بموته ... فدعا بحمار ليركبه، فهدلت فخذاه، فلم يثبت على السرج، فقال: «أنزلوني، صدق المرجفون.» وأثرت في نفسه هذه النبوءة، حتى كان يحلم بها.
يحدثنا جبريل بن بختيشوع، فيقول: «كنت مع الرشيد في قصره في الرقة، وكنت أول من يدخل عليه في كل غداة، ويتعرف حاله ... فإن كان أنكر شيئا وصفه، ثم يتبسط فيحدثني بحديث جواريه، وما عمله في مجلسه، ومقدار شربه، وساعات جلوسه، ثم يسألني عن أخبار العامة وأحوالهم، فدخلت عليه في هذا اليوم، فلم يكد يرفع طرفه، ورأيته مفكرا مهموما، فوقفت بين يديه مليا، فلما طال ذلك أقدمت عليه، فقلت: «يا سيدي! جعلني الله فداك، ما حالك هكذا؟ أعلة فأخبرني بها؛ فلعله يكون عندي دواؤها، أو حادثة في بعض من تحب، فذلك ما لا يدفع، ولا حيلة فيه إلا التسليم، والغم لا درك فيه، أو فتق ورد عليك في ملكك فلم تخل الملوك من ذلك، وأنا أولى من أفضيت إليه بهذا الخبر.»
فقال الرشيد: «ليس غمي وكربي بشيء كما ذكرت، ولكن لرؤيا رأيتها في هذه الليلة وقد أفزعتني.»
فقلت: «أذلك الغم كله لرؤيا؛ وهي إما تكون من خاطر، أو من بخارات رديئة، أو من تهاويل السوداء، وإنما هي أضغاث أحلام؛ فما هي إذا؟»
قال: «رأيت كأني جالس على سريري هذا؛ إذ بدت من تحتي ذراع أعرفها وكف أعرفها، وفي الكف تربة حمراء، قال لي قائل أسمعه ولا أرى شخصه: «هذه هي التربة التي تدفن فيها.» فقلت: «وأين هذه التربة؟» قال: «في طوس.» وغابت اليد، وانقطع الكلام.» فقلت: «يا سيدي هذه - والله - رؤيا بعيدة ... أحسبك أخذت مضجعك ففكرت في خراسان وحروبها، وما قد ورد عليك من انتقاض بعضها.»
قال: «لقد كان ذلك» ... قلت: «فلذلك الفكر خالطك في منامك فولد هذه الرؤيا، فلا تحفل بها، وأتبع هذا الغم سرورا يخرجه من قلبك.»
فسري عنه، وأمر بإعداد ما يشتهيه، ويزيد في لهوه، ونسينا تلك الرؤيا، وما خطرت لنا بعد على بال، ثم سار إلى خراسان، فلما كان في بعض الطريق ابتدأت به العلة، فلم تزل تتزايد حتى دخلنا طوس.
فذكر الرشيد تلك الرؤيا فوثب متحملا؛ يقوم ويسقط، فاجتمعنا إليه كل يقول: «يا سيدي ... ما حالك؟ وما دهاك؟» فقال: «يا جبريل أتذكر رؤياي بالرقة ؟» ثم رفع رأسه إلى مسرور، وقال: «جئني من تربة هذا المكان»، فمضى مسرور فأتى بتربة حمراء، فقال الرشيد: «هذه - والله - هي التربة التي رأيتها في منامي»، وأقبل على البكاء والنحيب، ثم مات بها، وذكر وهو يجود بنفسه قول الشاعر:
وإني من قوم كرام يزيدهم
شماسا وصبرا شدة الحدثان
Неизвестная страница