وقد كان كمال من هذا الصنف الأخير من المتكبرين، وقد رأينا بعض كبره عند العمدة، فما كان تزلفه الحقير إلا كبرا، فهو يعتقد أنه بألفاظه تلك قد طوى العمدة وضحك منه، وأنه ببعض ألفاظ لا تكلفه شيئا - فما كانت الكرامة عنده شيئا - قد بلغ من مال العمدة ما قدر لنفسه أن يبلغ في يومه هذا.
سار كمال فرحا بنفسه وبذكائه، متحسرا في الوقت نفسه على هذا الذكاء الذي أبت الدنيا إلا أن تعطله ولا تتيح له مجالا يسعى فيه، حاقدا على هذه الدنيا البخيلة، أشد حقده على ذلك العمدة الذي يهدي الفراخ السمان ليضمن لنفسه البقاء في منصبه.
ولم يطل بكمال المسير فسرعان ما التقى بفئة من القرية لا تحس به، إلا أنه هو يعتقد أنها تبغضه وتحقد عليه؛ لأنها تخافه وتخشاه، تلك هي فئة التلاميذ أولاد المدارس.
لقد كان كمال يعتقد أن هذه الفئة تحس بمبلغ علمه وتعرف أنه يزاحمها فيما تعلموه في المدارس، وأنه بذكائه وحده غني عن تلك الكتب التي يحبسون فيها عقولهم، وهم ينفسون عليه هذا الذكاء المتوقد الذي لم يمنعه من الظهور إلا زمن غادر، وفقر مرير.
وهكذا شاء كمال أن يسخر من تلك الفئة المتعالمة، فما إن رآها حتى قصد إليها في استرخاء ساخر، وعلى فمه ابتسامة تعلم أن يضعها على فمه منذ رأى شيخ الكتاب يستعملها إن أراد سخرية، وفي لسانه لفظ تعلم أن يديره منذ اتخذ الاستجداء وسيلة إلى الحياة. - أطال الله عمركم، وأخذ بيدكم وجعل النجاح نصيبكم.
وشاء أحد التلاميذ أن يتبسط مع كمال: شكرا يا أبا كمال شكرا.
ولكن تلميذا آخر يسرع بالإجابة: ولكن شكرا هذه لا تنفع يا أبا كمال، والذي ينفع ليس معنا.
ويدرك كمال ما يقصد إليه التلميذ فهو يقول : فهل أنتم مفلسون؟ - يا رب كما خلقتنا. - فاشرحوا لي آية من القرآن فأكون قد أفدت منكم علما ما دمت لم أفد مالا. - الله! أبا كمال! وهل نحن فارغون لمسامرتك؟ - أنا لا أراكم تعلمون شيئا؟ - والله إن فراغنا أحب إلينا من أن نشغله بك. - خذ يا أبا كمال قرشا وتوكل على الله مع السلامة.
ويأخذ أبو كمال القرش، وقد ازداد إيمانا أن فئة التلاميذ تخشاه وتبغضه، ولكن لا بأس بها ما دامت تدفعه عنها بالمال مهما يكن قرشا.
ويمشي كمال ليكمل دورته اليومية، فقد كان يأخذ نفسه بالعمل الكثير ويجرب ذكاءه يوميا على كل فئة من فئات القرية، وقد كان لا بد له أن يدور طوال يومه حتى لا يبغته وقت الغداء خاليا بعيدا عن الناس. وكان لا بد له أيضا أن يغشى الجامع ليقيم الصلاة في موعدها مع المصلين، فإن عدم الصلاة في القرية كبيرة من الكبائر التي لا تغتفر، وهو يحب أن يترضى عقول القوم وأن ينسرب إلى قلوبهم من أي سبيل. وقد كان كمال بعد هذه الواجبات جميعا يخلو إلى نفسه منذ الأصيل إلى الغروب في مغارة في الجبل لا يعرفها إلا هو.
Неизвестная страница