فأنت طالق يا سعدية ثلاثا، طلاقا بائنا لا رجعة فيه.
ويتنهد صالح تنهيدة عميقة وهو ينصرف عن مجلس العمدة قائلا: حسبي الله ونعم الوكيل ... حسبي الله ونعم الوكيل.
وتنفجر سعدية باكية بكاء عالي النشيج، وتنصرف عن العمدة لا يدري القوم إن كانت قد انصرفت راضية أم آلمة، ويصمت القوم فترة من الزمان ما أحسوا أطالت أم قصرت، فكأنما شاهدوا مصرع شباب أمام أعينهم، ثم يقطع العمدة الصمت قائلا: لعلنا نرتاح بعد ذلك من سعدية وصالح.
وما إن يتم العمدة جملته حتى يبدو الشيخ حسن متوكئا على ابنه صلاح وقد بدا أثر المرض على كل جارحة فيه، وراح يئن وهو يصعد درج السلم في أناة هزيلة، وما إن يراه العمدة حتى يقف فيقف الجميع. - مرحبا، مرحبا، أهلا أخي، والله العشرة لا تهون، لا تهون أبدا.
ويتقدم العمدة إلى السلم فيأخذ مكان صلاح، ويجعل من نفسه تكأة للشيخ حسن، ويسير حتى يبلغ به مجلسا إلى جواره، فيقعده ويقعد إلى جانبه ويعود القوم إلى أماكنهم، ويتابع العمدة ترحيبه: أهلا، أهلا، ألف سلامة ما لك؟! والله ما سمعت أنك مريض.
ويكون الشيخ حسن قد استجمع بعض قواه التي أنهكها المشي وصعود السلم. - مريض منذ تركتك والله، وما إن سمعت بالحوادث حتى قمت أريد أن أجيء إليك فهدني المرض، وماذا ستفعل؟ - أهذا ما جاء بك؟ - طبعا وهل كنت تنتظر غير هذا؟! البلد في شدة وأنت عمدتها إن لم نقف معك جميعا فعلى البلد السلام. - والله الشدائد حلوة، والله أخ. - طبعا وهل يمنعني عنك شيء وأنت في شدة؟ ماذا سنفعل؟ ابني صلاح أمامك مره أن يفعل ما تريد ما دام المرض يقعدني أنا، وقد أرسلت اليوم خطابا إلى فخري ليجيء، اجعل منهما خفراء، اشتر لهما السلاح، وعين لهما ما يفعلان، أموالي تحت أمرك، صلاح باع القطن وسيأتي التاجر ليتسلمه غدا، وقد دفع العربون مائة جنيه، خذها ها هي ذي، اشتر بها سلاحا للقرية، وسأحضر لك بقية ثمن القطن بعد تسلمه، أم ماذا ستفعل؟
وترقرقت الدموع في عيني العمدة وهو يرى صداقة عمره ماثلة أمامه لم يمنعها الخصام ولم تردها المغاضبة، فأقبل صديق العمر أخو الصبا والشباب والكهولة يقدم أولاده وماله، ضعف جسمه فقدم ما يغلو عن جسمه، قدم امتداد حياته، قدم آماله في المستقبل وما بعد الحياة، قدم ولديه وما لديه من مال، بل وما يرتقبه من مال أيضا، ويقول العمدة وعبراته على وجنتيه سائلة لا يردها؛ فهي عبرات يشرفه أن تسيل: بارك الله فيك يا حسن، لا شيء، لن أفعل شيئا أكثر مما فعلت أنت، وماذا يمكن أن أفعل أكثر مما فعلت أنت؟
ووجم القوم يعجبون من هذا الذي يرون وتضاءل كل منهم أمام نفسه.
وأمام هذه الشواهق العالية من الرجولة راح كل منهم يجد تعليلا فيه شيء من الدناءة لما يقوم به الشيخ حسن، لعله أن يعيد لنفسه سابق كبرها بعد أن أحست مقدار بعدها عن الرجولة الحق، فالحاج علي يقول في نفسه: «إنه تظاهر، إنه يعلم أن العمدة لن يأخذ المائة جنيه، ولن يجيش الجيوش ولن يشتري السلاح.» والشيخ رضوان يقول: «لا بد أنه يريد أن يقترض من العمدة مثل المائة الجنيه مائة أخرى ليعطيها لابنه الذي يتعلم في العاصمة.» أما نور فقد كان الأمر عنده أخطر من هذا وأجل؛ لقد رأى عصابته مهددة بهذا الشيخ الخرف الذي يريد أن يقضي عليها وهي في مهدها، وكان الأمر عنده خطيرا أيضا؛ لأنه علم أن قطن الشيخ حسن سيسلم غدا، ولا بد لهم أن يبدءوا عملهم به فيصيبوا بهذا هدفين برمية واحدة؛ فهم أولا سيبدءون عملهم الأساسي في فرض الإتاوات وسيبدءونه مع رجل من وجوه القرية، وهم أيضا سيسكتون ذلك الصوت الذي يبدو عاليا. ويهم نور بالقيام ولكنه يرى أن يلبث قليلا حتى لا يفطن القوم إليه ويذكروا قيامه هذا عندما يتم ما يزمعه، والظنين كثير الوساوس، يفيق الجمع من وجمتهم، وقد أعد كل منهم جملة نفاق يلقي بها عند قدمي الشيخ حسن، ولكن العمدة يقول: أبق عليك المائة جنيه الآن، فإن احتجت إليها طلبتها.
ويقول الشيخ حسن: ماذا؟ أتظنني جئت أعرض كلاما؟ - لا والصداقة التي بيننا، لا والله الذي لا إله إلا هو، ولكن عندي فضلة مال وما أظنني أحتاج إلى شيء الآن، فإن احتجت قلت. - ولماذا تقوم بالأمر وحدك؟ - لا والله لن أقوم به وحدي، ولكني لا أستطيع شراء السلاح قبل أن أستأذن المأمور وأطلب الترخيص، حتى إذا عزمت على الشراء طلبت منك ما تريد أن تدفع، وعلى كل حال احفظ هذا المبلغ ولا تصرفه حتى نجمع رأينا على أمر. - وهو كذلك، هذا المبلغ وأضعافه تحت أمرك، السلام عليكم.
Неизвестная страница