على ضوء لمبة نمرة خمسة نظف زجاجها بعناية حتى لا يحجب أي قدر - ولو ضئيلا - من النور، موضوعة على رف خشبي في أعلى الحائط. كانت الحجرة تبدو أنيقة مرتبة على غير ما جرت به العادة في بيوت الفلاحين. فالسرير البوصة ونصف المرتفع الذي يكاد يحتاج إلى سلم للصعود عليه نظيف ومعتنى به، و«دايره» الأسفل يحجب ما تحته من كراكيب وخزين، و«دايره» الأعلى يزين الناموسية، وفي الواجهة دولاب وإن كانت مرآته مشروخة إلا أن الشرخ رسم عليه بالإسبيداج شجرة ذات أزهار وأثمار لتخفي الشرخ. وبجوار السرير مقعد بمسندين له كسوة من قماش أبيض بولغ في تزهيره في أثناء الغسيل. والأرض وإن كانت جرداء بلا خشب أو بلاط إلا أنها مكنوسة ومرشوشة ومغطاة بطبقة رقيقة من الرمل. والقلل موضوعة في الشباك عليها أغطيتها المعدنية وفوقها شاشة زيادة في الحرص على النظافة والأناقة، بالاختصار كل شيء في الحجرة يحاول أن يبدي أحسن ما فيه.
وكان بالحجرة شخصان لا ثالث لهما، أم إبراهيم نائمة على السرير في أتم صحة وأبهى منظر، وإن كان من يشاهدها ويرى كيف تتكلم وتتأوه يظن أنها مريضة في عنفوان المرض، ولنده جالسة على الكرسي الوحيد بالغرفة مبهورة بالبيت الغريب الذي تدخله لأول مرة، تتأمل في دقة النساء كل شيء فيه وتعجب له، هي التي لا تغادر بيتهم وحجراتهم إلا في النادر حتى أصبحت مجرد زيارتها لبيت آخر - ولو بيت الشيخ «أبو» إبراهيم الفقي - حدثا تستحق من أجله أن تجلس مبهورة الأنفاس.
كانت أم إبراهيم هي التي تقوم بالعبء الأكبر من الحديث، مع أن الحديث نفسه كان قليلا. ولم يكن كلام أم إبراهيم يخرج متصلا متسلسلا كعادتها، كان يتقطع وكأن صاحبته مشغولة بشيء أو تتوقع شيئا. وكانت لنده تنصت أغلب الأحيان، وأحيانا تشارك في الحديث وترد بجملة أو بضحكة قصيرة عصبية، وكأنها خائفة من شيء أو تريد أن تخاف من شيء. والواقع أنها كانت في أبهى مظهرها، وجهها أبيض محمر قد طلي بطبقة خفيفة من البودرة لا تكاد تلحظها العين، وشعرها لامع مسرح بحيث تتدلى خصلة منه على جبهتها، وأنفها وملامحها، وتقاطيعها وكل شيء فيها أنيق جميل، رائع في أناقته وجماله لا يكاد يقاس أو يقارن بالحجرة المتواضعة الجالسة فيها، خاصة وهي ترتدي أحسن وأجد فساتينها الثلاثة، ذلك الذي فصلته في أثناء زيارتها الأخيرة لأقاربها في شبرا مصر.
كانت أم إبراهيم قد بذلت جهود الجبابرة خلال الأيام القليلة التي مضت على تلك الكلمة التي أسرها إليها أحمد أفندي سلطان عند الجامع. كانت العقبات التي أمامها ضخمة، وليس من السهل التغلب عليها، فمجرد الانفراد بلنده مشكلة فما بال الحديث الطويل إليها؟ والحديث الطويل ضروري، فلنده وإن كانت قد جاوزت سن الزواج بسنين إلا أنها من تلك الناحية خام من الدرجة الأولى، ثم إنها متعلمة وتفهم، وعلى الرغم من خبرتها فأم إبراهيم جاهلة لم تغادر أرض التفتيش قط، الحديث إذن إلى لنده أمر محفوف بالمخاطر خاصة إذا كان يدور حول أمور دقيقة ومخجلة مثل تلك.
ولكن أم إبراهيم استطاعت أن تتخطى العقبات، وعلى عكس ما توقعت استجابت لنده لكلامها بشكل لم تكن تتخيله. فأم إبراهيم كانت قد دخلت إليها من باب لا يخيب، باب الرجال وأسرارهم، الرجال، ذلك العالم المغلق البعيد كل البعد عن لنده ومسامعها، هؤلاء الآدميين الخشنين الذين يبدون أشد قوة وضراوة من أبيها وإخوتها الصغار، والذين حين تراهم تجفل رغما عنها وتكاد تجري. بدأت أم إبراهيم تحدثها عنهم - بل عن أخص خصائصهم - حديث العالمة الخبيرة، حديث الجسد الذي لا يقوله الرجال أبدا إلى النساء، وإنما يقوله الرجال بعضهم لبعض ولا تتناقله النساء إلا هما وإلا على انفراد، الحديث الذي لا يخيب في جر الألسن للحديث وفك عقد الخجل. ومن أول كلمة استجابت لنده وبدأت تصغي محاذرة أن تساهم - من قريب أو من بعيد - في الحديث، ولكنها بعد قليل بدأت تدعي الجهل أحيانا وتسأل، ربما لتتأكد، وربما لتستمتع بالكلمات تلقى على مسامعها مرة أخرى. ثم بدأت تعلق تعليقات سريعة خجلى، وأم إبراهيم ترقبها، في أثناء هذا كله، في دهاء الصائد الماهر الذي ينتظر، بصبر، إلى أن تبتلع ضحيته الطعم، ثم يبدأ يجذب برفق وهوادة ودون أن يفزع الضحية أو يروعها. وهكذا راحت أم إبراهيم تنتقل من الحديث عن الرجال بشكل عام إلى الحديث عنهم بشكل خاص، وتفرق بينهم، وتصنف، وتضع القوي في جانب والفحل في جانب آخر. وكان من الطبيعي جدا أن تبدأ في التطبيق، وأن تذكر على سبيل المثال بعض الرجال المعروفين في التفتيش، وأن يأتي ذكر أحمد سلطان، وأن تتوقف عنده أم إبراهيم طويلا وتصف ما يشاع عنه، وتضعه كأعتى مثل للرجل والفحل والذكر. هنا بدأت لنده تخجل وتكاد تغلق أذنيها عن السماع، ولكن إلحاح أم إبراهيم كان لا بد أن يتغلب على خجلها ويفتح أذنيها البكر، إلحاح خبيرة يبدو وكأنه دلال وتقل، إلحاح من تعرف كيف تتكلم ثم تصمت حين يبلغ حب الاستطلاع بسامعتها أشده، وكيف تقطع الحديث فجأة إذا رأت الخوف الحقيقي الذي يعقبه الرفض يتسرب إلى سامعتها من هول ما تقول، تاركة للأيام والساعات والتأمل المنفرد والتطلع إلى الشيء المحرم الجديد أن تفعل فعلها، وتلين الحديد، وتجعل من الممجوج مقبولا ومعقولا ومرغوبا.
وكان أن أصبحت لنده تؤمن بأشياء كثيرة، تؤمن بأن البنات يمكنهن أن يستمتعن بما تستمتع به النساء ويبقين مع هذا بنات، تؤمن بأنها تعيسة ومحرومة من أكبر سعادة، وأنها ستظل هكذا إلى أن تتزوج، ومتى تتزوج؟ الله - وحده - يعلم. وتؤمن بأن هناك شيئا لازما لجسد الأنثى هو الرجل. وكانت أم إبراهيم قد تكفلت بجعلها كلما فكرت في الرجال تقرنهم في خاطرها حتما بأحمد سلطان.
عند هذا الحد بدأت أم إبراهيم تغير النغمة، وتحمل سلامات من أحمد سلطان للست لنده. سلامات كانت تعجب لها لنده أول الأمر؛ إذ إن أحمد سلطان هذا له في التفتيش سنوات دون أن يرسل لها سلاما أو كلاما. ثم إن السلام الوحيد الذي كانت تهتز له لنده هو السلام حين كان يجيئها من صفوت، ونادرا ما كان يجيئها من صفوت سلامات.
ولكن أم إبراهيم كانت بارعة، فكانت توصل إليها السلام وكأنه شيء من وحي الساعة بلا هدف وبلا تدبير . ثم بدأت السلامات تصبح عن عمد، ثم فتحت أم إبراهيم للنده قلبها وأخبرتها أنها تريد أن تقول لها سرا خفيا لا يعرفه إنس ولا جان. ولم تبدأ بإخبارها إلا بعد أن أقسمت لنده بالمسيح والإنجيل أنها لن تخبر أحدا، وأعادت القسم لكي يطمئن قلب أم إبراهيم. حينئذ قالت لها أم إبراهيم مبهورة الأنفاس وكأنها الرجل حين يعترف لفتاة، قالت لها إن أحمد سلطان يحبها حبا لا يتصوره العقل، وأنه لا مطمع له ولا هدف أبدا من وراء هذا الحب، كل ما في الأمر أنها زارته ذلك النهار حين تعبه جنبه فباح لها - في نوبة ضعف - بسره، وطلب منها أن تكتمه دونا عن الناس جميعا، ودونا عن لنده بالذات. ولكن للصداقة قيودا وواجبات، ولم تتصور أم إبراهيم نفسها أنها تعرف شيئا خطيرا كهذا ولا تقوله لحبيبة روحها لنده. وفي أول مرة ضحكت لنده حتى كادت تموت من الضحك، ضحكا جعل قلب أم إبراهيم يدق بالاضطراب؛ إذ خوفها الأكبر كان أن تأخذ لنده الأمر على محمل الهزل فيفسد تدبيرها ويفسد كل شيء. ولنده - فعلا - كانت قد أخذت الأمر دون أن تلقي إليه بالا كثيرا؛ إذ كان شغل أحلامها الشاغل أن تتصور صفوت ابن المأمور وهو يطالعها بوجهه الحبيب إلى نفسها ويقول لها هذا الكلام. ولم تكن تتوقع أبدا أن يأتيها كلام كهذا من ناحية أحمد سلطان، مرءوس أبيها الذي لا يمكن أن يكون فتى أحلام بنت في مثل هيئتها ومركزها.
حين أحست أم إبراهيم بهذا غيرت موضوع الحديث في الحال ولم تحاول مجادلتها أو إقناعها، ولكنها عات إلى الحديث في اليوم التالي بطريق التلميح والإشارة العابرة. وفي المساء عادت تطرق الموضوع وفي كل مرة كانت تقابل فيها لنده كانت تصف لها فيها حالة أحمد سلطان وما يعانيه من وجد وهيام حتى تأكدت لنده تماما واقتنعت فعلا أن أحمد سلطان يحبها دون أدنى شك، ولكنها لم تكن تستطيع أن تفعل من أجله شيئا. قالت هذا لأم إبراهيم، وأم إبراهيم بدورها لم تعلق على قولها بشيء، وإنما ظلت تذكره لها كلما اجتمعت بها. ولكنها في يوم لم تذكر لها شيئا عن أحمد سلطان مما أثار دهشة لنده وعجبها. وحاولت لنده يدفعها حب الاستطلاع أن تدق على أطراف الموضوع من بعيد ولكن أم إبراهيم لم تستجب ولم تفتح فمها بكلمة واحدة عنه. وكادت الجلسة تنتهي دون أن يرد له على لسانها ذكر، بل وبدأت تستعد للقيام بحجة أنها لم تطبخ بعد وأن «أبو» إبراهيم زمانه عاد للبيت. وألحت عليها لنده أن تقعد وصممت هي على القيام، وحينئذ فقط قالت لنده - وكأن الأمر لا يعنيها - إن أباها سوف يكلم المأمور لينقل أحمد سلطان من بيته الملاصق لهم إلى بيت آخر، ومع أن أم إبراهيم كانت تعلم تماما أن هذه كذبة اخترعتها لنده في التو واللحظة إلا أنها ابتسمت حين سمعت هذا ورفعت ثوبها وجلست. وبدأ بينهما حديث خجل متعثر وكأن كلتيهما تخجل أن تخوض في موضوع شائك. المهم أن أم إبراهيم أدركت أن حب الاستطلاع بدأ يتحرك في حنايا لنده، وكانت تعرف أن حب الاستطلاع إذا استبد بالمرأة أصبح سيدها الأعلى الذي يحركها أنى يشاء. ومضت أم إبراهيم تغذي هذا السيد الجديد، وتصور لها أحمد سلطان وتعيد بطريقة بدأت تبلبل لنده وتلهب خيالها في ساعات وحدتها. ولكنها كانت أحيانا تشك في المر كله، وتستبعد أن يكون أحمد سلطان قد غرق في حبها كما تدعي أم إبراهيم، وفي نوبة من نوبات ذلك الشك واجهت أم إبراهيم بهذا الرأي. ووجدت أم إبراهيم في تلك المواجهة أن الموضوع قد نضج، وأن لنده قد أصبحت الآن في حالة تسمح لها أن تقول: إن ما كنتيش مصدقاني اتأكدي بنفسك. - إزاي؟ - قابليه. - يا نهار أسود!
كان هذا هو جواب لنده في ذلك اليوم، ولم تشأ أم إبراهيم أن تحرضها أو تثنيها، بل وقفت على الحياد. كل ما في الأمر أنها ظلت تؤكد لها أنها إذا أرادت هذا اللقاء فسوف يتم في السر تماما ودون أن يتسرب إلى أي مخلوق، وما عليها إلا أن تحضر إلى بيتها بأية حجة وتترك الباقي عليها هي. ومنذ ذلك اللحظة لم تعد أم إبراهيم إلى الحديث في ذلك الموضوع بالمرة، بل حتى حديثها المعتاد للنده أصبح قليلا نادرا لا تكاد تبدؤه حتى تنهيه. ترى آلاف الأسئلة في عيون لنده، أسئلة أرقتها بالتفكير فيما تعرضه أم إبراهيم، أسئلة تكاد تبرق بها ملامحها فلا تجيبها أم إبراهيم إلا بتجاهل مدرب خبيث. بل انقطعت عن الذهاب إلى بيت مسيحة أفندي ومضى يوم واليوم التالي بلا خبر عنها، وبلغ القلق بلنده أشده وأرسلت دميان يستفسر فجاءها دميان يقول إن أم إبراهيم مريضة جدا تكاد تموت. وعلى الغداء طلبت من أبيها الإذن وأذن لها وهو فرحان، فأرسلت دميان يقول لها إنها قادمة لزيارتها بعد المغرب.
Неизвестная страница