Правда
الحقيقة: وهي رسالة تتضمن ردودا لإثبات مذهب دارون في النشوء والارتقاء
Жанры
أقول: وإذا توسعت في حقيقة هذه المعاني رأيت فيها من البساطة ما يدلك على تقارب الأشياء في الطبيعة ووحدة أصلها؛ فإن صفات المادة إذا حللت إلى بسيطها دلت على صفتين، أو خاصتين، أو قوتين، وهما: الجاذبة والدافعة، وهكذا المعاني الذاتية إذا حللت إلى بسيطها دلت على أحد معنيين: جاذب أو دافع، ومحبوب أو مبغض، ومرغوب أو مرهوب، ومقبول أو مكروه، وترتسم صورة ذلك على جميع حركات الجسد.
ألا ترى كيف أن حركات الإنسان أو الحيوان المتكره من شيء تدل كلها على محاولته إبعاد ذلك الشيء عنه، وإذا أحب شيئا دلت حركاته على محاولته ضمه إليه، وكما يكون ذلك في الحركات يكون كذلك أيضا في اللغات، فإن اللغات كالحركات في الدلالة على المعاني، واللغات كالحركات موجودة في الحيوان والإنسان كوجود المعاني فيهما، إلا أن اللغات أوسع في الإنسان لاتساع المعاني واكتمال الآلات فيه أكثر منها في الحيوان.
ومن دقق النظر رأى المعاني مرسومة على الألفاظ ومبانيها كما ترتسم على سائر الحركات، فإن إباءتك للشيء جعلتك تعبر عنها في اللغة العربية مثلا بلفظة «لا»، وقبولك له بلفظة «أي ونعم». ولا يخفى ما في لفظ هاتين اللفظتين من الحركات الدالة على معنى كل منهما، فإنك بلفظك «لا» تحاول بحركات الفم كل علامات التبعيد، وبلفظك «أي ونعم» كل علامات التقريب. وقس على ذلك سائر الألفاظ في سائر اللغات، إلا أن هذه الدلالة لا تكون دائما بسيطة وواضحة كما في هاتين اللفظتين البسيطتين، بل تتنوع وتتركب كثيرا بقدر تنوع المعاني وتركبها، وربما فعلت فيها أسباب مختلطة جدا، بحيث لا تظهر لك هذه النسبة إلا عند التدقيق الكلي، أقول: وربما كان في الموضوع مبحث دقيق جدا ولذيذ للغاية عند من يحب الخوض فيه.
الفصل الثالث
صد ورد
ولا نعلم كيف جاز لك الاعتراض على قولنا: «إن الصفات الموجودة في الأجسام المركبة موجودة بالقوة في المادة البسيطة، ووجودها فيها بالقوة لا يستلزم وجودها بالفعل.» بقولك: «إن ذلك غير مشبع ومناقض لرأي الطبيعيين أنفسهم.» إلا أن تكون قد فهمت القوة في قولنا «بالقوة» كما تتصورها أنت، وإلا فليس في كلامنا ما يوجب ذلك، ولا سيما بعد أن عرفناك أن القوة والمادة في عرف الماديين شيء واحد، والظواهر أو الصفات أو القوى ليست سوى تغيرات مادية - كما قد تبين فيما تقدم، وكما يتضح أيضا مما يأتي - فإنه في فحص جميع الظواهر الكهربائية المعروفة لسنا نعرف ظاهرة واحدة لا تدل على تغير في أدق أجزاء المواد المتهيجة كهربائيتها، فإنا إذا أطلقنا محمول قنينة ليدن في سلك من البلاتين؛ نرى هذا السلك يقصر حتى يتجعد لحصول تغير في أدق أجزائه.
وكذلك يحصل في سلك من الرصاص، فتتكون فيه عقد يضغط بعضها بعضا، وسائر الأسلاك المعدنية المستعملة في الأعمال الكهربائية إذا طال استعمالها في ذلك يحصل تغير جوهري في أجزائها، فقد تتصلب، وقد تصير سهلة القصم، وكذلك مجرى المغناطيس يؤثر في مرونة الحديد والفولاذ، فإن قضيبا من الحديد ملتويا من ثقله يتقوم إذا تمغنط، وهكذا تفعل أيضا سائر القوى في الأجسام كما يسهل تبيينه، فإن القوى الميكانيكية - كالتموجات التي يحدثها الصوت في الهواء مثلا - قد تحدث تحليلا كيماويا في المواد المركبة تركيبا ضعيفا.
وأما قولك ردا علينا: «إن وجود الزوائد في بعض الحيوان - والصحيح في عالم الحيوان والنبات - التي لا لزوم لها لا يلزم منه عدم الانتظام «ولعلك تريد القصد والغاية؛ لأننا لا نذكر أنا جئنا بهذه اللفظة، واللانظام عندنا أمر نسبي لا حقيقي، كما تقدم في مقالتنا السابقة» أولا: لعدم إمكان الإنسان أن يحيط علما بكل شيء، وربما أدرك الخلف ما لم ندركه نحن.» فعلى ذلك نجيب أن علماء طبائع الحيوان والنبات لا يدعون أنهم بلغوا علم كل شيء، بل هم لا يزالون يبحثون، وكل سنة بل كل يوم يكتشفون حقائق كانت غير معروفة عندهم، وما لا يثبتونه يطرحونه بين المسائل الخلافية، وهي ليست بالعدد القليل عندهم، إلا أن ما لا يعلم سببه الطبيعي لا يزالون يعالجونه حتى تنجلي لهم الحقيقة فيه بجهد التنقيب والتنفير، فلا يطفرون فيه حالا إلى ما وراء الطبيعة، كما يفعل جزافا سادتنا الفلاسفة النظريون، الذين لا يصعب عليهم وجود سبب لكل شيء، وهم في سماء خيالهم تائهون.
على أن عدم الإحاطة علما ببعض مفردات الأشياء لا يقتضي منه نفي ما تحقق عن أكثرها، وما يترتب عليه من الكليات، ولو جاز ذلك لكان الأولى أن تسقط كليات النظريين بأسرها، فإنها لا تكاد تتفق مع شيء من قضايا العلم الذي لا تزال تعترضه في سيره، وكم رأيناها مشتبكة معه في نزاع شديد، ولم نر العلم دان لها ولا مرة واحدة، فتلتزم أخيرا أن تذل له متصرفة في المعاني والألفاظ؛ لأن دائرتها كما لا يخفى عليك واسعة فلا يضيق بها مجال، وإذا كنا نعرف من المسائل تسعين مسألة مثلا، ولكل مسألة سببا طبيعيا، وكنا نجهل أسباب عشر مسائل، أفمن العقل أن يحملنا جهلنا على أن ننتحل لهذا المجهول قوى ما فوق الطبيعة، أم من الحكمة أن نقيسه على أخواته ونلحقه بها أملا بأن ينكشف لنا سره الطبيعي يوما ما؟ على أن الأعضاء الأثرية التي نحن بصددها ليست في شيء من ذلك، فقد تقرر وجودها، وعرفت الأسباب الطبيعية لكثير منها، ووضح أمرها، وقل غامضها، وهي تنقض الغاية وتنفي القصد، وتثبت القربى بين الإنسان وسائر الحيوان. وربما بعدت هذه النسبة بين الإنسان والحيوان بالعلم، وقربت بالجهل، فكان أقربهم إليه أجهلهم بمعرفة أصله، وأبعدهم عنه أعلمهم به.
ومن العجب أنك أثبت مذهب دارون وأنت تحاول نقضه بقولك: «وقد تكون هذه الأمور فلتات طبيعية مستفادة من الظروف والحوادث والأهوية والأقاليم ونحوها.» إذ لا يخفى عليك أن الخلق على مذهبك ومذهب أنصارك كائن بالأنواع، وهذا يقتضي أولا ثبوت الأنواع، وثانيا اشتمال كل نوع على الأعضاء اللازمة له لا أكثر ولا أقل؛ لأن كل نوع خلق خصوصي مختصر في جرثومة قابلة للنمو، ومتضمنة كل صفاته الجوهرية، وإلا فلا يكون في الخلق معنى لحدوث نقصان أو زيادة فيه تأباهما الحكمة، وقد تنزه الصانع الحكيم عن كل عمل لا حكمة فيه.
Неизвестная страница