Ливанская правда: размышления и беседы
الحقيقة اللبنانية: خواطر وأحاديث
Жанры
لقد أجمع المؤرخون على القول بأنه لم يكن في المجلس الوطني المنعقد سنة 1789، والذي أعطى فرنسا دستورها الجديد، ثوري أو رجل فتنة واحد. إذن فمن هم الذين ثاروا وأضرموا نار الفتنة؟ إن الرجعيين من الطبقات الممتازة، أخذوا يحاربون بكل الوسائل، في داخل وفي خارج النظام الذي استصلحه الشعب الفرنسي، أو ارتضاه لذاته؛ ذلك أن الرجعية لم تؤت صبر الشعب وسعة صدره، فتسلم بأن هذه الأنظمة إصلاحات واجبة لا بد منها، أو على الأقل لا بأس بها؛ فطفق ذوو الامتياز من النبلاء وغيرهم، يهاجرون إلى البلاد الأجنبية، حيث عبئوا جيشا على رأسه ستة آلاف ضابط، من تسعة آلاف هم كل ضباط الجيش الفرنسي، وكان في عدادهم شقيق الملك لويس السادس عشر، وأهله الأدنون. فما الذي يتورع ذوو الامتياز عن اقترافه لحفظ امتيازاتهم، ولدوام استغلالهم، كأن الوطن «حقل » لا شركة لأحد فيه، حتى ولا للكادحين العاملين فيه؟ (يظهر أن ثمة فرقا بين الاشتغال في «الحقول» والاشتغال في «حقل الوطنية»، فكلتاهما مهنة خاصة على حدة، لها أربابها ...)
والآن، ماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة المعقولة الطبيعية أن المجلس الفرنسي اتخذ قرارا عادلا منصفا لأولئك الأشراف الذين أثبتوا - مرة أخرى في تاريخ الأمم - أن لفظة «الشرف» هذه قد تكون، في كل اللغات، من أسماء الأضداد ... وأن الملك لم يوافق على قرار مجلس الأمة، بل أخذ يعمل على استمالة أعضائه وقادة الجيش، بالرشوة وغيرها من الحيل أو الطرق غير المشروعة؛ لحملهم على مناوأة النظام الجديد، وكان في الوقت نفسه يفاوض زملاءه ملوك أوروبا طالبا النجدة. وقد حاول الفرار من باريس عاصمته، فقبض عليه وأرجع بالقوة، ثم سجن وحوكم وأعدم بتهمة ممالأة العدو والتآمر على سلامة الوطن ... زعموا أن ذلك الرجل كان ملكا بإرادة الله. أما الأمر الثابت فهو أن شعبه ضاق به ذرعا!
إن الثورة الفرنسية لم تعلن حقوق الفرنسي وحسب؛ حقوقه السياسية والمدنية، بل أعلنت أيضا حقوق الإنسان. وهكذا كانت الثورة ومبادؤها بشير خير وصلاح للأمم جميعا، حتى ليصح القول إنها ثورة إنسانية عالمية، بقدر ما هي ثورة فرنسية وطنية ... وإلا كانت كل أمة في العالم تترك للفرنسيين مؤنة الاحتفال لثورتهم، ثم تفتش لها عن ثورة أو شبه ثورة خصوصية تتسلى بها، إذا لم يكن بد من الاحتفال.
كانت الثورة الفرنسية بشير خير وصلاح وأمل للأمم جميعا، فلا عجب أن تكون في الوقت نفسه نذير ويل وخطر وخسران، للملوك والأمراء وذوي الامتياز في العالم كله. كذلك لم يلبث هؤلاء الملوك والأمراء وذوو الامتياز حتى تألبوا على الشعب الفرنسي واجتاحوا أرضه، فكانت الملحمة المجيدة التي هب فيها الشعب يذود عن وطنه وعن كرامة الإنسان، صامدا في وجه الرجعية الأوروبية، فضاربا في أقفيتها، فناشرا حيثما حل بذور المبادئ الجديدة، مبادئ الحرية والمساواة والإخاء للأفراد وللأمم على السواء.
لقد انقضى قرن ونصف قرن منذ ذلك العهد، واجتاح العدو الغاصب الأرض الفرنسية، كرة أخرى، وشهدنا في فرنسا ثورة، لكن معكوسة؛ ثورة على الشعب الفرنسي، تريد أن ترجع به القهقري. إن الرجعية حيثما كانت، تلغ في كل إناء، فلا تدع فرصة إلا اغتنمتها، وقد اغتنمت الرجعية الفرنسية، هذه المرة، فرصة هتلر القائل وهو الكاذب: «ليست الديمقراطية سوى أكذوبة.» وغوبلز الصارخ وهو ينبح القمر: «إن عام 1789 سيلغى من التاريخ.» حقا إن الرجعية حريصة على تقاليدها، فهي لم تحد قيد شعرة، عن خطة مهاجري الثورة الذين ائتمروا والأجنبي، ومشوا صفا واحدا في خدمة ملك بروسيا، لمحاربة جيوش الجمهورية الأولى. لكن للشعب الفرنسي، وهو من أعظم شعوب الدنيا ثورية واندفاعا إلى الإصلاح، تقاليده أيضا، وليس يحيد عنها قيد شعرة ساعة الخطر. إن المقاومة الفرنسية، في داخل وفي خارج، تحمل المشعل الوهاج الذي لا ينطفئ؛ مشعل الحرية وحقوق الإنسان والتقدم.
من حقكم الآن، وأنا أهم بالانصراف، أن تسألوني: (ونحن ما شأننا؟ أين مشعل تقدمنا وحريتنا، وحقوق «إنسانيتنا»؟) هذه أيضا أقصوصة من تلك الأقاصيص القديمة الجديدة؛ كالحكومات التي تروح وتجيء، والمؤتمرات التي تنعقد وتنفض، والسياسات التي تتبدل وتبقى هي هي ... كقصص الحيات لا تنتهي إذا لم يوضع لها حد.
من منكم لم ير في ساحات هذه العاصمة البهلوان الذي يزدحم الناس حوله، فيشهدهم من مخاريقه العجب العجاب؟ أنا لست أنسى صنعه بالمشعل، كيف يلوح به في الفضاء فإذا نوره يخطف الأبصار، ثم يبتلعه فإذا لا نور ولا نار! هو مشعبذ محتال، لكن انطفاء النور في فمه حقيقة مشهودة، وواقع راهن. فإذا أردتم أن تعرفوا أين مشعل تقدمكم وحريتكم وحقوقكم، فاطلبوه في حلق السياسة «الممتازة»، اطلبوه ثمة قبل فوات الأوان، فإن حلق السياسة أقرب الطرق إلى جوفها.
يأتي على كل امرئ، وكذلك على كل أمة، حين من الدهر، يجب فيه أن تختار، ولا سيما أن تحسن الاختيار. وأكبر الظن أن اللبنانيين اليوم سيكفون السياسة عناء الاختيار لهم، أو عنهم، أو باسمهم. سيختارون هم بأنفسهم لأنفسهم، ويجربون هكذا حظهم. فلنثبت للملأ أن مبادئ الثورة الفرنسية وما سواها من الحركات التقدمية، ليست فقط في الكتب التي نقرؤها، بل هي أيضا في الحياة التي نحياها.
صديق اللبنانيين، سجين فيشي بضع سنين، من قادة الشعب الفرنسي في مناضلته النازية منذ كانت، وهو في السابقين الأولين.
إن صفة واحدة من هذه الصفات، إن مأثرة واحدة من هذه المآثر، كافية لأن تجعل المرء عندنا جديرا بالتكرمة الخالصة، والحفاوة البالغة، فكيف و«جاك غريزا» قد اجتمعت فيه كل تلك الصفات، كل تلك المآثر؟
Неизвестная страница