Ливанская правда: размышления и беседы
الحقيقة اللبنانية: خواطر وأحاديث
Жанры
وأنا ما شأني هنا؟ لقد أمسيت بعد تلك المحاضرة، خارج الحدود جغرافيا، وخلف الأمجاد تاريخيا؛ على هامش القصيدة العصماء. وأخذت أترقب بوجل أن يأتيني، بين هنيهة وأخرى، موكل بنزع الهويات الزائفة أو المستعارة، لا يرق ولا يرحم. ولماذا؟ لا لشيء سوى أنني، فيما غبر من القرون، لم يتح لي القدر أن أعتصم بشعاب الجبل حرصا على الحرية، حيث أستنبت الصخر طلبا للرزق. إن هذا لأمر عظيم حقا، لكن ليس لي فيه يدان.
لست أذهب إلى اتهام الخطيب بأنه، فوق هذا، لم يعن من أبناء ذلك القسم من الجمهورية الواسعة، غير «طائفة» بعينها، لا أكثر ولا أقل. لا، لست أذهب إلى هذا الحد، وإن يكن خبيث من طائفة أخرى قد وسوس إلي بالملاحظة غامزا، فأنا لم أؤت حسه الطائفي الدقيق. ولأبادر إلى القول منذ الآن - أثمة إليه حاجة؟ إني برغم كل شيء ... وأنف صديقي الذي يشم من أقصى الأرض، لمن أصح الناس تقديرا للصورة اللبنانية التي يشف عنها كلام الخطيب، ومن أصدقهم إعجابا بالمعجزة التي ظهرت على أيدي سلفه الصالحين، لكن ليؤذن لي أن أقول أيضا إن تلك الصورة، على روعتها، ليست كل لبنان، كما أن ذلك الضرب من الخوارق، على جلالته، لم يكن عاما في الشعب اللبناني. إن ما ذكره خطيبنا القح هو الحقيقة، لكنه ليس كل الحقيقة؛ لقد أخرج من الدائرة بضع حقائق، كل واحدة هي من نوع حقيقته، وإن لم يكن لها جمالها أو روعتها، أخرجها جملة، دفعة واحدة.
والآن، ما أنا بتارككم طويلا تنتظرون على أحر من الجمر، حتى أعلن على رءوس الأشهاد، أن لتلك النغمة «الخاصة» جوابا من «القرار» بعينه، في الجهة المقابلة، في الجهات المتقابلة، يهتف به هنا وهناك وهنالك، هتافا ليته يخدش آذان الهاتفين، بقدر ما يصم آذان السامعين! إذن لاضطروا بحكم «حسن الجوار» إلى شيء من التؤدة، سوى أننا جميعا مأخذون بلذة الإزعاج والنكاية. ينبغي أن نبادر إلى إعلان هذا الحكم الصريح، وإلا كنا عرضة للتهمة ذاتها، أو بالفعل مصابين بالعاهة نفسها. على أن ما في هاتيك النغمات من الحقيقة «الخاصة» ليس دون ما تكلم عنه، أو أشار إليه، أو عناه ، خطيب الحفلة.
وهكذا تنعدم الحقيقة، الحقيقة الحقة، الحقيقة اللبنانية، بين أنصاف حقائق، كل نصف حقيقة منها هو في موضوعنا، خطأ محض؛ فإن نصف الحقيقة خطأ تام، وليس في الإماكن أن يجمع بين أنصاف الحقائق، على شكل اصطناعي أو نظري، لتؤلف منها حقيقة تامة، أي حقة. كما أن مسخين يكشر أحدهما في وجه الآخر، وهو رافع عقيرته بالغناء، لا يؤلفان إنسانا بهي الطلعة وسيما، حتى ولا خلقة طبيعية. إن المسخين اللذين يندغمان معا، يصيران مسخا مضاعفا، وكذلك أنصاف الحقائق إذا اجتمعت، يتألف منها خطأ مركب، هو أشد إيذاء وأبلغ ضررا من الخطأ البسيط.
ولست أنسب هذا «الخلل» النفسي في جمهرة اللبنانيين، إلى التعصب بمفهومه الشائع والمنكر، بقدر ما أنسبه إلى ذلك النقص الذي ينشأ دائما عن غلبة الروح الذاتي في تفكير الفرد والجماعة؛ أعني: «الذاتية» المضادة لما يسمونه «الموضوعية» وهي في أبسط مظاهرها، أن يتكلف الفرد أو الجماعة مؤنة الانتقال آنا بعد آن إلى الجهة المقابلة، إلى الجهات المقابلة، حيث يتخيل أحدنا «ذاته» في «وضع» الآخر، وتلك لعمري طريق المعرفة والتعارف والمعروف، وسواها من المشتقات - الرغيبة لأنها تنفي أسباب الشقاق، أو على الأقل، تكسر من حدتها. وإن هذه «التنقلات» التي ندعو إليها، ليست خطرة ولا «مكلفة»، فنتوسل في الترويج لها بما تتوسل به شركات التسفير. «لبنان في عهد جديد!» ذلك ما يقوله كل منا أو يحسه، وهو قول أو إحساس يدلان على واقع الحال، إلى مدى بعيد. فالشعب اللبناني يمارس اليوم، في «ذات» حكومته الشرعية، شطرا كبيرا من خصائص سيادته القومية التي ظل محروما منها خلال قرون، حتى ليمكن القول إن تسلمنا المصالح المشتركة مع حق الإدارة والتشريع، يعد باكورة ذلك الاستقلال الذي طالما تاقت إليه نفوسنا، واستهدفته جهودنا. وقد تكون البواكير أشهى ثمار الشجرة العزيزة التي تروى بعرق الجبين ودم الفؤاد، لكن لا جدال أيضا في أنها ليست كل الموسم. إن ما ينتظرنا يقظة لا يغل لها طرف، ودأب لا تعثر به قدم.
على أن الحدث اللبناني لم يكن وحده الجديد في الدنيا. وقد قلنا منذ البداية، إن استقلال لبنان ليس في الواقع سوى حلقة من حلقات في سلسلة تنتظم أجزاء الكون القريبة والبعيدة، أو مظهر من مظاهر متصلة متشابهة يتجلى فيها ذلك «الجديد» الشامل الذي يتمخض به النظام العالمي، ويقاسي من جرائه آلاما كآلام الوضع، وإنه من هذه الحرب لفي إحدى أزماته الحادة الحاسمة. وقد أثبتت محنة لبنان الأخيرة أن بلادنا ما كانت، ولن تكون، في نجوة من تلك الآلام، أو بالأقل من «انعكاسها». نريد أن نخلص إلى هذه الحقيقة البسيطة وهي أنه لم يبق في وسعنا، إذا نحن فكرنا في وطننا وفي شئونه الحاضرة والمقبلة، أن نفكر لبنانيا ولا عربيا، حتى ولا شرقيا وحسب؛ فلا مندوحة لنا أيضا عن أن نفكر دوليا وعالميا وإنسانيا. إننا ككل شعب من شعوب الدنيا، لفي مأتم الحرية وفي عرسها على السواء.
وإذا لم يكن الحدث اللبناني وحده بالشيء الجديد في الدنيا، فكذلك ليس تسلمنا المصالح المشتركة وحدها بالشيء الجديد في لبنان. نحب أن نعتقد أننا قد تسلمنا مع تلك المصالح، روحا جديدا هو «الروح اللبناني» الذي كان متنازعا فاصطلح، ومتوزعا فاجتمع، ومتغايرا فائتلف. لقد تجلى هذا الروح اللبناني الجديد في إرادة اللبنانيين جميعا، على اختلاف طوائفهم وأجناسهم، أن يعيشوا معا، أبناء شعب واحد حر، في وطن واحد سعيد. وإنا لنرجو أن يتجلى هذا الروح كل ساعة، ولكل مناسبة، في جهود اللبنانيين المتوافرة المتضافرة المتناصرة، لحفظ كيانهم الوطني، وإنماء مرافقه، وتعزيز كرامته. إن هذا الروح اللبناني المشترك لفي رأس مصالحنا المشتركة.
لقد أتى على لبنان زمن وهو يتخبط في حيرته، ولا يفتأ يبحث جادا عن ذاته، تارة مشرقا وتارة مغربا؛ فوجد ذاته أخيرا، لكن حيث يجب أن يجدها، أعني في لبنان. ولعمري إنها للقية لا ينبغي لنا أن نضيعها، فالله يعلم متى نجدها مرة ثانية، إذا أضعناها هذه المرة. إن اللبنانيين يلتقون اليوم على الصعيد الذي يسمونه الوطنية أو القومية؛ فكأني بهم إخوان تلاقوا بعد تغرب طويل، محفوف بالمخاطر والأهوال، فطفقوا يحيي بعضهم بعضا، ويتباشرون بسلامة العودة، ثم يتعاهدون جميعا على أن لا يبرحوا ذلك الصعيد الطيب، مخافة أن يتورطوا في شبهات التخوم التي تقيمها الفوارق من جنس ومذهب ودين. قلت ذات يوم، إن في لبنان بين المذهب والمذهب، وبين الجنس والجنس، من الحدود والحواجز ما يحتاج معه إلى جوازات سفر، كأننا شعوب في شعب، وأوطان في وطن. نحن لسنا في حاجة إلى ما يفرق ويقطع، فما أكثر هذا عندنا، بل إلى ما يؤلف ويجمع. إن ذلك الروح اللبناني الذي يتجلى في إرادة اللبنانيين، على اختلاف طوائفهم وأجناسهم، أن يعيشوا معا أبناء شعب واحد حر، في وطن واحد سعيد؛ إن ذلك الروح الجديد ليؤلف ويجمع، بل ليس إلاه يؤلف ويجمع، فما أجدرنا إذن بأن نتعهده بالصون والرعاية، وأن نغذيه بالعقول والأفئدة، حتى ينمو ويبلغ أشده، فلا تخشى عليه عوادي الزمان.
إن لبنان حديث عهد بالاستقلال، هذا ما يقوله التاريخ القريب، وهو كذلك حديث عهد بالروح الجديد الذي خلق اللبنانيين أمة، وبلادهم وطنا. هذا ما تنطق به خبرة كل واحد منا، في قرارة نفسه؛ فأي جهود نبذلها، وأي عزائم نضاعفها، فلا توازي في كفة الميزان ذلك الروح الجديد الذي لا استقلال بدونه؛ إذ لا وطن ولا أمة بدونه.
الروح الجديد! لقد أكثرت من الكلام على هذا «الجديد» حتى مللته. يجب أن يصبح هذا الجديد الطريف في لبنان، قديما أو كالقديم، تليدا أو كالتليد، وكأنه تراث آباء لنا صالحين.
Неизвестная страница