وفهمت بهية منذ ذلك اليوم ما يجب في هذا البيت وما لا يجب، وما عليها أن تعمله وما لا تعمله، ما هو محلل وما هو محرم، وكان يعمل معها في البيت نفسه طباخ اسمه عبده، يبيت في حجرته فوق السطح، وفتاة أخرى كبيرة تبيت معها على دكة خشبية في أحد أركان المطبخ، وأنست بهية إلى خديجة، حتى راحت تروي لها كيف قتل والدها، وهما تتسليان بالحديث قبيل النوم، ولكن خديجة نفرت من الحديث؛ خشية أن يطلع لها عفريت القتيل، وفضلت أن تنام، وسرعان ما كان شخيرها يملأ المطبخ.
وظلت عينا بهية مفتوحتين لا يغلبهما النعاس، وراحت تفكر في أمها، وفي أختها الرضيعة زينب، وهمست لنفسها «يا ترى يا امه بتعملي إيه دي الوقت؟»
وعادت إليها صورة أبيها قبل مقتله بدقائق، وهو يمسك بيدها في السوق، ويضرب بعصاه الأرض في قوة وبأس.
ووقفت عند هذه الصورة لا تجرؤ على الاسترسال في ذكرياتها؛ فلقد بدأت تشعر بالخوف لو أنها استعادت صورة مقتله، وتكورت بجانب خديجة والتصقت بها؛ تريد أن تلتمس من دفئها بعض الطمأنينة والأمن، وأغمضت عينيها لتنام، لكن صورة أمها بثيابها السوداء المتربة وقامتها النحيلة وبشرتها الصفراء تجلس على عتبة الدار وفي حجرها أختها زينب، تمتص اللبن من ثديها الهزيل الضامر، ورأت نفسها تجلس إلى جوارها تنبش في التراب، وهي تحس آلام الجوع؛ إذ مضت أيام كثيرة لم تصب فيها إلا بعض كسرات من الخبز المقدد، وقطعة خيار مخللة عثرت عليها في قاع «الزلعة».
وانتبهت على رجل، أفندي يقف أمام أمها، ومعه نفوسة تاجرة الفراخ، ولم تفهم كل الكلام الذي كانوا يقولونه، ولكنها التقطت كلمة «بهية» من بين كلامهم، فأرهفت السمع لترى ماذا يمكن أن يكون لها من شأن في هذا الحديث الجاد مع هذا الأفندي النظيف.
وسمعت الأفندي يقول: هي سنها كام؟
فأجابت أمها: عشر سنين والنبي.
فقال الرجل: ياه! دي لسة صغيرة قوي!
فأجابت نفوسة: صغيرة إيه يا سي محمد! دي لهلوبة في الشغل تمسح وتغسل، وتحمل المحروسة الصغيرة، دي بكرة تعجبك وتبقى عال قوي، قومي يا بت يا بهية، قومي بوسي إيد سيدك.
وقامت بهية، إنها لا تستطيع إلا أن تطيع بعد أن رأت أمها تنكس رأسها دلالة على الموافقة.
Неизвестная страница