مرت بي سنين كنت أخرج فيها كل صباح باكر، قبل أن تبزغ الشمس لألحق بأول قطار يقلني إلى بني سويف. ولم يكن القطار يحمل إلا العمال والمزارعين، والموظفين الصغار من الدرجة التاسعة فما تحت، وكانت البراغيث تترك كل هؤلاء وتقبل نحوي متبخترة وتتسلق ساقي، ثم تبدأ عملها اليومي كأنها موظف حكومي نشط، وأبدأ أنا في القفز من مقعد إلى مقعد ، وقد منعني الحياء والخفر من أن أدافع عن نفسي بالطريقة الطبيعية ضد هذه الحشرات اللعينة.
وكان عملي مرهقا، أو لعله كان الذهاب إلى عملي هو المرهق.
وانتهت سنوات القحط هذه كما ينتهي أي شيء، ووجدتني فجأة أقوم من فراشي الوثير، وأنا أتثاءب في استرخاء وكسل، وأنظر إلى عقارب الساعة بنصف عين، وحينما أجد أن الساعة لم تبلغ إلا التاسعة، أعود فأغمض عيني وأسبح في أحلام لذيذة؛ فإن عملي ليست له مواعيد، أذهب العاشرة أو الحادية عشرة، أو لا أذهب على الإطلاق، تبعا لمزاج سيادتي الشخصي؛ فأنا مديرة كبيرة، وليس لأحد سلطان علي!
لكن سنوات الرخاء لا تلبث أن تدبر، كما يدبر أي شيء، وأجد نفسي محشورة مع ركاب الدرجة الثانية في الأتوبيس، بعد أن كنت أركب عربة خاصة بي، وأعطي لسائقها الأوامر بأن يذهب بي حيثما أشاء.
وكانت لي صديقة حميمة، عملها الرئيسي في الحياة هو أن تسجل ما يطرأ على حياتي من تغيير، إلى جانب أعمالها الأخرى كربة بيت لها زوج وأولاد، وكانت تقول لي دائما: يا شيخة حرام عليكي، ده أنا تعبت مش لاحقة أجري وراكي فين وللا فين، مش ناوية تستقري بقى؟
كانت كلمتها هذه تثير في نفسي كثيرا من الأفكار والأسئلة والحيرة، أستقر؟ كيف؟ ولماذا؟ ومتى؟
ثم كيف أستقر وأنا أقف على أرض كروية، تدور وتلف بلا توقف؟ كيف لا أتحرك وقدماي مشدودتان إلى شيء يتحرك؟
لكن صديقتي كانت مخلصة، وكانت تحبني، فلم أشأ أن أغضبها، فقلت لها: «حاضر يا عزيزتي، سأستقر ... ولنبدأ.»
وكانت البداية أن عرفتني بعريس؛ فإن الاستقرار في رأي صديقتي هو الزواج، ولا شيء غيره، ولم أكن أعرف ذلك إلا بعد أن وجدت نفسي أجلس في حجرة الصالون في بيتها، ومعي رجل لم أقابله من قبل، ولم يعجبني الرجل، لكني رحت، مجاملة لصديقتي، أفتش في ملامحه أو في جيوبه عن شيء يثير الاهتمام، لكنه كان خالي الوفاض من كل شيء، حتى عيناه كانتا خاليتين من التعبير!
لكني رغم كل ذلك تزوجته مجاملة لصديقتي ، لم أشأ أن أخيب ظنها في نفسها، وفي مقدرتها على إقناعي بالاستقرار.
Неизвестная страница