وجفت الابتسامة على شفتيها، وانتشر على ملامحها وجوم سريع. هذه أول مرة تسافر إلى الإسكندرية بعد زواجها، وكانت آخر مرة في صيف العام الماضي بعد أن نالت الليسانس بدرجة «جيد جدا»، وعينت في وظيفة ممتازة بعد النجاح بشهر واحد، وقبضت أول مرتب ستة عشر جنيها، وأخذت إجازة مرضية وسافرت إلى الإسكندرية. وهناك وسط الأمواج الباردة، كانت تقذف جسمها الساخن، وتنطلق بذراعيها وساقيها، تسبح كأنها طائر يعوم في الهواء، ثم تخرج من الماء، وتنثر شعرها الناعم؛ ليقذف بالماء عنه، وتمدد جسمها المبلل تحت الشمسية، وتضع رأسها على الرمل الدافئ، وعيناها نحو السماء تتقلبان وتفتشان في الزرقة العميقة الداكنة عن أشياء، أشياء كثيرة تفكر فيها أولها سعادتها، سعادتها هي. لقد حبست نفسها عشرة أعوام في المدرسة والجامعة والبيت لتذاكر وتنجح وتنال الليسانس، وقد تحقق لها ذلك، ماذا بقي إذن؟ لا شيء سوى أن تعيش، أن تطلق من نفسها ما كانت تكبله، ولم تكن تكبل سوى مشاعرها، أحاسيسها كامرأة، رغباتها، استطلاعها، شقاوتها، وكانت شقية بطبيعتها، متحفزة متحمسة، مليئة بالحياة، متعصبة لها.
وقضت ثلاثين يوما في الإسكندرية، تساوي ثلاثين عاما من عمرها الذي فات، عرفت أنواعا كثيرة من الرجال، الشاب الذي يدلي خصلة من شعره على جبهته، ويلبس المايوه الضيق، ويتبختر أمام الكبائن، يطرقع باللبان في فمه، والسلسة في يده؛ والرجل المتفلسف الذي يلبس الشورت، ويجلس وقورا أمام الكابين، ويمسك كتابا بالمقلوب؛ والرجل الهائم على وجهه، يزوغ بصره هنا وهناك، وتخرج من بين شفتيه من حين إلى حين تقليعة أو تعليق، رجال في كل مكان، يكثرون ويتكاثرون في الصيف، كأنهم ذباب، وهي لم تعرف الرجال، وإن كانت قرأت عنهم في الكتب، لكنها في هذه الأيام القليلة، تريد أن تراهم عن كثب، أن تسمع كلامهم، أن تقرأ أفكارهم، أن تلمس عضلاتهم وشواربهم، ولم تكن تريد واحدا بالذات، كان في خيالها رجل، فتى أحلامها، لكنها لم تكن تبحث عنه، أو أنها أجلت البحث عنه، حتى ترى وتتفرج، وتتمعن في الفرجة، وأصبح كل يوم من هذه الأيام الثلاثين مليئا بالمواعيد، مشحونا بالشخصيات المتناقضة، في الصباح تسابق في الماء شابا مائعا، يخيل إليها أنه فتاة قصت شعرها. وتحت الشمسية على الرمال، تجلس مع رجل يأكل الكلام، كأنه من جوعه للحم الآدمي يلتهم لسانه، وينظر إليها كخرتيت طلع توا من الماء. وفي المساء تجلس في الكازينو المطل على البحر، مع رجل أشيب، يخلط الأدب بالفلسفة والحب بالموت، كأنه يضرب الرمل ويخط بالودع، ولم تكن تريد إلا أن تتفرج على الرجال، أن تعرفهم، أن تدرسهم. ووقف القطار فأفاقت من خيالها.
ونزلا من القطار، وهند تتأمل محطة سيدي جابر بوجوم؛ لقد انتهى صيف العام الماضي، وانتهت معه كل مغامراتها، ولم يبق في نفسها شيء بالمرة سوى مفاهيم دخلت رأسها عن الحياة والناس. وبعد الثلاثين يوما عادت إلى القاهرة، لتلتقي صدفة بفتى أحلامها حسين وتتزوجه.
ونظرت إلى زوجها ورأت ملامحه الهادئة الباسمة، وأحست أنها تثق فيها كما تثق دائما، لكنها لم تكن تدري ما سر ذلك الوجوم بداخلها.
إنها لا تخاف شيئا، وضميرها لا يؤنبها على شيء، كانت كلها مغامرات بريئة، مجرد تجارب نفسية، لا تحرك إلا تفكيرها وتأملاتها، لم يمس قلبها أو وجدانها إنسان، ولم يهز أنوثتها رجل، كانت كالعالم العجوز، الذي يشرح في معمله مجموعة من الضفادع والفيران. وعلى أي حال، فقد انتهى الصيف، ومات في الماضي كما يموت أي شيء، ولا يبقى له أثر، وعادت إليها طمأنينتها، حينما تذكرت مسألة الموت هذه. كانت تستخدم ذكرى الموت دائما لحل مشاكلها؛ لأنها تشحنها بموجة استخفاف بالحياة وما فيها من مشاكل واهتمامات وعقد ... وتقول لنفسها ما دام الإنسان حتما «ميتا»، فكل ما في حياته هين تافه، وبهذا استخدمت ذكرى موت جدها في التخفيف من وطأة حزنها على تأخرها في التوجيهية، واستخدمت ذكرى موت أمها في التخفيف، من حزنها على أبيها وهكذا.
ولكن هذه الحالة لا تلبث لحظات، كأنها ومضات روحية قوية، لا تلبث أن تنطفئ، وتتركها «إنسانة» عادية في مهب الحياة، تحزنها أشياء صغيرة، مثل فقدان نصف ريال، ويسعدها أيضا أشياء تافهة؛ مثل السفر وركوب القطار والجلوس بجوار النافذة.
وقضيا أياما سعيدة في الإسكندرية؛ الصباح كله للبلاج والبحر، والمساء كله للسهر والفسح والرقص.
حتى كان صباح، وهند وحدها تحت الشمسية، تمدد جسمها المبلل بالماء على الرمل الدافئ، وعيناها ناحية السماء لا تتقلبان، ولا تفتشان عن شيء، إنها سعيدة في حياتها، ولا تطلب مزيدا من شيء، وفجأة وقف أمامها مارد طويل، حجب عنها السماء والبحر، ونهضت برأسها وهي تصيح في دهشة: «مين؟»
ورد عليها صوته الغليظ: «مين! إيه نستيني؟»
وابتسمت في عدم اهتمام قائلة: «تقريبا.»
Неизвестная страница