على أنه رأى منظرا عجيبا - زاد من مسرته - قبل أن يغادر القهوة؛ رأي أبا سنة يهب واقفا فزعا، وسمع همسا تناقلته الشفاه، ثم علا ضجيج، ثم ساد صمت ثقيل، وقد كفت كل يد عن اللعب وكل فم عن التدخين، والتقت الأبصار جميعا عند المغني السعيد.
ولبس طربوشه وسار إلى سيارته وقلبه يكاد يطير من الفرح بعد أن نفض عنه راكد السقم والملل، وعاد إلى المدينة، ثم ألهته الحياة عن الصحراء وقهوة الصحراء وأبي سنة حتى وجد نفسه فيها هذا المساء.
فما أشد ما نزل بالدنيا من تغير! اندثرت مدينة الصفائح العامرة .. وفتك الحبل بعنق أبي سنة الجميل وحنجرته الذهبية .. يا للعجب! كان أبو سنة مطربا، فكيف صار قاتلا؟ ووجد رغبة صادقة في السؤال والتحري عنه، وكان صاحب القهوة جالسا بمكانه المعهود عند مدخل المطعم، فأشار إليه وناداه قائلا: «يا معلم.» وحدق الرجل في مصدر الصوت وهو يضيق عينيه، ثم سار إليه، فلما دنا من صاحبه ورأي هيئته المميزة ابتسمت أساريره، وارتفعت يده إلى جبينه بالسلام، ولكن لم يبد عليه أنه عرفه أو تذكره، وطلب إليه دانش أن يجلس ثم قال له: أراك لا تذكرني يا معلم.
فحدجه الرجل بنظرة إمعان وارتباك، وتمتم وعلى فمه العريض ابتسامة حائرة: أهلا وسهلا.
فأردف دانش: ألا تذكر تلك الليلة القمراء .. والمغني أبا سنة .. وموال بكرة وبعده؟! كم مضى على تلك الليلة؟ .. ثمانية أشهر أو يزيد، ألا تذكر؟
ونظر الرجل إليه نظرة غريبة، كان الشاب يتوقع أن يقرأ فيها الدهشة والترحاب، ولكنه وجدها جامدة ثقيلة. - ألا تذكر يا معلم؟
فهز الرجل رأسه وقال: بل أذكر يا بك. - سمعت خبرا عجيبا مزعجا .. هل حقا شنق أبو سنة؟ - نعم شنق الرجل التعس. - كيف شنق؟ - أتحب أن تعرف يا بك؟ - طبعا يا معلم.
فقال الرجل بصوت غليظ: ألا تذكر الثروة التي رميته بها في تلك الليلة؟
فهز الشاب رأسه بالإيجاب وقد داخله قلق للهجة الرجل، أما المعلم فاستطرد قائلا: في تلك الليلة شاهدت وشاهد جميع الزبائن منظرا عجبا، فعلى أثر ذهابك انتبذ أبو سنة مكانا خاليا وجلس ويده تمسك بالورقة الثمينة. ولم تكن عادته أن يجلس صامتا؛ فهو إما أن يضاحك القوم أو يغنيهم وينشدهم، أما في تلك الساعة الرهيبة فقد انكمش مضطربا وجعل يختلس من الجالسين نظرات الريبة والقلق، ويمعن في الورقة نظرا يتنازعه الشك واليقين والذعر والأمل، ودنوت منه وطلبت إليه أن يطلعني على الورقة، فأطلعني عليها وهو قابض على طرفها فعرفتها، وأمنت على قولك له دهشا متعجبا، وقلت له: لقد أتتك ثروة واسعة. وكان محط الأنظار ومثار الاهتمام والهمس، وكنت أتوقع أن يغادر المكان سريعا، ولكنه ظل ذاهلا يتناوب على عينيه نور فرح مخيف والتماع ذعر مريب. ولعله كان في حيرة من أمره لا يدري أين يذهب؛ فهو آمن وسط الجميع، ولكن أنى له الأمان إذا انفرد في الطريق أو أوى إلى كوخه في مدينة الصفائح؟ ومدينة الصفائح لا يعرف أهلوها من العملة سوى الملاليم، ولا يغمض لها جفن إذا علمت أن بين حدودها ورقة من ذات العشرة جنيهات، فما العمل؟ بات خائفا مذعورا وأمسى الجميع أعداءه.
وسكت الرجل دقيقة ثم رمق الشاب بعينين أحرق الاحمرار أشفارهما، واستطرد: وأغلب الظن أن القلق أثار أعصابه وحرضه على الاستهتار، فما كان منه إلا أن قام بغتة وقال بصوت مبحوح: «السلام عليكم يا إخوان.» وغادر القهوة على عجل، ولكنه بدلا من أن يسير إلى مدينة الصفائح حيث زوجه وأسرته انحرف إلى اليمين وأوسع الخطى حتي ابتلعته الظلمة. وأحدث انحرافه دهشة فتبعه أحد الرفاق، وغاب زمنا يسيرا ثم كر راجعا وهو يصيح ضاحكا: «ألا تعلمون .. إن الرجل المعتوه يعدو بقوة كأنما يطارده مطارد عنيف.» وأحدثت عبارة الرجل عاصفة من الضحك والسخر واللعن، وهكذا غادرنا أبو سنة.
Неизвестная страница