فابتسم القاضي في استخفاف وسأله: وماذا تدخر من الوسائل مما ليس لديهم؟ - إنهم يا سيدي يطاردون الأشرار ويعالجون الأمراض ويضمدون الجراح .. أما أنا فسبيلي أن أقضي على الداء. إن الداء كمين في مخبئه آمنا، وهم لا يكترثون إلا لآثاره، وقد أنعمت النظر فوجدت أن المعدة أصلا بلاء هذه المقاطعة، وجدت كثيرين لا يستطيعون أن يملئوا منها فراغا فيعيوا جوعا، وآخرين لا يتركون بها فراغا قط فيهلكوا نهما، ومن التجاذب والتنافر بين هاتين المعدتين يحدث السلب والنهب والقتل؛ فالداء بين والدواء بين.
فقال القاضي: على العكس مما ترى، هذا داء لا دواء له!
هذا قولهم يا سيدي، وما يقولونه إلا لأنه ينقصهم شيء متعني الرب به، هو الإيمان بالخير. إنهم لا يؤمنون بالخير حق الإيمان، ويجاهدون في سبيله جهاد الآلات الصماء التي لا تحس، ويعملون بالأجر وللجاه والمجد .. فإذا خلوا إلى أنفسهم تهالكوا على ما يجاهرون بمقته من الإثم. هذا شأنهم يا سيدي، أما أنا فمؤمن حقا بالخير، فدعني أعمل على طريقتي وأمهلني رويدا.
وأهاج كلام الرجل الغضب في نفس حارس الأمن؛ إذ حسبه يلمزه من قريب، ولكن القاضي كان أوسع صدرا وألين قلبا، فأغضى عن قول الرجل. ولما لم يجد في عمله ما يستحق عقوبة أطلق سراحه بعد أن أسدى إليه النصح.
وغادر الرجل المحكمة وهو يحس بنشوة الظفر، وكان على وجه اليقين مؤيدا بروح سام لأنه كان يسير في الأرض بقوة مارد، ويتدفق في الحديث بحماسة شاب، ويفيض عليه قلبه بتفاؤل نبي، وكان لسانه ينفث سحرا حلالا وحجة تلزم المتكبرين، فاستطاع في مدة وجيزة أن يستأثر بآذان القوم ويسحر قلوبهم ويهيج عاطفة الخير في نفوسهم ويوجههم إلى حيث يريد، فاتبعه الفقير وخضع له الغني وذل له المتمرد العاصي. وكان أساس دعوته الجمال والاعتدال اللذان يعيش في ظلهما الفقير بالقناعة والغني بما فيه الكفاية. ووجد فيه ذاك المجتمع المريض طبيبا صادقا بارعا فتعلق بمثله واعتنق مبادئه. وجاءت النتائج باهرة يخطف نورها الأبصار ويذهل عقول العقلاء، فسحقت الجريمة وهزم الشر وأدبرت الأمراض، وأظلت السعادة بجناحيها المقاطعة، فهلل الحكام وكبروا، وآمنوا بالرجل الذي كانوا فيه يمترون، وسعدوا جميعا لبلوغ الغاية النبيلة التي أنفقوا أعمارهم عبثا في سبيل بلوغها.
وتقدم الزمان بخطى هادئة في جو صاف وطريق معبد، وتحولت الأمور إلى غير ما عهد الناس.
وكان الحكام أول من أحس بالعهد الجديد، والحق أنهم وجدوا أنفسهم عاطلين، والراحة لذة لا يذوقها إلا العاملون، فثقل الفراغ على ظهورهم، وشاهدوا بأعين جزعة مجدهم ينهار وريحهم تذهب ونورهم ينقلب ظلاما.
كان حارس الأمن قوة ترهب أينما يحل، فرد إلى شيء تقتحمه العيون وتستهين به القلوب، وأضحى تمر به العامة وكأنها تمر بصنم محطم.
وكان القاضي قوة قدسية ومهابة إلهية، فأصبح يقلب كفيه آسفا حزينا لا يسمع تحية ولا رجاء، ولا يساق إلى رحابه من يهابه، فأحس بعزلة ووحشة، وبات كمعبد مهجور في الصحراء. وأن الطبيب بشكوى مكتومة، وحبس نفسه في داره لا يزوره إنسان ولا يزور إنسانا، وكان يكنز المال في القدور فأصبح ينفق مما جمع وقلبه واجف.
اطمأن الإقليم جميعا إلى الخير إلا أولئك الذين وهبوا أنفسهم «صناعة الخير». كانوا حيارى يائسين يتلفتون يمينا وشمالا فلا يجدون لأنفسهم مخرجا مما هم فيه، وكان حارس الأمن أشدهم عذابا؛ لأنه كان أعظمهم جراءة، ولكنه كان يخشى أن يقدم على التصريح بمخاوفه فيجد آذانا صماء وقلوبا مطمئنة إلى الخير. ولما نفد صبره انتهز فرصة اجتماعه بإخوانه وأقرانه وقال بشيء من التهيب متسائلا: ماذا نفعل لو استغني الحاكم عن خدماتنا غدا؟
Неизвестная страница