عبث أرستقراطي
في ذلك المساء من شهر مارس ازين قصر الوجيه حامد بك عرفان بحلة لألاءة من الأنوار المتموجة ذات الألوان، مدت أسلاكها الكهربائية على سور الحديقة فتعانقت مع الياسمين والبنفسج، وتعلقت بأفرع الأشجار والنخيل، وتوجت بها شجيرات الورود المنتثرة على هيئة أهلة ونجوم. وكان أعجب ما في القصر هو ذاك البهو المتسع الأنيق الذي فرش بفاخر الأثاث وحليت جدرانه وأركانه برائع الفن من صور وتحف، وترك في وسطه مكان رحب للراقصات والراقصين، أما في صدر المكان فقد امتدت ردهة إلى منتصف مقصف حافل، وإلى يمينها فيما يلي الشرفة المطلة على الحديقة احتلت فرقة الموسيقى الإيطالية مكانا جميلا .. وانتشر فيما بين البهو والشرفة والمقصف والحديقة المدعوات والمدعوون الذين لبوا الدعوة للاحتفال بعيد ميلاد كوكو الصغيرة ابنة الوجيه عرفان بك وزوجه إنجي هانم عرفان .. وكانوا يجلسون أزواجا وجماعات يتجاذبون أطراف الأحاديث حينا بالعربية وأحيانا بالفرنسية، ويتضاحكون بأصوات عالية رقيقة وخشنة، وإذا دعت الأنغام قاموا للرقص والعناق. وقد شاع في الجو عطر وأنس وحرارة كأنها أنفاس المودة نفثتها الأعين والشفاه والصدور والأماني الهامسة.
وكانت الأحاديث متنوعة، ولكنها تدور في الغالب حول موضوع واحد يتجاذبها كما يتجاذب النور الفراشة، وهو المرأة، ولا يستثنى من ذلك الجماعة التي كان محدثها الأول الأستاذ علي الجميل الصحافي المعروف والنائب المحترم، فما خرج الحديث فيها عن الزواج واختيار المرأة الصالحة، وكان النقاش يحتدم بين المتجادلين من الجنسين بصورة عنيفة مضحكة، أما الوجيه نور الدين فكان يتوسط حلقة أخرى يروي فيها ما اتفق من قصص مغامراته الغرامية في العواصم العالمية ذوات الشهرة في الحب والجمال. وفي ركن منعزل امتاز بوفرة من حوي من الشابات والشبان أقيمت مسابقة سرية لاختيار أقبح امرأة بين المدعوات. واتجهت أبصار المحكمات والمحكمين إلى امرأة اتخذت مكانها تحت صورة الفنانة وابنتها «لفيجيه لوبرين»، وكانت عجوزا إلا أنها تتصابى وتستعير من ألوان الجمال ما تظن أنه يغني عما استرده الدهر من حياة شبابها، فبدت تحت طلاء الأصباغ في هيئة مضحكة، وكانت تتجنب الناس وتقنع بالجلوس منفردة حتى تعود إلى مجالستها ربة الدار إنجي هانم كلما تاقت نفسها إلى الراحة. أما اسمها فدولت هانم، وقد راضت نفسها على العزوبة بعد تجربة أربع زيجات غير موفقة، وكادت تيئس من الرجال والحب، وقنعت من متاع الدنيا بمضغ الأعراض والخوض فيما تعلم وما لا تعلم من أسرار الناس، فصارت معجما لتواريخ السوء. وكانت في تلك اللحظة التي اختيرت فيها سرا ملكة للقبح .. تجالس إنجي هانم، وكانت تلوذ بالصمت قسرا بعد أن لم تبق على أحد من الحاضرات والحاضرين، حتى أتيحت لها فرصة جديدة للكلام بحضور الوجيه الأستاذ محمد جلال المحامي وزوجه الحسناء صفية هانم جلال، وكانا يلفتان الأنظار حيثما سارا لثراء الزوج المالك لأربعة آلاف فدان في الصعيد، وجمال الزوجة ورشاقتها، وقد استقبلتها إنجي هانم بمودة ظاهرة وباطنة. ولما عادت إلى جوار دولت هانم مالت هذه على أذنها وقالت بصوتها الخافت المبحوح: يا لهما من زوجين سعيدين جميلين!
فقالت السيدة بحماس: الأستاذ جلال شاب يندر أن يوجد نظيره بين الشباب الناجح الثري .. ألا تعلمين أنه مرشح لكرسي النيابة؟ .. وأما صفية فهي آية للجمال والصفاء.
فابتسمت المرأة ابتسامة باهتة وقالت: نعم، نعم .. لا شيء يعيبه إلا أنه يقال إنه قد يتبارز من أجل راقصة، أما إذا استثيرت غيرته الزوجية فقد يغضي.
وضاقت إنجي هانم ذرعا بحديث صاحبتها، فلم تسألها إيضاحا، وتشاغلت عنها بمشاهدة بعض الراقصين، ثم استأذنت لاستقبال بعض صواحبها.
وسلم الأستاذ محمد جلال وزوجه على عدد عديد من الأصدقاء والصديقات، ثم اختارا أن يجلسا إلى زوجين جميلين مثلهما هما الوجيه طه بك العارف وزوجه الحسناء هدى هانم العارف. وكان الأستاذ جلال يبدي إعجابا خاصا نحو السيدة هدى؛ فلما عزفت الموسيقى دعاها إلى الرقص معه، وقبلت بسرور ورقصت زوجه مع طه بك.
وطرب الجميع طويلا وشربوا كثيرا، فدارت رءوس وثرثرت ألسنة كتومة، وفاضت الأحاديث، وامتلأ الجو برنين الضحكات ووميض الابتسامات وإيماءات الغزل، والتقت أعين وتماست أنامل وارتعشت شفاه، حتى جاءت تلك الساعة المختارة من الليل فتوسطت المدعوين السيدة إنجي هانم، وقالت بصوتها الرخيم: اسمحوا لي سيداتي سادتي أن أقدم إليكم مفاجأة العيد السعيد.
تطلعت الوجوه إليها من كل صوب، وتجمع حولها المبعثرون ما بين الشرفة والمقصف ينتظرون فرحين، وبغتة أطفئت الأنوار بغير نذير، وساد المكان ظلام دامس دام خمس دقائق ما كان يسمع خلالها سوى همس خافت أو ضحكات مكتومة، ثم أضيئت الأنوار مرة أخرى، فرأى القوم منظرا بديعا؛ مهدا على قوائم أربع طويلة، مسقفا بستار من حرير على هيئة هرمية، وفيه جلست كوكو متكئة على يديها الصغيرتين في قميص أبيض كأنها وردة بيضاء يانعة، وكانت ترمق الناظرين بعينين دهشتين صغيرتين ينعكس النور على زرقتهما الصافية! فصفق الجميع تصفيقا رقيقا وهتفوا باسمها، وقبل الآنسات يدها الصغيرة، ثم قدمت الهدايا النفيسة حول مهدها الجميل، وشمل القوم سرور عظيم فاستأنفوا لهوهم بإرادة أشد نزوعا للصبا والمسرة. على أن فترة الظلام القصيرة لم تمر بسلام كما توهم الجميع، فقبيلها بدقائق كان الأستاذ محمد جلال يجالس هدى هانم في المقصف وقد دل عبثهما المرح على أنهما ثملان؛ فلما أطفئت الأنوار لم يتردد الشاب فدنا برأسه منها حتى كادت تمس شفتاه أذنها وهمس قائلا: «هدي.» وارتجفت المرأة كالمذعورة ولم ترد عليه، فقال لها همسا وهي تحس بلمس شفتيه لأذنيها: «هذه فرصة طيبة. قومي واتبعيني.»
وكان بودها لو تتباله كما يقضي الدلال، ولكنها خشيت أن يضاء النور بسرعة، فقالت همسا: إلى أين؟ - إلى حجرة التدخين في الطابق العلوي؟ - قد يفتقدوننا. - وماذا يهم؟ .. سيظنون أننا في الشرفة أو في الحديقة أو في المقصف أو هنا أو هنالك وسنعود من طريقين متباعدين.
Неизвестная страница