يا عجبا .. فقد ذهبت جانيا آثما فإذا بي مجني عليه. رحت أكفر عن ذنبي فإذا بي ضحية تعسة. ماذا يمكن أن يفعل رجل في مكاني؟
نعم لقد قارفت من الذنب ما قارفت، وسقطت في الهاوية التي ابتلعتها، فهل من المستطاع أن أسدل ستارا كثيفا على تاريخ الإثم كله، وأن أتحمل عقاب الله الصارم في صبر، وأروض نفسي على العفو والصفاء؟
إنه حل روائي قد يستحسنه غيري ويعطف عليه نفر قليل من الناس، أما أنا فقد انسقت مع طبيعتي وأصخت إلى صوت الغضب في قلبي، فهويت بالطلاق على رابطة الزوجية، فخرب بيتي وانتزعت الحضانة مني أطفالا أعزة، كانوا نور حياتي المشرق، فسبحان الله أحكم الحاكمين.
حياة مهرج
توفي بالأمس السيد حسن شلضم بمنزله الكائن في حارة جعيصة بالخرنقش، وانتقل من مقره الدنيوي إلى مثواه الأبدي في جناز متواضع اقتصر على أبنائه الثلاثة وشرذمة من الأصحاب عدا عربة كارو حملت بناته الثلاث وأمهن وامرأتين أو ثلاث أخريات.
لم يكن السيد المتوفى إلا مهرجا، أو كان أشهر المهرجين الذين جمعت حياتهم بين الربع الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين .. ومن حسن الحظ أن الفن لا يأخذ بمقاييس المجتمع في تاريخ الرجال، وإلا ما كان للمتوفى حظ من الذكر. وما أجمل الفن في شموله هذا؛ فقد كانت حياة السيد حسن ينبوعا دافقا من ينابيع اللذات والشهوات، كان قطب حياة كاملة من الأفراح والمسرات، ومعينا فياضا للضحك والبهجة والحبور، وعزاء لنفوس لا عداد لها.
ولد في عام 1879، واستقبل الشعاع الأول في الحياة في حارة جعيصة ثم في فناء بيت آل شلضم وأخيرا في كتاب الشيخ هريدي.
كان منذ صغره ميالا إلى المزاح نزاعا إلى العبث، ولكن توجد حادثة في تاريخه يصح أن نعتبرها مبدأ لحياته التي عرف بها فيما بعد؛ إذ كان يمر في طريقه إلى الكتاب بقهوة خضراء الباب والنوافذ، فراقه لونها وجذبه إليه، وما يدري إلا وهو يمسك بحاشية جلبابه ويبلها بقليل من الماء ويمسح بها رقعة من باب القهوة حتى امتصت لونها، ثم لطخ به وجهه ورقبته وقفاه، ويداه الصغيرتان ترتجفان من الفرح، ثم هرع إلى رفاقه الصغار لا يلوي على شيء وصاح بهم: «إلي .. إلي .. انظروا.» والتفوا حوله دهشين وأغرقوا في الضحك حتى دمعت أعينهم. ولم يقنع بهذا الفوز فتقدمهم في الحارة وتبعوه وهم يصفقون تصفيقا توقيعيا وهو يرقص ويقفز ثملا بخمر الفوز والفرح.
كان يستلهم ألاعيبه غريزة حية توحي إليه، وكان قلبه الصغير لا يذوق السعادة إلا حين يضحك ويهيج ضحك الآخرين ولو من نفسه، بل إن نفسه ليجود بها في سبيل الضحك.
هكذا تفتقت موهبته الخارقة في حارة جعيصة، ثم لم تقف من بعد ذلك عند حد؛ فمن آياته في ذلك العهد البعيد أيضا أنه كان يحاكي بمهارة فائقة أصوات الكلاب والقطط والبقر والحمير والبوم والغربان، وأنه حفظ على حداثة سنه أغلب القفشات والنكات البلدية التي تلقى جزافا في القهاوي و«الغرز»، بل كان إذا أعوزه سبب لإثارة الضحك يمد قفاه للرفاق فيصفعونه ويضحكون.
Неизвестная страница