هملت :
ويحي من هزأة بليد، أليس عجيبا أن ذلك الممثل الذي كنت أختبره منذ هنيهة يستطيع على كونه إنما يصور حادثا مكذوبا، ويهيئ إحساسا ليس من الحقيقة في شيء، أن يصنع وجهه، ويشكل حركاته، على النحو الذي يوحيه إليه خاطره، فهو يمتقع حزنا، ويستدر جفنيه دمعا، ويظهر التدلة ويجهش بصوته في التوله، ويطابق بمهارته بين صورته، وتصوره، وكل ذلك لغير ما طائل يحلي به كل ذلك في سبيل حسناء لم يرها ولم يعرفها، فما الذي كان يفعله لو كان مكاني؟ إذن لأغرق مسرحه بعبراته ، وصدع آذان الجمهور بكلماته الرهيبة، وأجن المذنب، وأذعر البريء، وأذهل الجاهل، بل لأصم السمع، وسدر البصر، أما أنا وتبا لي من أثيم وضيع، وشجاع دعي، فغاية ما دافعت به عن أب حبيب، وملك عزيز، نكب أشد النكبات: هو أنني أهذي هذيان الحالم، مع أن شاغل الانتقام مالئ نفسي، أجبان أنا؟ من ذا الذي أسمعه يسخر مني؟ ويقول لي: يا ضحكة. من ذا الذي اعترضني الآن في الطريق؟ فنتف لحيتي، ونفخها في وجهي، من ذا الذي جذبني من أنفي؟ من ذا الذي كذبني فرد أقوالي في حلقي حتى أعادها إلى صميم رئتي؟ من ذا الذي فعل بي هذا؟ إني أذن لذو كبد لا تزيد شيئا عن كبد فرخ من الحمام، فليت لي مرارة ولا يضيمني ظلم الظالمين، ولولا ذلك لا شبعت منذ حين جوارح الطير من لحم ذلك الوغد الخبيث، لك الويل كل الويل، من مجرم دامي الأظافر، ومن فاسق فاسد، ومن خائن ميت الضمير، أي صبور أنا؟! أكذا إقدام الولد الذي قتل أبوه فاستصرخه لأخذ الثأر، واستفزه بعوامل السماء وجهنم؟! أفبي حاجة كحاجة البغي المومس، أو الأجيرة القعيدة في المطبخ إلى تبديد ما في قلبي من الحقد بالألفاظ والثرثرات؟! حراكا يا دماغي، حراكا، أماما يا عزمي أماما، رويدي هنيهة، قد سمعت أن أناسا من مرتكبي الجرائر، ومقترفي الجرائم، شهدوا تمثيل وقائع شبيهة بجرائمهم، وجرائرهم، فأخذتهم رهبة المقام، وفاجأتهم هبة الضمير، فأقروا بما ارتكبوا واقترفوا، وذلك لأن جناية القتل على كونها ليست بذات لسان، لا تعدم أداة عجيبة للإفصاح عن سرها، والدلالة على نفسها، ولهذه العلة قد هيأت للممثلين الذين ستشهدهم الآن، جريمة خيالية من نوع الحادثة التي اغتال بها عمي أبي. ومتى مثلت لأرقبنه وأسبرن غوره، فإذا اضطرب فقد تبينت ما علي، وسلكت سبيلي، قد يكون الروح الذي رأيته شيطانا، وللشيطان أن يبدو في كل شيء يختاره، فأخشى أن يكون قد حاول خديعتي من أجل ضعفي، واستمرار كآبتي وإن أصحاب الأمزجة المجانسة لمزاجي، لأشد تأثرا بإغراء الشيطان، فلا بد لي من الأدلة الجلية، النافية لكل ريب، وما تلك الرواية إلا المرآة الصادقة التي سأستجلي بها سريرة الملك. (يخرج «هملت» وتدخل «أوفيليا» و«بولونيوس».)
بولونيوس :
تمشي هاهنا يا «أوفيليا»، وأنت يا مولاي، وأنت يا مولاتي. مكانكما هاهنا. ثم أنت يا بنيتي اجعلي هذا الكتاب في يدك كأنك تقرئين، وعلى هذا النحو يكون الموقف أشوق، أجده عائدا، لنتوار يا مولاي. (يخرج «بولونيوس» و«الملك» و«الملكة».)
هملت :
أكون أو لا أكون؟ تلك هي المسألة، أي الحالتين أمثل بالنفس؟ أتحمل الرجم بالمقاليع وتلقي سهام الحظ الأنكد، أم النهوض لمكافحة المصائب ولو كانت بحرا عجاجا وبعد جهد الصراع إقامة حد دونها، الموت، نوم، ثم لا شيء. نوم نستقر به من آلام القلب، وآلاف الخطوب التي وكلتها الفطرة بالأجسام، ونخشاه على أنه حقيق بأن نرجوه، الموت رقاد، رقاد وقد تكون به أحلام، آها هذه عقدة المسألة، إنما الخوف من تلك الأحلام التي قد تتخلل رقاد الموت بعد النجاة من آفات الحياة، وهو الذي يقف دونه العزم، ثم هو الذي يسومنا عذاب العيش، وما أطول مداه، إذ لولا هذا الخوف، لما صبر أحد على المذلات، والمشقات الراهنة، ولا على بغي الباغي، ولا على تطاول الرجل المتكبر، ولا على شقاء الحب المرذول، ولا على إبطاءات العدل، ولا على سلاطة السلطة، ووقاحة القدرة، ولا على الكوارث التي يبتلى بها الحسب الصحيح، والمجد الصريح، بفعل الجهلة، وتهجم السفلة، وفي وسع المرء أن يترخص في الابتعاد، فيسلم من كل هذه الرزايا بطعنة واحدة؟ من خنجر في يده. من الذي كان يرضى بالبقاء رازحا تحت الحمل دائم الأنين، مستنزفا ماء الجبهة من الإعياء؟ لولا أنه يتقي أمرا وراء الحياة، البلد المجهل الذي لم يستكشفه باحث، ولم تتخط تخومه قدم سائح، يحدونا أن نؤثر الصعب بين أهلنا، على السهل بين قوم لا نعرفهم. من ثم قوي الضمير، وجعلنا كلنا جبناء، من ثم تحول الزهو في لون العزيمة إلى شحوب بفعل التفكير، من ثم صودم التصميم على كل أمر عظيم، فانحرف عن طريقه ، ثم بطل ولم يجدر باسم العمل، مهلا. مهلا. الآن. هذه «أوفيليا» الجميلة. يا ابنة الماء، لعلك تذكرينني في أدعيتك فتمحي خطاياي.
أوفيليا :
يا مولاي الكريم، لعل سموك بخير بعد الغياب أياما.
هملت :
لك الحمد بكل اتضاع. إني بخير. بخير.
Неизвестная страница