Так я был создан: длинная история
هكذا خلقت: قصة طويلة
Жанры
واقترب موعد السفر وتلاحقت زيارات المهنئين والمودعين، فلما كانت ليلة البرزة وهفا بي النوم إلى مرقدي، رأيت أبي وأمي وهما في ثياب الآخرة، وكأنهما ملكان يرفرفان بأجنحة من نور فوق رأسي، ويحمدان الله أن رضي عني بما وهبني من تمام الإيمان بتقواي وبحجي، ثم رأيت الطيف الملتف في أكفانه يبدو وعلى ثغره ابتسامة، ومحياه كله الضياء، وهو يقول: «غفر الله لك وغفر لي، وسعت رحمته كل شيء، إنه رب التقوى ورب المغفرة.»
واستيقظت الفجر وصليته، ثم إذا زوجي وولداي وطائفة من أهلي يحيطون بي ويقبلونني، وليس في قلوبهم جميعا إلا المحبة الخالصة، وركبوا جميعا معي قطار السكة الحديد إلى السويس، وظلوا جميعا معي على ظهر الباخرة المسافرة إلى جدة، فلما آن لها أن تبحر ودعوني وكلهم يرجون الله لي حجا مبرورا وذنبا مغفورا، وأنا أرجو لهم جميعا من الله الهدى والرحمة.
الفصل العاشر1
أبحرت الباخرة بمن عليها من الحجاج قاصدة بيت الله الحرام، فلما حاذت رابغ أحرمنا جميعا، وفي بكرة الصبح من غدنا وصلنا إلى جدة فنزلنا من الباخرة إليها، ثم تخطيناها إلى مكة، وهنا طفنا بالكعبة الشريفة طواف القدوم في انتظار يوم التروية الذي يسبق وقفة عرفات.
وكانت حالتي النفسية تمور في هذه الأثناء مورا جاوز كل ما تصورت، لقد كنت قبيل سفري أشعر حين صلواتي بأنني قريبة من ربي، وأنه يسمع دعائي أكفر به عن ذنبي ليغفر لي ويرحمني، فلما لبست ثوب الإحرام شعرت بأنني تجردت لله - جل ثناؤه - ودخلت واسع رحمته، ولم يبق عندي شك، وقد جئت بيته خالصة القصد في التوجه إليه، في أنه غفر لي قبل أن أؤدي شعائر الحج؛ لأنه رب القلوب، ولأن الأعمال عنده بالنيات، ولأني قصدت بابه الكريم قانتة تائبة عابدة مسلمة إليه وجهي، آسفة على ما أسلفت من ذنوبي وأوزاري، فهو لا يرد من قصده من عباده ما خلصت نيته في قصده.
وبينا أنا في هذه الحال من الطمأنينة والغبطة إذ فوجئت بما أخرجني منها، فقد وقفت يوما عند مدرسة من مدارس الحرم، فسمعت أستاذا يحاضر الناس في الحج ويقول: «ليس الحج شعائر ومناسك وكفى، بل هو قبل كل شيء حساب النفس أمام بارئها عما قدمت في حياتها، وهل أدت للحياة واجبها بما يرضي الله ويرضي الضمير، فلم يحملها غرورها على اجتراح الآثام إرضاء لأهوائها، ولم يوسوس لها الشيطان بأن الحياة حق للحي وليست واجبا عليه لله وللناس ولنفسه.»
زلزل هذا الكلام نفسي، وأخرجني من بلهنية الطمأنينة التي كانت تشتملني، وعاد بي إلى ماضي حياتي أنشره أمام بصيرتي ليكون صحيفتي عند ربي، وليكون ما أذرف من دمع التوبة عما فرط مني شفيعي إليه تعالت أسماؤه. صدق الأستاذ، ليس الحج شعائر ومناسك وكفى، ولكنه حساب النفس واعترافها بذنوبها قبل أن تحاسب حين يتوفاها ربها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
كانت هذه المرحلة من مراحل نفسي أشق المراحل على وجداني، لكنني صمدت لها واجتزتها بإذعاني وإسلامي، وبإقراري بعجزي وضعفي، وباعترافي الكامل بذنوبي، وضراعتي إلى الله أن يغفر لي بعد الذي بلوت في حياتي من محن كانت الجزاء العادل عما كسبت نفسي. ولقد شعرت بعد اجتيازي هذه المرحلة برضا ملأ جوانحي وانتشر في كل وجودي، كما أضاء أمام بصيرتي نور يهديني السبيل إلى بارئي، فحمدته - جل شأنه - وازددت تواضعا لله وثناء عليه، وتسليما بقضائه، وإسلاما لأمره.
وإنني لسعيدة بما أنا فيه من حال الرضا، أصلي بالحرم الشريف كل فروضي، وأطوف بالكعبة كل يوم، إذ رأيت ما لم أكن أتوقع، فقد صليت العشاء الآخرة ذات مساء ثم ذهبت إلى مضجعي، فرأيت فيما يرى النائم أني هممت بأن أسعى بعد طوافي، فقصدت إلى باب الصفا لأخرج منه إلى المسعى، فإذا سيدة تقبل علي تقبلني وتعانقني، فرفعت إليها عيني لأتبينها، فلما رأيتها لم أملك نفسي من الدهشة؛ فتلك صديقتي! نعم صديقتي التي اشتهرت بالخفة إلى حد الطيش، وقلت لها والدهشة لا تزال تملكني: «أنت هنا؟!» قالت: «نعم، مع زوجي، وقد رأيتك مقبلة علي فشعرت ونحن في بيت الله بأنا أختان إن فرقت بيننا أهواء الدنيا في بلادنا، فلا شيء يفرق بيننا في هذا البيت العتيق!» وزادني كلامها هذا دهشة، فما عهدتها تنطق بمثل هذه الحكمة من قبل، وقبلتها كما قبلتني، وأردت أن أستأذنها لأخرج فأسعى فأمسكت بيدي وقالت: «سأسعى معك.» وسعينا وكلتانا تدعو وتستغفر ربها، وتتلو ما ألقي علينا أن نتلوه في رواحنا وجيئتنا بين الصفا والمروة، فلما أتممنا سعينا سألتني عن موعد طوافي الغداة، وقالت: «سأكون إلى جانبك نطوف معا كما سعينا اليوم معا.»
ثم رأيتني عدت إلى مسكني، ولم تنقض دهشتي ولا أكاد أصدق ما رأته عيني، فلما ذهبت صبح الغد للطواف ألفيت صديقتي في انتظاري، وتقدمت نحوي حين رأتني وقالت: «إن لي معك حديثا قصيرا قبل أن نبدأ الطواف، لقد هتف الليلة هاتف بي تبينته طيف زوجك الأول استحلفني أن أقسم لك أمام هذا البيت المحرم أني ما كانت بيني وبينه قط ريبة، وأني ما أحببته ولا أحبني، وأنا لم تزد مودتنا على موجب الصداقة البريئة الطاهرة أملاها علي واجب الاعتراف بجميله لما صنعه لي ولأولادي من استخلاص ميراثنا، وأملتها عليه مروءته وشهامته.» ثم إنها جذبتني من يدي قبل أن أتمكن من أن أؤكد لها اقتناعي بصحة قولها، فلما كنا قبالة الحجر الأسود أقسمت هذه اليمين ثلاثا، ثم قالت: «والآن سامحيني يا صديقتي ليغفر الله لك ولي»، وأجبتها: «بل سامحيني أنت فيما كان من سوء ظني بك، وإفساد زواجك بمن تزوجته أنا، وأقسم لك كما أقسمت لي أمام هذا البيت أنني يوم أفسدت هذا الزواج لم أكن أفكر في التزوج من صديقنا برغم ما أذعت أنت من ذلك»، قالت: «فسامحيني في هذه كذلك، فإنما كنت أدافع عن نفسي وعن شرفي.» وسامحتني وسامحتها، وأقسمنا على أن نعود لصداقتنا الأولى، ثم طفنا حول الكعبة أداء لواجبنا وتوكيدا لقسمنا، وافترقنا وكلتانا تحمد الله أن طهر الله قلبينا وغسل برحمته ما غسل من ذنوبنا، وتدعو الله لبنيها ولذويها أن يكلأهم برحمته وعنايته.
Неизвестная страница