Так я был создан: длинная история
هكذا خلقت: قصة طويلة
Жанры
أجابت الأمريكية: «إن هذا الحب الرحيق الذي تذكرين، وهذه العاطفة السامية المكتفية بذاتها، حب ملائكي لا يعرفه بنو الإنسان، وهو على كل حال ليس الحب الذي يذكر القصاصون أن الرجل يقصد به إلى امتلاك المرأة، ولئن وجد هذا الحب الملائكي بين شاب وفتاة، أو بين رجل وامرأة، ونذر كلاهما لله أو للعذراء ألا يقرب أيهما صاحبه، وألا يكون بينهما قط شيء من صلة الجسد، إنهما إذن لمن أتقى أبناء الكنيسة الكاثوليكية البررة المطهرين، وليسا من أبناء عالمنا نحن، عالم الحياة والتجدد. أما حب الرجل والمرأة في عالم الحياة، فغايته إنشاء الشركة اللازمة لأداء واجب الحياة على خير وجه، ووسيلته التجانس والتجاذب بين الشريكين على نحو يكفل انتقاء أحسن بذرة للتربة التي تصلح لها، والتي تتكفل هذه الشركة بتعهد ثمراتها، هذه صورة مادية قد لا ترضي الخيال الشعري، لكنها الصورة التي تنتقل مع تاريخ الإنسانية منذ عرفنا تاريخ الإنسانية ، فالتشريع الذي وضعه الرجال في مختلف العصور يقررها، والواقع الذي تراه أعيننا يشهد بها، فإذا أراد رجل أو أرادت امرأة أن تسمو على هذه الصورة المادية فقد أنكر كلاهما واجب الحياة وتنكر له، وهذا - مع الشيء الكثير من الأسف - ما تيقنته أنا بعد تجارب كثيرة مريرة.»
قلت ملقية الكلام إلى الحاضرين من غير أن أوجهه إلى أحد بذاته: «والغيرة، ألها صلة بالحب؟ أم أنها مستقلة عنه قائمة بذاتها؟»
قالت الأمريكية وكأنما حرك هذا السؤال عندها شجنا دفينا: «غيرة المرأة عاطفة طبيعية باعثها الدفاع عن النفس، وعن الملك، فالمرأة - كما ذكرت - تملك الرجل الذي تحب وتحرص على ألا تفرط فيه، وهي لذلك تحوطه بالعناية التي يحيط بها الإنسان أعز ما يملك، وهي تعتبر ماله ملكها، وصحته ملكها، وقلبه ملكها، وسمعته ملكها، ومكانته في المجتمع ملكها، فإذا حاولت امرأة غيرها أن تغصب هذا الملك منها فمن حقها أن تدفع هذا الاعتداء بكل وسائلها، وفي مقدمة هذه الوسائل أن تنصب شباكها حول الرجل نفسه حتى لا يفلت منها، فإن نجحت فذاك، وإن تغلبت عليها غريمتها أو حاول رجلها أن يفر منها، فمن حقها أن تعلن عليهما حربا شعواء، قد تكون الهزيمة في هذه الحرب نصيبها، ولكن خوف الهزيمة لا يجوز أن يثنيها عن النضال، فلا تفرط في قيد أنملة من ملكها إلا مغلوبة على أمرها، وإذا هزمت مع ذلك فلها العذر، ولها من استماتتها في النضال عن ملكها عزاء عن فقده آخر الأمر، وإن لم يرد هذا العزاء فائتا، ولم ينجها من أن تغرق نفسها فيما يذيب الهم ويذهب الحزن.»
قالت الأمريكية عباراتها الأخيرة وقد شردت نظراتها، وانخفض صوتها، وكأنما حركت نفسها هواجس ماض قاست فيه أهوالا، وانهزمت فيه بعد دفاع طويل مجيد، عند ذلك أدركت حرصها على الشراب، تغرق فيه همها، وقد رأيتها ذلك اليوم أشد إكبابا عليه كأنما هاجت الذكرى أشجانها، فاستعانت بالشراب على نسيانها، وخشيت أن يعاودها من هذه الذكرى رجع يثير من نفسي ما لا أريد أن يثور، وأنا حريصة على أن أفيد لصحتي ولأعصابي ولكل حيويتي من هذا الاصطياف ما استطعت، فانتقلت إلى مصيف آخر أكثر مرحا، وأخذت أعبث أنا وأطفالي وأرتع معهم، نرتفع إلى قنن الجبال، ونلعب في الثلوج البيضاء المتراكمة عليها، ونهبط إلى الوديان نستمتع بخضرتها ومياهها، وننتقل ثم ننتقل حتى لا يدع لي المقام في مكان واحد فرصة للتفكير في غير المرح والمتاع.
وعدنا آخر الصيف إلى مصر، واستقبلنا زوجي على ظهر الباخرة أول ما أرست بالإسكندرية، وفرح الطفلان بأبيهما فتعلقا بعنقه وأخذا يقبلانه، فسألني هو كيف أمضينا صيفنا، فذكرت له طرفا مما رأينا، وذكرت الأمريكية التي زارها معي العام الماضي في غرفة نومها، ولكني لم أذكر شيئا من أحاديثها وأحاديث أصحابها، وسألته بدوري كيف قضى صيفه؟ ورجوت ألا يكون قيظ القاهرة أرهقه، وأجابني أنه استطاع أن ينتهز فترات جاء في أثنائها إلى الإسكندرية يستريح من عناء العمل، ويستنشق هواء البحر يسري به عن نفسه، ويعتاض به من قيظ بلغت درجته الأربعين في بعض الأيام، وذكرتني زوراته الإسكندرية حيث مصطاف صديقتي بهواجسي قبيل سفري إلى أوروبا، على أني آثرت الصمت فلم أقل شيئا.
وانتقلنا إلى القاهرة، وجاء صديقنا يحمد الله على سلامتنا، فأبدى اغتباطه بما أفدت لصحتي من رحلتي، وسروره بما عاودني من سكوني وطمأنينتي، وتقضت أوائل الخريف بعد ذلك رتيبة متشابهة تبعث إلى النفس السأم والملال، فلما كنت في الأيام الأولى من شهر ديسمبر أقبل زوجي يوما يذكر لي أن جماعة من أصدقائه الذوات، سيدات ورجالا، يريدون أن يستمتعوا تلك الليلة بضوء القمر عند سفح الأهرام، وأنهم يدعوننا لمشاركتهم في هذا المتاع، وأنه ذكر لهم أن مثل هذه النزهة الليلية غير مألوفة لي، فألحوا عليه في أن يقنعني بمشاركتهم وقبولي دعوتهم، وأنه وعدهم أن يفعل، وسألني بم يجيبهم، قلت: وما رأيك أنت؟ فأنا في هذا الأمر على ما تحب، إن شئت ذهبنا وإن شئت اعتذرنا.»
وإنما أردت بهذا الأدب الجم أن ألقي عليه كل التبعة، على أنني كنت أود من كل قلبي أن يقبل هذه الدعوة ، فهي لون جديد من الحياة يشوقني أن أعرفه، وأصحابها طراز من الجمعية القاهرية الراقية يسرني أن أتعرف إليهم، ولقد كنت فوق هذا وذاك أفكر في الوسيلة التي أسترد بها زوجي إلى حظيرتي، فلا يبقى لدي خيال شك في تعلقه بصديقتي، وقد استبد بي هذا التفكير بعد أن ذكر حين استقبلنا على الباخرة بالإسكندرية أنه جاء من القاهرة إليها غير مرة في أثناء غيابنا في أوروبا حين كانت صديقتي تصطاف بها، فإذا قبلنا هذه الدعوى فتحت أمامي بابا أنفذ منه للغرض الذي أقصد إليه.
وبدا على زوجي بعض التردد بعدما ذكرت أني تركت الأمر له. قلت: «فيم تتردد؟ إن لم يكن في هذه الدعوة ما يغريك فلا أيسر عليك من أن تعتذر عنها، وكل الذي أرجوك فيه ألا تحتج في اعتذارك بي حتى لا يفسر القوم ذلك تفسيرا يسوءني، تستطيع إن شئت أن تحتج بعملك، فأنت طبيب معرض لأن تطلب في كل وقت، أما إن راقك أن تقبل الدعوة فأبلغ أصحابها شكري إياهم، واغتباطي بالتعرف إليهم.»
وسكت زوجي هنيهة ثم قال: «أما وأنت لا ترفضينها فأنا أقبلها، وسأبلغهم ذلك الساعة، وإنني لواثق من أنك ستسرين بمعرفتهم، فهم غاية في الرقة رجالا ونساء، وقد أبدوا من الحرص على التعرف إليك ما شكرتهم عليه، وإنني لواثق من أنكم ستصبحون أصدقاء عما قليل.»
ما أشد غبطتي وما أسعدني بما قال! فهذا يتفق مع ما دار بخاطري، وما فكرت فيه من وسيلة أسترده بها إلى حظيرتي، لا بد أن أثير الغيرة في نفسه حتى لا يظل متوهما أنني لا أعرف غيره، ولا أحب غيره، ولا أقدر غيره، مما دعاه إلى الاكتفاء نحوي بأداء واجبه ربا لأسرتنا، وأن يتناسى شخصيتي وما حباني القدر من مواهب يعجب بها غيره أشد الإعجاب.
Неизвестная страница