فقال: «إنما جئت مودعا فكأني بهذا اليوم آخر أيامي من الدنيا.»
فخفق قلب حسن تأثرا، وترقرق الدمع في عينيه، ونظر إلى أسماء فإذا هي لم يبد في وجهها ما يدل على التأثر، فعلم أن ثباتها فوق ما كان يسمعه عنها، ثم ما لبث أن سمعها تقول لعبد الله: «امض على بصيرتك وادن مني حتى أودعك.» فدنا منها وعانقها فعانقته وأحاطت يديها بخصره وقبلته فوقعت يدها على الدرع فنفرت وقالت: «ما هذا صنيع من يريد ما تريد!» فقال عبد الله وقد بدا الخجل في وجهه: «ما لبسته إلا لأشد به متني.» فقالت: «إنه لا يشد متننا. البس ثيابك مشمرة.» فمد عبد الله يده إلى الدرع ونزعها، ودرج كميه، وشد أسفل قميصه وجبته تحت ثنيات سراويله وأدخل أسفلها تحت المنطقة، ثم خرج.
الفصل السادس عشر
مقتل ابن الزبير
خرج حسن في أثر عبد الله بن الزبير وقد عزم على البقاء معه حتى النهاية. وشعر عبد الله بذلك، فالتفت إليه وقال: «ناشدتك الله ألا تعرض نفسك للقتل.»
وكان حسن على يقين من فوز جند بني أمية، لكثرتهم واتحادهم، ولكنه ظل سائرا في أثره حتى خرجا من المنزل، فلما وقع نظر عبد الله على المنتظرين هناك وقد تهيأوا للقتال وغطت الدروع أبدانهم، قال لهم: «اكشفوا وجوهكم حتى أنظر إليكم.» ولما كشفوها علم أنهم بقية أهله فقال: «يا آل الزبير لو طبتم بي نفسا عن أنفسكم كنا أهل بيت من العرب اصطلحنا في الله. فلا يفزعكم وقع السيوف؛ فإن ألم الدواء للجراح أشد من ألم وقعها. صونوا سيوفكم كما تصونوا وجوهكم، غضوا أبصاركم عن البارقة، وليشغل كل امرئ قرنه، ولا تسألوا عني فمن كان سائلا عني فإني في الرعيل الأول. احملوا على بركة الله.»
وبقي حسن حائرا لا يستطيع الاشتراك في القتال، نزولا على رغبة ابن الزبير. وحتى لا يراه الحجاج أو بعض رجاله فيثبت لديهم ما اتهمه به عرفجة. فآثر الالتجاء إلى المسجد حتى تنتهي المعركة. فلما مضى عبد الله ومن معه إلى القتال التفت فرأى أعلام بني أمية قد ملأت الطرقات، فسارع إلى المسجد الحرام، ولكنه لم يستطع الدخول؛ لأن الحجاج كان قد أوقف ببابه أناسا ليمنعوا الناس من دخوله، فدخل منزلا إلى جوار المسجد وأطل من كوة فيه فرأى ابن الزبير يناضل مناضلة الأسود، وينتقل في المعمعة من جهة إلى أخرى، وبجانبه ابن صفوان يدافع عنه، ثم سمع عبد الله يقول: «ويلمه فتحا لو كان له رجال.» فقال له ابن صفوان: «أي والله وألف.» فحدثت حسن نفسه بأن يمضي إليهما ويقاتل معهما، ثم لاحت منه التفاتة فرأى الحجاج قد ترجل وأقبل يسوق الناس إلى مقاتلة ابن الزبير بعد أن رآهم لا يقوون على الوقوف بين يديه، وكان حامل علم ابن الزبير يقف بباب شيبة من أبواب المسجد، فهجم الحجاج عليه بمن معه، فرآهم ابن الزبير فسارع إلى صدهم عنه، واستمر القتال على أشده بباب المسجد، ثم دخله الفريقان، ولم يمض قليل حتى استطاع الحجاج ورجاله قتل صاحب العلم وأخذوه منه، فتفرق رجال ابن الزبير من حوله، ولكنه ظل يقاتل حتى قتل هو وابن صفوان، ثم رأى حسن رجلا أسرع إلى جثة عبد الله وحز رأسه وحمله إلى الحجاج، فلما رأى الحجاج الرأس سجد وأكرم صاحب البشارة. ثم أمر بأن يحمل رأسا ابن الزبير وابن صفوان إلى المدينة، وبأن تصلب جثة ابن الزبير في الحجون - وقد صلبوها أياما - وهكذا أيقن حسن بانتصار الحجاج، وتذكر أن سمية عنده في المعسكر، فرأى أن يسارع إليها فيه ، فإما نجا بها، وإما عاد إلى محبسه، وسرعان ما تسلل إلى المعسكر، وهو يحاذر أن يراه أحد ممن يعرفونه فيحبط مسعاه، وقال في نفسه: «لقد خلا الجو لعبد الملك بن مروان وأصبحت الخلافة لا ينازعه فيها منازع.» وكان حسن كلما دنا من معسكر الحجاج تمثلت له النجاة بسمية هينة، فمشى وهو لا يزال بلباس الحرس والحربة بيمينه فلا يشك الذي يراه عن بعد أنه من حرس الحجاج، فلما دخل المعسكر لم ير فيه إلا نفرا قليلا من الحامية. فالتمس خباء النساء وقلبه يخفق لما يتنازعه من عوامل الرجاء والخوف الحياء والشوق. فبينما هو يرجو السعادة بالفرار بسمية كان يعد الفرار عارا، ولكنه هونه على نفسه؛ لأنه لا يرى غير الفرار سبيلا إلى نجاته وإلا فإنه سيكون سببا لتعاسة سمية أو قتلها. فمشى في طريقه إلى المعسكر، وهو في ملابس الحراس التي أخذها من خادمه، فلما بلغه رأى أن يذهب أولا إلى خيمة السجن ليرى ما تم في أمر خادمه الأمين وليستعين به على إنقاذ سمية، فلما بلغ الخيمة رآها خالية، فوقف برهة يفكر في الأمر، ثم رأى أن يعجل بالذهاب إلى سمية في الخباء لئلا تفوت الفرصة. وفيما هو سائر وقد أوشك أن يبلغ الخباء سمع صوت أبواق، فالتفت فرأى جماعة من الفرسان عائدين من مكة، فأسرع في مشيته ليبتعد عنهم. وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب فلما أطل على الخباء لم ير حوله أحدا، وخشي أن تحول بغتة سمية دون ما يبغيه من سرعة الخروج بها؛ لأنها لم تره منذ خروجه من المدينة، فتمهل في سيره، وأخذ يبحث لمعرفة مدخل الخباء ومخرجه، وهل سمية وحدها، أم عندها أحد من النساء أو الخدم أو غيرهم.
وفيما هو يدور حول الخباء سمع خفق نعال فيه، فأصاخ بسمعه فرأى شبحا خارجا، وما تفرس فيه حتى أدرك أنه أمة الله جارية سمية، ولم يكن قد رآها من قبل ولكنه سمع بأوصافها، أما هي فكانت قد رأته في دار عرفجة بالمدينة، فلما رأته والحربة في يمينه وعليه ثياب حراس الحجاج، استعاذت بالله، ثم ما لبثت أن تفرست فيه فعرفته وقالت: «حسن؟!»
قال: «نعم. أين مولاتك؟»
قالت: «هنا». وأشارت إلى الخباء الذي خرجت منه.
Неизвестная страница