إهداء
المقدمة
تمهيد
اعترافات حافظ نجيب
حافظ نجيب ... الصحفي
حافظ نجيب ... الكاتب الاجتماعي
حافظ نجيب ... الشاعر
حافظ نجيب ... الروائي
حافظ نجيب ... المسرحي
رواية «الحب والحيلة»
رواية «محور السياسة»
إهداء
المقدمة
تمهيد
اعترافات حافظ نجيب
حافظ نجيب ... الصحفي
حافظ نجيب ... الكاتب الاجتماعي
حافظ نجيب ... الشاعر
حافظ نجيب ... الروائي
حافظ نجيب ... المسرحي
رواية «الحب والحيلة»
رواية «محور السياسة»
حافظ نجيب
حافظ نجيب
الأديب المحتال
تأليف
سيد علي إسماعيل
إهداء
إلى أمي الحبيبة
صاحبة الدعوات المستجابة
دعواتي لك بالصحة والعمر المديد.
ابنك سيد
المقدمة
ظهر في السنوات الأولى من القرن العشرين، كجاسوس على ألمانيا لصالح فرنسا، ثم سار في حواري وأزقة القاهرة كبائع للحمص والفيشار وحلوى الأطفال، ثم عمل خادما في منزل رئيس النيابة، بعدها وجدناه تاجرا يدعي بنفيه؛ حيث مات ودفن في القبر، وبعد ساعات عاد إلى الحياة، لنجده بارونا يهوى الآثار، ثم يعيش عاما في أحد الأديرة القبطية حيث كان راهبا، ثم نجده يتنزه في يخت حاملا لقب كونت سويدي ... وهكذا وجدناه في أكثر من شخصية بعد ذلك، منها: المسيو توندور، الخواجا غالي، مسيو أنطوان دوريه، بنفيه خادم الملكة ناتالي، محمد صبحي، الشيخ بكر، الأمير يوسف كمال، ابن شقيق أفلاطون باشا، المندوب السامي العثماني!
وهذه الأدوار والشخصيات، خلقت منه أسطورة شعبية، لا مثيل لها! فقد لقبه صديقه بنابغة المحتالين، ولقبه آخرون بألقاب عديدة، منها: أرسين لوبين المصري ... اللص الظريف ... جحا ... الثعلب! فمن هذا الشخص؟!
إنه حافظ نجيب ... الأديب المحتال! الذي قام بدوره الفنان محمد صبحي، في مسلسل «فارس بلا جواد»، ذلك المسلسل الذي أحدث ضجة فنية وسياسية عالمية، منذ فترة قصيرة! وهذا الكتاب، يتعرض لشخصية حافظ نجيب، في جوانب كثيرة مجهولة، لا يعلمها الكثيرون حتى الآن! بل هناك أشياء لا يعلمها أي إنسان حتى صدور هذا الكتاب. فإلى من لا يعلم حقيقة حافظ نجيب، أقول له:
إن حافظ نجيب كان صحفيا، حيث شارك في تحرير مجلة «العالمين» عام 1923، وأصدر مجلة «الحاوي» من منزله عام 1925. وفي هاتين المجلتين، كتب في أمور شتى ، منها: الأخلاق والاجتماع والقصص والنقد والألعاب الرياضية والتدبير المنزلي!
ولم يكتف حافظ نجيب بكونه صحفيا، بل وجدناه كاتبا اجتماعيا وفيلسوفا؛ حيث تخصص في ترجمة وتعريب الكتب الاجتماعية والفلسفية منذ عام 1912 إلى 1923. وفي هذه الفترة أصدر ستة كتب، هي: «روح الاعتدال»، «غاية الإنسان»، «الناشئة»، «دعائم الأخلاق»، «مناهج الحياة»، «الغرور». وأول كتابين أصدرهما باسم زوجته وسيلة محمد!
ومن الواضح أن هذه المجالات لم ترض غرور حافظ، فاقتحم مجال الإبداع الأدبي، حيث وجدناه شاعرا، يكتب الأشعار وهو بين جدران السجون! ثم وجدناه روائيا يكتب الروايات الطويلة المؤلفة والمترجمة، بالإضافة إلى القصص القصيرة! ومن هذه الأعمال: «الحب والحيلة»، «ثورة العواطف»، «عواطف المرأة»، «غرام الملك»، «شقاء العشاق»، «عضو البرلمان»، «روايات جونسون»، «روايات ملتون توب»، «الغرفة الصفراء»، «الشبح المخيف».
وأخيرا وجدناه مسرحيا حيث ألف مجموعة لا بأس بها من المسرحيات، منذ عام 1905 إلى 1927، منها: «نكبات الهوى»، «الحب والحيلة»، «قوة الحيلة»، «الجاسوس المصري»، «محور السياسة»، «في سبيل الحرية»، «بم بم»، «الهوسة». ومن خلال المسرح وجدنا حافظ نجيب يكون فرقة مسرحية عام 1919، ظلت تعمل بصورة غير منتظمة حتى عام 1927. وكان حافظ صاحب الفرقة ... ومخرجها ... ومؤلف مسرحياتها ... وممثلها الأول!
وإذا كانت أغلب أعمال حافظ نجيب الأدبية المطبوعة، من الصعب الحصول عليها، إلا أن المستحيل بعينه هو أن تجد له مسرحية مطبوعة! والسبب في ذلك أن مؤلفاته المسرحية غير مطبوعة. والجديد الذي سيجده القارئ في هذا الكتاب، يتمثل في وجود مخطوطتين، يتم نشرهما في هذا الكتاب لأول مرة! المخطوطة الأولى لمسرحية «الحب والحيلة» المؤلفة عام 1915، والمخطوطة الأخرى لمسرحية «محور السياسة» المؤلفة عام 1920.
والله ولي التوفيق ...
دكتور
سيد علي إسماعيل
القاهرة في 19 / 8 / 2003
تمهيد
كلمة عن مسلسل «فارس بلا جواد»
ابتداء من أكتوبر عام 2002 ولفترة طويلة، أحدث المسلسل المصري «فارس بلا جواد» - بطولة الفنان محمد صبحي - ضجة سياسية وفنية لفتت إليه أنظار العالم. ومن الآثار السياسية العالمية لهذه الضجة، أن قدمت السفارة الأمريكية في مصر احتجاجا على عرض المسلسل؛ لأنه يعادي السامية، لاعتماده على كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون». وقد أذاعت شبكة
ABC
الفضائية الأمريكية خبرا حول هذا الموضوع، ونقلت عن إبراهام فوكسمان - رئيس مكتب مكافحة العداء للسامية في نيويورك - نقده للحكومة المصرية، لسماحها بعرض مسلسل يزيد الكراهية لليهود. كما طالب نائب وزير الخارجية الإسرائيلي بمنع المسلسل أيضا، فقام أعضاء لجنة الثقافة والإعلام بالبرلمان المصري برفض هذه المطالب وهذه الاحتجاجات.
ومع قرب عرض المسلسل في أكثر من 22 قناة تلفزيونية عربية وفضائية، تطور الأمر إلى الدعوة بسحب السفير الإسرائيلي من القاهرة، والتهديد باللجوء إلى اللوبي اليهودي القوي في الولايات المتحدة الأمريكية، للعمل على وقف المساعدات المالية لمصر؛ لأن مصر انتهكت معاهدة السلام بعرضها لهذا المسلسل. ووقف الفنانون والمثقفون المصريون موقفا إيجابيا ضد الحملة الإسرائيلية، وأصدروا بيانا أكدوا فيه حرية الفنان في إبداء رأيه الفني، وأنه حق يكفله الدستور. كما أكدوا أن المسلسل عمل درامي لا يشكل أي تهديد للسامية.
وقد قامت بعض الجماهير في أمريكا، بالتجمع أمام السفارة المصرية بواشنطن، مطالبة بوقف عرض المسلسل، وقام أيضا أعضاء الكونجرس الأمريكي بمطالبة الرئيس محمد حسني مبارك بوقف المسلسل، فأدان أحمد ماهر وزير الخارجية المصري هذه الضجة المفتعلة وغير المبررة. كما قام مركز المعلومات والوثائق الإسرائيلية في لاهاي بهولندا، بتنظيم مظاهرة أمام السفارة المصرية اعتراضا على المسلسل. أما نبيل فهمي سفير مصر لدى أمريكا، فقد فند الافتراءات التي تضمنتها افتتاحية صحيفة واشنطن بوست، بخصوص انتقاداتها للحكومة المصرية، لعدم منعها عرض المسلسل.
وقد أكد الرئيس حسني مبارك لنظيره الإسرائيلي، بأن المسلسل ليس له أي طابع معاد للسامية. ثم طالبت إسرائيل مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بتوجيه اللوم إلى مصر، بزعم معاداتها للسامية من خلال عرضها للمسلسل. وقد حاولت جماعات يهودية متطرفة في أوروبا، طرد الفنان محمد صبحي من أية دولة يحاول زيارتها، مع إغلاق المكاتب التابعة للمحطات التلفزيونية، التي ستبث المسلسل، مع فرض عقوبات على هذه المحطات.
ووصلت ضجة مسلسل «فارس بلا جواد» إلى مواقع الإنترنت، حيث طرح موقع
BBC
موضوعا للمناقشة، ومن ثم تلقى مشاركات زوار الموقع، وكان الموضوع المطروح هو: «اعترضت الولايات المتحدة وإسرائيل على بث مسلسل فارس بلا جواد، الذي ثار حوله جدل في وسائل الإعلام العربية، بين القائلين بأنه يفضح مؤامرة يهودية، ومن يرون أنه يعتمد على كتاب بروتوكولات حكماء صهيون، الذي أكد باحثون عرب أنه عمل ساذج ومدسوس، ويخلو من المصداقية.»
1
وبالرغم من حدوث هذه الضجة السياسية، فقد تم عرض المسلسل في معظم القنوات التلفزيونية العربية والفضائية، وبدأت الأقلام تكتب عن حافظ نجيب واعترافاته، ومدى الصدق التاريخي فيها، ومدى التزام المسلسل بما جاء في الاعترافات من أحداث. كما قام الفنان محمد صبحي بالدفاع عن عمله، من خلال توضيح بعض الأمور، منها أن المسلسل يعتمد على الحقبة التاريخية، التي اعتمدتها «اعترافات حافظ نجيب»، الذي قاد المقاومة ضد الإنجليز. وأن إعجابه بحافظ نجيب كان بسبب قدرته على التنكر، وهو أمر اكتسبه من صديقه عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية. هذا بالإضافة إلى إخلاصه لقضيتين؛ الأولى: التخلص من الاحتلال الإنجليزي. والأخرى: إحباط المخططات الصهيونية للاستيلاء على فلسطين. ولأنه مشغول بكشف بروتوكولات حكماء صهيون، ويراها أساسا للصهيونية ومشروعها؛ فقد وجد صبحي في «اعترافات حافظ نجيب»، خلفية درامية خصبة لتقديم عمل يكشف هذه البروتوكولات، خصوصا علاقة حافظ نجيب بالزعيمين مصطفى كامل ومحمد فريد. كما أنكر محمد صبحي ما شاع عن حافظ نجيب بأنه محتال ونصاب، وأكد أن هذه الاتهامات لا أساس لها، ولكنها شائعات أراد قائلوها تشويه المسلسل، وتشويه الدور الوطني لحافظ نجيب!
وبسبب نجاح مسلسل «فارس بلا جواد»، وجدنا أكثر من شخص يدعي أنه صاحب فكرته، بل ويطالب بحقه في المحاكم. ومنهم، طلعت نجيب المحامي، الذي رفع دعوى ضد محمد صبحي واتحاد الإذاعة والتلفزيون وقناة دريم الخاصة، اتهمهم فيها بالاستيلاء على قصته «مع القدر وجها لوجه»، التي عالجت قصة حافظ نجيب، وطالب بانتداب خبير لمقارنة قصته بقصة مسلسل فارس بلا جواد. ولكن قاضي الأمور الوقتية بمحكمة القاهرة، رفض طلبه بسبب عدم تقديمه ما يثبت بأنه صاحب فكرة قصة المسلسل. ثم وجدنا فضل عفاش - الكاتب والروائي السوري - يرفع قضية أخرى، يتهم فيها أيضا محمد صبحي بأنه استولى على قصته «أنا لا أحبك يا وطني»، وحولها إلى مسلسل فارس بلا جواد.
2
غلاف المجلد الأول لمجلة «المشرق» عام 1898.
هذه خلاصة الضجة التي أثيرت حول المسلسل. ومهما يكن من أمر التزام أو مخالفة المسلسل، لما جاء في «اعترافات حافظ نجيب»، التي تعتبر الأساس الأول لفكرته، فإن القائمين على ظهور المسلسل بهذه الصورة، قد وفقوا إلى حد كبير في الوصول إلى أهدافه الفنية والسياسية. فالمسلسل كان أكبر دعاية لإعادة قراءة كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون»، وبثه في أكثر من موقع من مواقع الإنترنت، وبالتالي إتاحة الفرصة للجميع لقراءته وتفهم ما فيه من مخطط صهيوني، ظهرت نتائجه - وما زالت تظهر بقوة - في وقتنا الحاضر. هذا بالإضافة إلى أن المسلسل أعاد للأجيال الحالية فترات زمنية تاريخية، كادت أن تنسى، مثل الحلقة الخاصة بمذبحة دنشواي.
أما على المستوى الشخصي، فقد أجاب المسلسل على تساؤل كان محيرا لي منذ فترة طويلة، مفاده: لماذا ادعت إسرائيل بأن اليهود هم بناة الأهرام المصرية؟! وأظن أن القارئ لم ينس الضجة التي أثيرت حول هذا الأمر، وكم الكتابات النافية لهذا الادعاء. وما زاد من حيرتي أمام هذا الادعاء، أنني قرأت كما كبيرا من الكتابات عن الآثار اليهودية المكتشفة في مصر! تلك الاكتشافات التي تبنى الكتابة عنها الأب لويس شيخو في مجلته «المشرق» في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين!
فقد ذكر لويس شيخو أن العالم الأثري الدكتور بيتري، اكتشف بلاطة عليها كتابة هيروغليفية لرعمسيس الثاني وابنه منفتاح، تؤكد أن منفتاح استعبد شعوبا متعددة ومن جملتها إسرائيل، وأكد هذا الأمر العالمان شاباس والأب يوسف أوتفاج. كما ذكر أن إقامة بني إسرائيل في مصر بلغت 215 سنة، منذ دخول يعقوب وذريته في أرض الفراعنة، وأن العالم كلرمون غانو اكتشف في جزيرة اليفانتين أو جزيرة أسوان في مصر، آثارا تدل على موقع مدينة «يب» اليهودية، ووجد فيها 124 قطعة من الخزف، عليها كتابات آرامية، كتبها في القرن الخامس قبل الميلاد قوم من اليهود المستعمرين في تلك الجزيرة. كما تم اكتشاف مجموعة من البرديات، مكتوبة من قبل يهود الجزيرة أيضا. وكان أهم اكتشاف في هذه الجزيرة، هو اكتشاف بقايا الهيكل، الذي بناه اليهود في الجزيرة نفسها، وهو يتشابه إلى حد كبير مع هيكل سليمان في فلسطين.
3
ومن الغريب أنني لم أجد باحثا أو عالما أثريا عربيا واحد، فند هذه الادعاءات في وقتها! أو على أقل تقدير كتب رأيه العلمي في المجلة نفسها، سواء بالإثبات أو بالإنكار! رغم أن لويس شيخو نفسه، أظهر نيته السيئة بذكر هذه الأخبار، عندما قال في مجلته (المشرق، 1 / 1 / 1908، صفحة 55): «وخلاصة القول قد أظهرت بهذه المكتشفات العلاقة بين تلك الآثار الآرامية الجليلة، وبرزت إلى الوجود صفحة عزيزة من تاريخ بني إسرائيل بعد جلائهم. وما يزيد الأمر قدرا أن معارفنا عن ذلك العهد كانت أعز من بيض الأنوق، لا نكاد نعلم شيئا من أمر اليهود، منذ عهد نحميا وعزرا إلى ملك الإسكندر، فجاءت هذه الكتابات تسد بعض الخلل في ذلك.»
ولعل القارئ يتساءل: ما علاقة هذا الأمر بمسلسل فارس بلا جواد؟ والإجابة على هذا السؤال، ظهرت في إحدى حلقات المسلسل، عندما اتفق بعض اليهود مع الخواجا دي ماسون العالم الأثري الأجنبي - وهو محمد صبحي متنكرا - بأن يعطوه بعض الآثار اليهودية، كي يضعها ضمن الآثار المكتشفة في مصر، مقابل رشوة مالية! هذا المشهد فسر لي ما قاله لويس شيخو عن اكتشاف الآثار اليهودية في مصر منذ أكثر من مائة عام! كما فسر لي أيضا لماذا ادعت إسرائيل بأن اليهود هم بناة الأهرام! فإذا كان المسلسل فضح هذه المؤامرة الصهيونية، وكشف النقاب عن أسلوب اليهود في غرس آثارهم، وبالتالي وجودهم في تاريخ الشعوب العربية، فيكون المسلسل قد نجح في هدفه السياسي عن طريق الفن!
ومن عجائب القدر، أن مسلسل «فارس بلا جواد»، لم يكن أول عمل فني يعرض على الجمهور عن مغامرات حافظ نجيب! فقد قام حافظ نجيب منذ عام 1915 إلى عام 1921، بتمثيل مغامراته بنفسه أمام الجمهور، من خلال مجموعة من المسرحيات، ألفها حافظ عن حوادثه ومغامراته. ومن هذه المسرحيات: «الحب والحيلة»، «قوة الحيلة»، «الجاسوس المصري»، «محور السياسة »! وسوف نتعرف على هذا الأمر بالتفصيل لاحقا.
ومن عجائب القدر أيضا، أن حافظ نجيب وقبل وفاته عام 1946 بدقائق معدودة «كان يناقش أحد المخرجين السينمائيين، محاولا الاتفاق معه على تمثيل إحدى مغامراته»،
4
ولكن قدر الموت منع هذا العمل الفني، ليأتي الفنان محمد صبحي، ويحقق أمنية حافظ نجيب بعد مرور ستين سنة! ومن عجائب القدر أخيرا، أن الفنان محمد صبحي تنكر فنيا في شخصية حافظ نجيب عام 2002 في مسلسل «فارس بلا جواد»، مثلما تنكر حافظ نجيب في شخصية «محمد صبحي أفندي» عام 1909 في إحدى مغامراته، عندما كان يسكن في شارع أبو السباع عند سيدة إيطالية تدعى مادلين.
5
وكأن القدر كتب على فرد منهما، أن يمثل دور الآخر!
وإذا أردنا أن نتطرق إلى مسلسل فارس بلا جواد، وعلاقته بكتاب «اعترافات حافظ نجيب»، سنجد أن شخصية حافظ في المسلسل، تختلف اختلافا كبيرا عن حافظ نجيب في اعترافاته. فالمسلسل يظهر حافظ نجيب بطلا شعبيا وقوميا، نذر حياته لمقاومة الإنجليز، وإحباط المحاولات الصهيونية في المنطقة العربية، متخذا من التنكر والهروب الدائم وعلاقاته النسائية، وسائل للوصول إلى غايته الوطنية السامية.
ورغم أن هذا الوصف بعيدا كل البعد عن حافظ نجيب في اعترافاته، إلا أن عدة أسطر قليلة جاءت في هذه الاعترافات، تشير إشارة غامضة، بأن دورا وطنيا قام به حافظ نجيب في يوم ما، أثناء مرض الزعيم مصطفى كامل، واستمر هذا الدور لفترة قصيرة بعد وفاة الزعيم! وهذه الإشارة اليسيرة، كانت الأساس الذي بني عليه الدور الوطني لحافظ نجيب في المسلسل. وبسبب الشكوك المثارة حول وطنية حافظ نجيب، وتصادمها مع ما عرف عنه بالنصب والاحتيال، نتوقف قليلا هنا لنبين حقيقة هذه الإشكالية!
جاء في اعترافات حافظ نجيب، أنه ابتعد عن زوجته الكونتس سيجريس، فوجد نفسه ضائعا لا أمل له، فأدمن الخمر أملا في نسيانها، ونسيان كل ما يحيط به من ضياع. وعندما فشل، فكر في الرهبنة عام 1908 - رغم أنه مسلم! - قائلا: «استعرضت الماضي كله فكان سلسلة من أنواع الشقاء وألوان العذاب، وحددت حالي في المجتمع، فرأيته صورة لإنسان لا تربطه بالجماعة أية رابطة، من نوع ما بين الناس وبعضهم. ليس لي أهل، ولا أقارب، ولا أصدقاء، ولا عمل منظم، ولا عقل مركز، ولا هدف، ولا استقرار، ولا أمل. فما هي قيمة الحياة في نظر هذا الإنسان؟ وما هي الضرورة التي ترغمه على البقاء وسط الجماعة، معزولا عنها؟»
6
ورغم هذا الإحباط الواضح من كلماته المريرة، والتي توحي بأنه سيقدم على الانتحار لا محالة! نجده يقول: «عقدت العزم على دخول الدير والترهب. وعرضت الأمر على بعض الزملاء، المشتغلين بالسياسة من منشئي النهضة الوطنية، فحبذوا رأيي.»
7
وهذا القول يتناقض مع نفسية حافظ نجيب في هذا الوقت، عندما اعترف بعدم وجود أية رابطة بينه وبين المجتمع، ولا يوجد له أهل أو أقارب أو أصدقاء أو عمل أو عقل أو هدف ... إلخ! فكيف يعرض أمر ترهبه على رجال السياسة؟! ومن هم هؤلاء الرجال؟!
نلاحظ أن قوله: «من منشئي النهضة الوطنية»، يقصد به رجال الحزب الوطني، وتحديدا يقصد الزعيمين محمد فريد ومصطفى كامل، رغم عدم تصريحه بالأسماء، ولكن فحوى كلامه دل على ذلك، عندما قال: «وقال أحدهم: «يجوز أن يكون الدير وسيلة لذهابك إلى الحبشة في منصب مطران الحبشة، وذلك البلد لا يزال مستقلا، ومنصب المطران هناك منصب عظيم جدا، واحترام الأحباش للجالس على كرسي المطرانية أعظم من إجلالهم للجالس على العرش.» وقال الثاني وهو على فراش مرضه الأخير: «وفي مقدور المطران المثقف ثقافة عالية أن ينشئ هناك جيشا يعلم ضباطه في النمسا أو ألمانيا، فيصير في مقدوره اغتصاب السودان وإنقاذ مصر من المحتلين.» وقال الأول: «هذا سر خطير ... فاحتفظ به لنفسك، ولا تيسر لأي صديق معرفته».»
8
ومن الواضح أن المتحدث الأول في الحوار السابق هو الزعيم محمد فريد، والمتحدث الآخر هو الزعيم مصطفى كامل، الذي كان على فراش مرضه الأخير في هذا الوقت، ولكن الغريب في الأمر، أن هذه الإشارة التي تدل على علاقة حافظ نجيب بهذين الزعيمين وعلاقته بالحزب الوطني، لم يكن لها أي تقديم أو تمهيد في الاعترافات قبل ذلك ، حيث إن هذه الإشارة جاءت عام 1908، والاعترافات تنتهي في عام 1909! وبالرغم من ذلك فنحن لا نملك أي دليل على هذه العلاقة، سوى ما جاء عنها في هذه الاعترافات.
ونعلم من الاعترافات أيضا، أن حافظ نجيب بعد هذه المقابلة، أصبح الراهب غبريال إبراهيم في دير بشوي، ثم الراهب غالي جرجس أو فيلوثاؤس في دير المحرق بأسيوط. وعندما مات مصطفى كامل في 10 / 2 / 1908، رثاه الراهب فيلوثاؤس أو حافظ نجيب بقصيدتين، تم نشرهما في جريدة الوطن، فنال الراهب شهرة واسعة كشاعر، فطلب مقابلته غبطة البطريرك في القاهرة، ولكن الراهب أو حافظ نجيب خشي أن ينكشف أمره، فلم يذهب إلى مقابلته، ولكنه ذهب إلى مكان آخر، قال عنه: «سافرت في صباح النهار الثاني إلى القاهرة، وإلى بيت المرحوم محمد بك فريد، بدلا من مقابلة البطريرك. واستاء المرحوم من قصدي إليه، وأنبني في غضب شديد، بسبب نشر المرثيتين في الصحف، وبسبب ما أحدثا من الضجة حول الراهب الشاعر، وقال: «لقد ذهبت إلى الدير لتختفي فيه وتعتزل العالم وقتا طويلا، لينساك الناس ولتصل من الدير إلى الهدف الذي تهدف إليه، فمن الحماقة التي لا تغتفر ما فعلت؛ لأنه أحدث ضجة تمنعك من البقاء في الدير».»
9
وهنا نجد الأمر يتطور بالنسبة إلى وطنية حافظ نجيب، حيث يشير الكلام السابق، أن الزعيم محمد فريد كان على علم بأن حافظ نجيب دخل الدير من أجل هدف معين، وهذا الهدف خطير وسري جدا! ولكن بكل أسف لم نعلم ما هو هذا الهدف، ولم يوضحه حافظ نجيب في اعترافاته، بل زاده غموضا مصحوبا بالتشويق، قائلا: «كنت أتصل بالجهة السياسية التي نصحت لي باللجوء إلى الدير بالمراسلة، أرسل كتبي بعنوان رجل مسيحي كاتب بمكتب إسماعيل الشيمي المحامي، وكانت الإجابات ترسل إلى وعليها توقيع عمتي المسيحية.»
10
وهذا الأمر يشير إلى أن حافظ نجيب كان يقوم بمهمة سياسية معينة، لصالح الحزب الوطني، بدليل هذه الرسائل المتبادلة، تلك الرسائل التي كانت تحمل أسرارا خطيرة وصفها حافظ في اعترافاته بأنها: «أسرار غاية في الخطورة؛ لأنها في الأيام الأخيرة كانت تلح علي بترك الدير والعودة إلى القاهرة لتنفيذ أغراض سياسية لتلك الجهة.»
11
وفي إشارة نادرة، وجدنا حافظ نجيب يسرد واقعة صريحة، تعامل فيها مع الزعيم محمد فريد، قائلا: «كانت الصحف القبطية تهاجم في عنف الأديرة القبطية بسبب خروجي من الدير، فصار اسم الراهب حديث الجميع. واستغل محمد بك فريد هذه الضجة فدفع لي مالا لأنفق منه لتحضير حفلة عشاء أدعو إليها جماعة من عظماء الطائفة القبطية ورئيس الحزب الوطني والشيخ عبد العزيز [جاويش]، فتمت الحفلة في فندق ناسيونال بتاريخ 2 ديسمبر 1908، ونجح محمد فريد في خطته، وبدأت علاقات ودية جديدة بين بعض إخواننا الأقباط المثقفين والحزب الوطني.»
12
وعلى الرغم من صراحة هذه الإشارة، فيما يتعلق بالمال المدفوع من قبل محمد فريد، وعلاقته بحافظ نجيب، فإن الشك يحوط هذا الموضوع بصورة كبيرة! لأن حافظ نجيب ذكر هذه العلاقة فقط في اعترافاته عام 1946، ولكنه أنكرها ولم يأت بقصة هذا المال ولم يشر إلى علاقته بمحمد فريد، عندما ذكر تفاصيل هذا الموضوع لأول مرة عام 1924 في مجلة «العالمين»!
13
هذا هو كل ما جاء في اعترافات حافظ نجيب، بخصوص وطنيته وعلاقاته برجال الحزب الوطني! ومن الملاحظ أن هذه الأقوال اليسيرة - بالمقارنة بما في الاعترافات من أحداث - لا تقطع بأن دورا وطنيا قام به حافظ نجيب، كما أنها لا تدل مطلقا على هذا الدور، لما يحوطها من شك، ولخلوها من الأدلة المنطقية أو من ذكر الأسماء، أو من ذكر الوقائع والأحداث والمغامرات الخاصة بهذا الدور! وهذا أمر يثير الشك في هذا الدور وفي الاعترافات نفسها! لأن حافظ نجيب أسهب وأطنب وفصل في أحداث كثيرة، تتعلق بهروبه وتنكره وعلاقاته النسائية وحياته الخاصة ... إلخ، مع ذكر الأسماء الحقيقية والأماكن، ودل على أمور خطيرة بذكر أسماء أصحابها، وكان البعض منهم على قيد الحياة وقت نشر الاعترافات، بل وتحدى القارئ إذا فكر في تكذيبه.
فعلى سبيل المثال، نجده في الاعترافات يذكر قصة دخوله الدير، وتنكره في شخصيتي الراهب غبريال إبراهيم والراهب غالي جرجس أو فيلوثاؤس، ثم يذكر الأسماء الحقيقية للرهبان والقساوسة الذين تعامل معهم في هذه الفترة، مع ذكر وظائفهم ورتبهم الدينية وأماكن عملهم في هذا الوقت، وما استجد عليهم من تنقلات وترقيات في الوظائف والرتب الدينية التي تمت بعد ذلك.
14
ولعل القارئ يسأل: أليس من الممكن أن يكون حافظ نجيب، ذكر قصة الرهبنة التي تمت عام 1908، وهو آمن ومطمأن من صعوبة تكذيبه؛ لأنه كتبها وتم نشرها عام 1946، فإذا كان قد كتبها قبل ذلك بسنوات كثيرة، ربما وجد من يكذبه؟!
والحقيقة الغائبة أن حافظ نجيب - بالفعل - كتب قصة دخوله الدير، بكل تفاصيلها، ولأول مرة عام 1924 في مجلة «العالمين»!
15
قبل أن يذكرها بتفاصيل أحداثها الدقيقة في اعترافاته عام 1946! والأغرب من ذلك، أنه اختتمها بكلمة قال فيها: «هذه قصة وجودي في الدير وخروجي منه، وشهودها أحياء، القمص إيسيذورس لا يزال حيا يرزق وهو رئيس الدير الآن، ونيافة الأنبا باخوميوس وهو لا يزال أسقف الدير، والقس بطرس وهو الآن مطران أخميم، والقمص باخوم وعاذر أفندي جبران وبيومي أفندي الشناوي وكلهم أحياء، كذلك وكيل الدير تاضروس أفندي ميخائيل لا يزال حيا يرزق في منفلوط.»
16
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: لماذا لم يذكر حافظ نجيب تفاصيل علاقته بالزعيمين مصطفى كامل ومحمد فريد، ولماذا لم يوضح علاقته الحقيقية بالحزب الوطني، أو بالجهة السياسية التي نصحته بالتخفي في الدير، وما هي حقيقة المهام الخطيرة السياسية التي قام بها لصالح هذه الجهة؟! أسئلة كثيرة كان من الواجب على حافظ نجيب أن يجيب عليها في اعترافاته، إذا كان له دور وطني حقيقي؛ لأن هذا الدور إذا صحت حقيقته، لكان هو النقطة المضيئة في اعترافات حافظ وفي حياته بأكملها؛ حيث إن اعترافاته هي عبارة عن مجموعة من النقاط السوداء غير المشرفة لأي إنسان على وجه الأرض! وهذا يجعلنا نشك في هذا الدور الوطني، بل ونعلل وجوده في الاعترافات بهذه الضبابية، إلى أنه دور وطني مقحم على الاعترافات، لم يكتبه حافظ نجيب بقلمه، بل أقحم على اعترافاته بعد موته!
أما إذا أردنا أن نتعرف على حافظ نجيب كما جاء في اعترافاته - بعيدا عن إشارات وطنيته المشكوك فيها - سنجده إنسانا جاحدا لأهله، ضائعا لا هدف له، يسعى وراء غريزته الحيوانية، ولا يستطيع أن يسيطر عليها، ويشرب الخمر ليل نهار، ويرتاد الملاهي والحانات، ويقيم علاقات آثمة بالراقصات ويرتكب الموبقات، ويفاخر بإنكار العقيدة والدين ويجاهر بالكفر، ويعترف بالزنى! وبالرغم من ذلك كله نجده ينفي عن نفسه تهمة النصب والاحتيال، ويدافع عن نفسه ضد هذا الاتهام دفاع المستميت، وكأن جريمة النصب والاحتيال أهم وأكبر من ارتكابه للكبائر!
ولعل هاتين الصورتين، هما الصورتان الوحيدتان المعروفتان عن حافظ نجيب، رغم ما يحيطهما من شك وجدل! فإما أن تتخذ صورة حافظ نجيب الوطني الثائر كما جاءت في المسلسل، وإما أن تتخذ صورة حافظ نجيب الزنديق كما جاءت في الاعترافات! ولكن هناك صورة ثالثة غائبة ومجهولة، لم يطلع عليها القارئ إلا في إشارات يسيرة، وهي صورة حافظ نجيب الأديب! ولعلها الصورة الحقيقية والواقعية، والتي لا تقبل الشك أو الإنكار؛ حيث إن وثائقها وآثارها وأدلتها موجودة بين أيدينا!
وإذا كنا لا نستطيع أن نضيف جديدا على صورة حافظ نجيب كما جاءت في المسلسل، لعدة أسباب، منها؛ أولا: أن معظم القراء تابعوا المسلسل، بسبب الضجة التي أثيرت حوله. ثانيا: أن المسلسل لم يلتزم بالأحداث التي جاءت في الاعترافات التزاما حرفيا، بل تصرف فيها تصرفا فنيا من الصعب علينا محاسبته في ذلك، تبعا لرؤيته الفنية والسياسية. ثالثا: أن أهداف المسلسل الفنية والسياسية أقيمت على إشارة غامضة عن وطنية ضبابية لحافظ نجيب. وبناء على ذلك لم يبق أمامنا إلا الحديث عن حافظ نجيب وصورته من خلال اعترافاته وما ينتاب هذه الاعترافات من شكوك، وأخيرا الحديث عن صورة حافظ نجيب الأديب!
اعترافات حافظ نجيب
يحكي حافظ نجيب في اعترافاته قصة حياته منذ مولده وحتى عام 1909. وتبدأ الاعترافات بقصة خطف الباشا التركي للطفل محمد ابن التاجر حسن السداوي، الذي أطلق عليه اسم «محمد نجيب»، وعلمه حتى أصبح ضابطا، فألحق بحرس الخديو إسماعيل، ثم تزوج من ابنة الباشا «ملك هانم». وفي يوم ما أثار محمد غضب زوجة الباشا عليه، فطردته من القصر، وقامت بتعذيب ابنتها ملك هانم، التي أنجبت الطفل «حافظ نجيب»، ثم ماتت من شدة التعذيب، فتبعها والدها الباشا، وتم دفنهما في يوم واحد. وبعد أيام قليلة أخذ محمد نجيب ابنه من جدته التركية، رغما عنها، ومن ثم تركت الجدة مصر إلى الأستانة، وانقطعت أخبارها.
عاش الطفل حافظ في بيت جده لأبيه، وسط أطفال العائلة، حانقا عليهم متمنيا العودة إلى رغد العيش في قصر جدته التركية، ولكنه أسلم أمره للظروف المفروضة عليه، فتم تعليمه في أحد المكاتب (الكتاتيب)، ثم التحق بمدرسة القربية، وأخذ يتنقل بين بيت أبيه في طهطا وبين بيت عمه في أسيوط، وبالتالي انتقل إلى مدرسة الفرير بطهطا حتى حصل على الابتدائية عام 1892، فالتحق بالمدرسة الخديوية ولكنه لم يفلح بها، فانتقل إلى مدرسة رأس التين، ومن ثم التحق بالمدرسة الحربية. وفي هذه الفترة نشأت علاقة بينه وبين إحدى الراقصات.
وقبل إتمام حافظ دراسته، أقامت المدرسة الحربية مباراة في الرماية بالبندقية والمسدس، ففاز حافظ نجيب بالمركز الأول، وقامت الأميرة الروسية فيزنسكي بتسليمه الجائزة، بعد أن أعجبت به، فنشأت بينهما علاقة آثمة دامت سنوات طويلة. وفي هذه الفترة ساعدته الأميرة على السفر إلى الأستانة وألحقته بالجيش التركي، ثم أرسلته لإتمام الدراسة في كلية سان سير بفرنسا، حتى التحق بإحدى الفرق الفرنسية في الجزائر. وبعد عام عمل حافظ جاسوسا لفرنسا على ألمانيا بعد أن تنكر في شخصية خادم أخرس، فتم كشف أمره في أول مهمة له وأودع السجن، فقامت فرنسا بتهريبه من ألمانيا إلى مصر.
وبعد عودته، ساعدته الأميرة فيزنسكي بالمال، فأصبح يضارب في البورصة، وفتح مكتبا للقومسيون، واشترى سيارة وبيتا وإسطبلا للخيول، بالإضافة إلى شرائه مدرسة الفرير وعمارة كورونيل، مع امتلاكه لرصيد وافر في البنوك، حيث تزين بالبرلنت والزمرد والياقوت، ووضع اللؤلؤ بدلا من الأزرار في قميصه! وهكذا بدأ في ارتياد المقاهي والبارات والكباريهات، ومجالسة الحسناوات والراقصات والساقطات.
وفي أثناء ذلك، كان يداوم على اتصاله الآثم بالأميرة فيزنسكي في الإسكندرية، وفي إحدى زياراته لها، شاهد عندها السيدة ألكسندرا أفيرينو
1
صاحبة مجلة «أنيس الجلس»، فتعرف عليها وتوطدت صداقتهما في عام 1905، حيث أرسلت له صندوقا به نياشينها كي ينظفها عند الجواهرجي لاتنس، ولكنه احتفظ بالصندوق في دولاب الراقصة حميدة، التي أخذت منه نيشان السلطان عبد الحميد، وارتدته أمام الجمهور في أثناء رقصاتها المتعددة. ووصلت أخبار مجون حافظ ونزواته وعلاقاته النسائية إلى أسماع الأميرة فيزنسكي، فأرادت الانتقام منه، فحرضت ألكسندرا أفيرينو كي تتهمه بتبديد نيشانها، وبالفعل حدث هذا وتم القبض على حافظ نجيب، وأودع سجن الحضرة بالإسكندرية.
وبعد أن قضى حافظ مدة العقوبة، خرج من السجن ليجد قضيتين في انتظاره من تلفيق الأميرة فيزنسكي، ومن ثم عاد حافظ إلى السجن مرة أخرى. وبعد قضائه مدة العقوبة الثانية، خرج مفلسا معدما، فكتب رواية تمثيلية مثلتها إحدى الجمعيات على مسرح إسكندر فرح، فكسب منها بعض المال، ثم تعرف على فرنسين اليهودية التي ساعدته بالمال أيضا، ثم تعرض إلى حادث اغتيال نجا منه بأعجوبة، وعلم أن القاتل مأجور من الأميرة فيزنسكي. وبعد أيام تم القبض عليه بتهمة الاحتيال على أحد المحال التجارية، والنصب على إحدى الراقصات وسرقة سوارها الذهبي، وجاء شاهد زور في المحكمة مدفوعا من قبل فيزنسكي، وأدلى بشهادة كاذبة بأنه كان حاضرا في الوقعتين، فتم سجن حافظ نجيب للمرة الثالثة، ولكنه قرر الهرب من السجن.
ساعدته اليهودية فرنسين في الهرب أثناء انتقاله من السجن إلى نيابة شبرا، واختفى في أحد البيوت بالظاهر، وتنكر في شخص رجل يهودي بدين، وقام بمغامرة مع رئيس البوليس السري المسيو كارتييه لتأمين مسكنه بالظاهر. وفي أحد الأيام قرأ حافظ في الصحف اتهاما له بتهمة الاحتيال على رجل يهودي سرق ساعته، وأن التحقيق تم، وأحيلت القضية إلى قاضي الجنايات، فأصدر الحكم بسجن حافظ نجيب لمدة ثلاث سنوات غيابيا. وبمرور الوقت تأكد حافظ بأن هذه التهمة لفقتها أيضا الأميرة فيزنسكي، فقرر ترك اسم حافظ نجيب، والتنكر في أكثر من شخصية، هربا من مطاردة البوليس وتنفيذ الأحكام، ولكي ينقذ البقية الباقية من سنوات عمره.
تنكر حافظ في شخصية عم دؤدؤ بائع الفشار والحلوى ولعب الأطفال، فعرفه كارتييه رئيس البوليس السري وطارده في الشوارع والأزقة، حتى دخل حافظ في حمام بلدي للنساء، وهرب من بابه الخلفي، وعندما دخل كارتييه وجنوده، انهالت عليهم النساء ضربا. ثم تنكر حافظ مرة أخرى في شخصية مبروك الخادم، وعمل عدة أشهر لدى رئيس النيابة الذي يحقق في قضايا حافظ نجيب، وأخذ منه شهادة خطية بحسن سيره وسلوكه. وفي عام 1913 سلم حافظ نجيب نفسه، وفي المحكمة وأمام اتهامات رئيس النيابة بسوء سلوكه، كشف المتهم حافظ نجيب عن شخصيته الأخرى، وهي مبروك الخادم، فأحرج رئيس النيابة أمام القاضي، خصوصا عندما قدم للقاضي شهادة حسن سيره وسلوكه المكتوبة بخط يد رئيس النيابة. وتم الحكم بسجن حافظ، ولكنه كالعادة هرب من السجن.
بعد ذلك تنكر حافظ في شخصية المسيو بنفيه، وصناعته التجارة والوساطة بين مصانع أوروبا ومكتب قومسيون مدام فرنسين اليهودية، ثم تنكر في شخصية البارون دي ماسون، الرجل الثري اليهودي هاوي الآثار، فتعرف على الأرملة الكونتس سيجريس، ورافقها في رحلتها السياحية، فأعجب بها وحماها من نظرات الطامعين في جمالها، خصوصا سرحان باشا، الذي دعاها بصحبة البارون أو حافظ نجيب إلى إحدى حفلاته. وفي هذه الحفلة تحدى البارون الباشا، وبعد عدة مغامرات مع التلاعب بالألفاظ والعبارات، حضر البوليس لأن البارون وعد الكونتس بأن حافظ نجيب سيحضر لمقابلتها في هذه الحفلة. وبالفعل يكشف البارون عن نفسه، ويعترف أمام الجميع، بعد أن تخلص من تنكره، بأنه حافظ نجيب الهارب من عدة أحكام. ويسلم نفسه طواعية للبوليس، بعد أن أعلن أمام الجميع بأنه سيقابل الكونتس سيجريس غدا في جزيرة بالاس أوتيل لشرب الشاي.
وأمام هذا التحدي، قام البوليس بوضع حافظ نجيب في زنزانة شديدة الحراسة، وفي صباح اليوم التالي لم يجدوه في الزنزانة ... وعلى الفور ذهبوا إلى موعد الكونتس سيجريس، فوجدوها بصحبة نخبة من رجال المجتمع، ولم يحضر حافظ لمقابلتها كما وعد. ولكن الحقيقة أن حافظ نجيب هرب بالفعل وقابل سيجريس لأنه كان موجودا ضمن ضيوفها باسم المسيو بنفيه. وبعد أن علمت سيجريس بقدرة حافظ في الهرب والتنكر، زاد إعجابها به، فطلب منها الزواج، ولكنها رفضت بحجة أن حافظ نجيب طريد العدالة، فأخذ منها وعدا بأنه سينهي هذه الإشكالية بشرط أن تحافظ على وعدها له بالزواج، فوافقت.
غاب حافظ نجيب فترة من الزمن تنكر فيها في شخصية الشيخ صالح عبد الجواد، ثم قام بمحاولة جنونية ساعده فيها صديقه خليل حداد. وتتلخص هذه المحاولة في شربه لدواء معين يظهره بمظهر الميت، ومن ثم تم الإعلان عن موت الشيخ صالح، وفي الوقت نفسه قام خليل حداد بإبلاغ البوليس أن الشيخ صالح المتوفى هو حافظ نجيب. وعندما حضر البوليس وتأكد من موت حافظ، صرح بدفنه وأغلقت جميع القضايا المنسوبة إليه. وفي المساء تم دفن حافظ في قبره، وبعد عدة ساعات زال مفعول الدواء، فتنبه حافظ من نومه، وخرج من القبر وعاش بين القوم باسم بنفيه، وتم زواجه من الكونتس سيجريس، ولكن هذا الزواج لم يدم طويلا.
أدمن حافظ الخمر فترة من الوقت، وعاش في ضياع ويأس، حتى قرر أن يترهب. فشجعه البعض على هذا الأمر، وظهر حافظ نجيب عام 1908، في شخصية الراهب غبريال إبراهيم في دير بشوي، ثم ظهر باسم الراهب غالي جرجس أو فيلوثاؤس في دير المحرق بأسيوط. وظل حافظ في الرهبنة لمدة عام، ومن ثم ترك الدير وتعرف في فندق ناسيونال عام 1909 على بارون سويدي يدعى ماير، وكان مريضا، وبعد أيام قليلة يموت البارون متأثرا بمرضه، فينتحل حافظ شخصيته واسمه الحقيقي وهو شنيدر، ونزل بهذا الاسم في فندق مينا هاوس. وبعد أيام قليلة لعبت الخمر برأس خليل حداد، فثرثر مع أحد الصحفيين، وكشف عن شخصية حافظ نجيب وأنه من نزلاء الفندق، فأبلغ الصحفي البوليس الذي حضر وحاصر المتهم حافظ، ولكن حافظ نجيب استطاع الهرب كعادته. وإلى هنا تنتهي الاعترافات.
هذه هي النقاط الرئيسية التي تدور حولها اعترافات حافظ نجيب، ومن خلال تفاصيل هذه النقاط، نستطيع أن نظهر بعض صفات شخصية حافظ بصورة قريبة بعض الشيء، رغم ما يحيط هذه الاعترافات من شكوك، سنبين عنها في موضعها.
أول صفة نستطيع أن نضع أيدينا عليها، أن حافظ نجيب جاحد لأهله، رافض لمعيشتهم، فعلى سبيل المثال، نجده يقول عن والده: «والدي الذي سبب ما ذاقته أمي من عذاب وما لقيته أنا من هوان في بيت الجدين، وكان أيضا السبب في طردي أخيرا من النعيم الذي كنا فيه، ثم في عذاب الجحيم الذي تولاني في بيت والده الحاج حسن السداوي ... رحم الله الجميع ... وسامحهم ... وغفر لهم.»
2
ومن خلال الاعترافات، نجد أن حافظ نجيب كاذب في هذه الاتهامات! فوالده لم يكن السبب في عذاب والدته؛ لأن من عذبها هي جدته التركية. وإذا كانت الجدة عذبت ابنتها انتقاما من زوجها - والد حافظ - فالذنب يعود عليها، لا على زوج ابنتها. وإذا كان حافظ وجد بعض الهوان في حياته بعد ذلك، فهذا الهوان كان بسبب تصرفات حافظ، وبسبب الظروف المعيشية المتواضعة، تبعا للظروف الاجتماعية المحيطة بالأسرة. أي أن والده لم يكن السبب المباشر في هذا الهوان.
أما طرد حافظ من قصر الباشا التركي، فلم يكن لوالده يد فيه؛ لأن الوالد طالب بحضانة ابنه، وهو التصرف السليم الواجب على كل أب. وكان من الممكن قبول كلام حافظ نجيب هذا في اعترافاته، إذا كان قاله بنفسية الطفل وقتما حدثت هذه الأمور ... ولكن الحقيقة أن حافظ نجيب سرد هذه الأحداث، وأدلى برأيه في والده وهو في سن كبير وقبل أن يموت، أي وهو يدرك كل كلمة وأنه قصد هذه الاتهامات ومصر عليها، بدليل أنه يطلب من الله أن يرحمهم ويسامحهم ويغفر لهم!
هذا بالإضافة إلى أن حافظ نجيب كثيرا ما كان يتحامل على والده، وعندما يذكره يقول في بعض الأحيان: «الضابط» بدلا من كلمة «والدي»! بل ويجحد أسرة أبيه جحودا شديدا، عندما عقد مقارنة بينها وبين أسرة البستاني (الخادم) في قصر الباشا التركي، قائلا: «لم تكن هذه الجماعة في المستوى الخلقي لكل من عاشرت في سراي الباشا، حتى زوجة البستاني وصغارها، فهؤلاء كانوا أوضح وأحسن خلقا وأعظم اعتصاما في التصرفات .»
3
وفي موضع آخر نجد حافظ نجيب، يلصق بجده لأبيه صفة الجشع المادي، وينفي عنه عطفه على أحفاده، ويصف بيت هذا الجد بالقذارة! وفي ذلك يقول: «جدي الحاج حسن لم يكن راضيا عن وجودي بعيدا عن بيته، وكان يسعى في إصرار لنقلي إلى رعايته لا بتأثير العطف علي أو الرغبة في العناية بي إنما للحصول على ال 150 قرشا التي ترسل للدادة من والدي في كل شهر، وعاونت زوج أبي «جميلة هانم» ذلك الجد لتحقيق رغبته، فأطاع والدي مشورتها وأمر بنقلي إلى منزل جدي فاختل نظام حياتي من جديد، وعدت إلى اللعب حافيا وإلى القذارة العامة في ذلك البيت.»
4
وعندما قدمت الأميرة فيزنسكي يد المساعدة إلى حافظ، نجده يقارن بين مساعدتها وبين قسوة والده قائلا: «أسلمت أمري لهذه السيدة التي تظهر العطف علي والاهتمام بمستقبلي، بينما أجد من والدي القسوة والنفور من وقوع نظره علي، وهو الذي انتزعني من أحضان جدتي، وكان سببا في تعذيب المرحومة والدتي، وأهان جدتي وحملها على ترك مصر كلها والرحيل إلى تركيا نهائيا، ثم قسا علي وقصر في تأدية واجب الوالد حتى أتمم الدراسة العالمية [أظنها العالية] أولا، ثم الدراسة العسكرية.»
5
وفي هذا القول، نجد حافظ نجيب يعيد مشاعره الجاحدة ضد والده، ويكرر اتهاماته السابقة، ويضيف عليها اتهامات جديدة! فمن غير المعقول أن يقسو والد لمجرد وقوع نظره على ابنه! علما بأن والد حافظ لم يكن السبب في رحيل الجدة التركية من مصر، ولم يقصر في إتمام دراسة ابنه، بل إن الابن هو المقصر في ذلك! وهذه الاتهامات الكاذبة غير بعيدة عن سلوكيات حافظ نجيب، حيث إنه كذب عندما اتهم عمه باتهامات غير صحيحة، واعترف بذلك في اعترافاته قائلا: «وقد شكوت لوالدي من المعاملة التي ألقاها في بيت عمي، ولكنني كنت كاذبا في كل ما شكوت منه؛ لأن عمي كانت له أخلاق رضية كريمة، وكان منزها عن كل عيب ينسب إلى الأخلاق أو الرجولة أو العقل أو الوصف كرب أسرة هادئة تعيش في اطمئنان وهناء.»
6
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: لماذا كان حافظ نجيب جاحدا لأهله ناكرا لهم؟! سنجد الإجابة تتمثل في كلمة واحدة، وهي «الفقر»، فحافظ نجيب عندما خرج من قصر جده لأمه «الباشا التركي»، إلى جده لأبيه «حسن السداوي» في الدراسة، فقد خرج من نعيم الثراء إلى حرمان الفقر! ولأن حافظ نجيب لم يكن مؤهلا لتحمل المسئولية، ولم يكن مستقيما في سلوكياته، ولم يكن سويا في تفكيره، نجده يبحث عن المال ليعوض به حرمان الفقر، بكل وسيلة ممكنة، مهما كانت عواقب هذه الوسيلة! فبدلا من أن يجتهد الطالب حافظ في استذكار دروسه، حتى يحصل على شهادة يحقق بها مستقبلا زاهرا يبعده عن الفقر، نجده وهو في المدرسة الخديوية، يبيع كتبه الدراسية واحدا بعد الآخر من أجل إمتاع نفسه!
7
ثم نجده بعد ذلك، يتهم والده بأنه قصر في تعليمه!
ومظاهر الحرمان التي ذكرها حافظ في اعترافاته، تمثلت في مرحلة دراسته الثانوية - على وجه الخصوص - ومنها عدم مبارحته المدرسة أيام العطلة الأسبوعية لعدم وجود المال، كما أنه كان الطالب الوحيد الذي يعود إلى المدرسة دون أن يقوم أهله بتزويده بأنواع الأطعمة الشهية، وبسبب فقره كان يبتعد عن زملائه.
8
ومن الغريب أن هذه الأسباب كان من الممكن أن تكون دافعا قويا لتفوقه وتقويم سلوكه إلى الأفضل! بدلا من أن يتهم والده بأنه قصر في رعايته ودراسته، رغم أنه يعلم حقيقة فقر والده، والتي تتمثل في ضآلة راتبه، وفي ذلك يقول: «كانت ضآلة مرتب الرجل [يقصد والده] تجعله عاجزا عن الإنفاق علي واستكمال حاجاتي الضرورية، فقضيت طول زمن الدراسة في عسر وضيق.»
9
ورغم هذا السبب الخارج عن إرادة الوالد، نجد الابن يجحد والده، وينكره ولا يذكره باسمه أو بصفته كوالد، بل يذكره بكلمة «الرجل»!
ومن الصفات السيئة عند حافظ نجيب، كما جاء في اعترافاته، أنه كان يتمنى أن يكون غنيا، حتى يقتطف ثمار الملذات الآثمة! وكمثال على ذلك، نجده يقول وهو طالب في المدرسة الحربية، عندما تحدث عن الراقصة «ن»، التي كانت تثير غرائز الطلاب: «ونجحت حيلة المرأة فجذبت إلى دارها جميع طلبة المدرسة الحربية ما عدا السودانيين، وعدا مصري واحد. هو أنا ... لم يكن الباعث الذي عطلني على الاشتهاء والطلب هو المناعة الخلقية، أو التعفف بسبب التحصن بالأدب، إنما كان الباعث الأساسي المفرد هو الفقر.»
10
وعندما زال الفقر، وجاء المال والجاه إلى حافظ نجيب، وجدناه يقتحم حصن الملذات الآثمة بكل قوة، ويعترف بأنه اعتاد على ذلك، وبالأخص مع الأميرة فيزنسكي التي أعطته المال والجاه! وفي ذلك يقول: «كنا في حفلة ساهرة في قصر أرملة من الطبقة الراقية، وكنت في ثوبي العسكري واضح الشباب والقوة، ولست أدري كيف انصرفت عقب انتهاء السهرة من تلك الدار؛ لأنني استيقظت في الصباح فوجدت نفسي في غرفة نوم البرنسيس ... أدركت من تلك الليلة المشئومة نوع رغبتها فلم أتردد في الخضوع والطاعة، في حياء في بادئ الأمر ثم في جرأة المعتاد الراغب في الإرضاء.»
11
والملاحظ على هذا القول، أن حافظ نجيب يلصق تهمة السقوط الآثم على عاتق الأميرة، وينفيها عنه في بادئ الأمر، ونسي أنه قبل ذلك اعترف بأن الفقر هو السبب الرئيسي الذي منعه من ارتكاب الكبائر! فكيف نقبل أن الأميرة الروسية زوجة الرجل السياسي، هي التي جعلته يغيب عن وعيه، حتى يستيقظ في الصباح فيجد نفسه في سرير نومها، بعد أن ارتكب معها الإثم المحرم!
وهذا يعني أن حافظ نجيب، يحاول أن يقنعنا بأن سقوطه في الآثام، لم يكن برغبته، بل كان مرغما عليه من قبل الأميرة! وإذا اقتنعنا بذلك، فماذا نقول أمام اعتراف آخر له، قال فيه عن الأميرة فيزنسكي أيضا: «ورغم حياة الشطط والسفه كنت أحتفظ بالنظام المفروض على علاقتي بالأميرة فيزنسكي، أقابلها كل أسبوع في الإسكندرية وتقابلني في القاهرة. ولكنني كنت أشعر بانقباض الصدر في تلك المقابلات الطويلة بسبب ظهور الهرم على المرأة، وبسبب ملذات اللهو التي ألفتها وانحصرت فيها رغباتي.»
12
وهذا يعني أن الأميرة لم ترغمه على ارتكاب الآثام، كما حاول أن يوهمنا؛ لأنه هو أصلا غارق في الملذات الآثمة مع غيرها من النساء، وأن كبر السن كان السبب المباشر لابتعاده عن الأميرة، والتمتع بغيرها من صاحبات الجمال والأنوثة والشباب!
وعن هذا الأمر يقول - بعد أن هجر الأميرة وساءت العلاقة بينهما، بسبب علمها بسهراته ونزواته من النساء: «اعتبرتني البرنسيس خائنا لأنني تناسيت عطفها علي ورفقها بي ومعاونتها بالمال لتعليمي وتثقيفي ثم لتكويني في الحياة، ظنت أنها لهذه الأسباب القوية قد اشترتني وصرت ملكا خاصا لها، ولكنها نسيت أنني في طور الشباب، وأنها وصلت إلى الكهولة، ولم أنكر في أي وقت أفضال تلك السيدة ولا ما غمرتني به من أنواع الإحسان. ولكن الاحتفاظ بالمعروف لا يؤدي إطلاقا إلى حال تمنع العين من رؤية المحاسن ولا من التأثير بالجاذبية، ولا من الانطلاق مع الهوى، فدفعني نزق الشباب إلى كل ناحية ظننت فيها متعة للنفس واستجابة لنداء الغريزة.»
13
وكان من الممكن لقارئ «اعترافات حافظ نجيب»، أن يقتنع بوجهة نظره، وأن الأميرة فيزنسكي هي التي دفعته إلى السقوط، إذا كانت آثامه انحصرت في شخصية الأميرة وحدها! ولكن الحقيقة أن «اعترافات حافظ نجيب»، هي مجموعة من غرامياته النسائية، مصحوبة بباقة من آثامه المتنوعة! فعلى سبيل المثال، نجده يقيم علاقة مع الراقصة المشهورة «شفيقة القبطية»، ولكنه يسأم منها ومن إطالة علاقته بها، فيهجرها إلى راقصة أخرى، هي حميدة. وعن هذا الأمر يقول عن شفيقة: «الحقيقة إنني لم أتأثر إطلاقا بأنوثة هذه المرأة ولا بخلاعتها، وكنت أعرف يقينا أنها تمثل دور عاشقة في الظاهر ودور سلابة في الواقع، وكنت أدفع ثمن التسلية في هذا الجو المضطرب؛ لأن لكل شيء من الرغبات ثمنه، فكذلك التسلية. لم تدم طبعا هذه الحال لأن النفس تسأم الاستمرار على وتيرة واحدة لا تبدل فيها ولا جديد عليها، فتحول الملل إلى رغبة في التجديد وإلى دور جديدة للغناء والرقص للبحث عن وجه جديد.»
14
ولم يكتف حافظ بالأميرة فيزنسكي ولا بالراقصة شفيقة، بل وجدناه يفصل علاقاته النسائية الأخرى تفصيلا شديدا، متمتعا بسردها وشرحها وتحليلها! ومن هذه العلاقات علاقته بالراقصة حميدة، وباليهودية فرنسين، وبالراقصة منتهى الأمريكية، وبألكسندرا أفيرينو، وبإحدى الفتيات اليونانيات، وهذه العلاقات لم تسلم من اعتراف صريح من حافظ بأنه ارتكب فيها الآثام الشهوانية! حتى المرأة الوحيدة التي تزوجها في اعترافاته - وهي الكونتس سيجريس - لم تسلم من تلميحاته الشهوانية!
15
فعلى سبيل المثال، نجده يقول عن الراقصة منتهى الأمريكية في قهوة إلياس: «حان وقت انصراف الجمهور وإغلاق القهوة فألحت علي منتهى لنتم السهرة في بيتها فقبلت. نهضت من الفراش في النهار الثاني وعزمت على الانصراف فوضعت على المنضدة شيئا من النقود أجرة المبيت.»
16
ومن الغريب أن حافظ نجيب يرتكب هذه الآثام، دون أن يشعر بلحظة تأنيب ضمير واحدة، ودون أن يندم على ارتكابها، وكأنها ليست من المحرمات! والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: ما هو موقف حافظ نجيب من الدين؟! وما هي عقيدته الحقيقية، حيث إنه تنكر في شخصية راهب، ومكث في الدير عاما؟! والإجابة على هذا السؤال، جاءت على لسان حافظ نجيب نفسه، عندما قال في اعترافاته: «أنا رجل بدون عقيدة وبدون دين، لم تؤثر في الوراثة؛ لأنني لم أنشأ نشأة منظمة، في حياة عائلية تكون أبناءها بالتربية، وتكون سلوكهم بتأثير العادات والتقاليد. ولم تعلمني المدرسة تعليما دينيا يثبت في عقيدة ويكون لي مبدأ ... واضطراب حياتي وجميع ظروفي على ظهر الأرض لم تسنح فيها فرصة تحدوني إلى الاطلاع على كتاب ديني ... وأنا كسائر الخلق في هذا المجتمع لم يطرأ علي الباعث الذي يرغمني على التفكير في العقيدة والدين.»
17
وإذا انتقلنا إلى صورة أخرى من صور حافظ نجيب، كما جاءت في اعترافاته، سنجده رجلا ذكيا، ماهرا في التنكر
18
وابتداع الحيل المختلفة، ومبتكر الأساليب المتنوعة في التخفي والهروب! فاستحق الألقاب العديدة التي خلعت عليه، مثل: نابغة المحتالين ... أرسين لوبين المصري ... الثعلب! وهذه هي الصورة التي جعلت من اسم «حافظ نجيب»، اسما مشهورا كان حديث الناس في أوائل القرن العشرين!
إذن ... الكذب والخروج عن الصواب، وعدم تحمل تبعات الأخطاء، بل وعدم الاعتراف بها، كانت الصفات التي لازمت حافظ نجيب منذ الصغر! وهذه الصفات كانت توقعه دائما في مآزق شتى، فكان يخرج منها عن طريق الحيل المختلفة ! فعلى سبيل المثال، نجده وهو طفل يهرب من المدرسة من أجل اللعب مع الأطفال، فيقابله جده لأبيه في الطريق فيمسكه ويسأله عن سبب تواجده في الشارع، رغم أنه من المفروض أن يكون في المدرسة؟! فنجد الطفل ينجح - في بادئ الأمر - في إيهام الجد بأنه طفل آخر غير الطفل حافظ! وفي ذلك يقول: «فهيأ لي الخبث أن أضلل ذلك الشيخ بصورة تبعثه على الشك في شخصيتي، خطرت لي الفكرة في سرعة ونفذتها بجرأة. صرخت في وجه جدي قلت له: «ما لك يا عم! عاوز مني إيه؟»»
19
فتجمع المارة ظنا منهم أن الجد رجل شرير يريد خطف الطفل، فقرروا تسليمه إلى البوليس. وعبثا حاول الجد إفهامهم الحقيقة، بسبب قدرة الطفل في تمثيل دوره، حتى حسم الأمر أحد المارة ممن يعرفون الطفل وجده، فتعجب المتجمعون من حيلة هذا الطفل!
وعندما كان حافظ في المدرسة عند عمه بأسيوط، أراد أن يعود إلى والده في طهطا من أجل اللعب مع أصدقائه، فهرب من منزل عمه عن طريق السير على قضبان السكة الحديدية، وعندما نجح في هروبه ضربه والده، فلم يجد حيلة للخروج من هذا المأزق إلا الكذب على أبيه، حيث اشتكى من عمه ومعاملته السيئة له، ثم نجده يعترف بأنه كذب في كل ما قاله عن هذا العم، كما مر بنا!
هذا فيما يختص بحيل حافظ نجيب عندما كان طفلا. أما أسلوبه في التنكر، فقد كانت له بداية طفولية أيضا! وكانت هذه البداية في قليوب، عندما كان يسبح في الترعة مع الأطفال، وكان والده ينهاه عن ذلك كثيرا، ولكنه لم يستمع لنصائح والده، حتى حدثت واقعة، قال عنها في اعترافاته: «حدث مرة أنني كنت أسبح في الترعة فرأيت والدي آتيا على جسرها من ضبط واقعة، كان على جواد وخلفه اثنان من العساكر، ففزعت وخشيت من غضبه، فهداني الخوف إلى خاطر سريع يسترني منه فنفذته بسرعة، دهنت جسمي كله ووجهي بالطين، ووقفت مع بعض الصبيان على جسر الترعة نلعب ونجري، فمر بنا حضرة المعاون وسمعته يقول لأحد الجنديين: «أهو الشقي حافظ بيعمل زي دول» فحماني هذا التنكر من العلقة التي كانت محتملة لو رآني.»
20
وعندما أصبح حافظ شابا، ساعدته الظروف على صقل هذه المواهب، خصوصا عندما عمل جاسوسا على ألمانيا لصالح فرنسا! ومن المؤكد أن المخابرات الفرنسية دربته تدريبا متقدما، حتى يصبح جاسوسا تعتمد عليه. وعلى الرغم من كشف أمره في أول مهمة تجسسية قام بها، إلا أن قدرته في تمثيل دور خادم أخرس في هذه المهمة،
21
يعكس لنا قدرته الفائقة في التمثيل والتحكم في النفس!
خرج حافظ من تجربة الجاسوسية بإمكانيات متقدمة في فنون الحيل والتنكر، استخدمها فيما بعد في تصرفاته العملية، وفي الإيقاع بالنساء! فعندما رأى ألكسندرا أفيرينو احتال عليها حتى أعجبت به ووثقت فيه، وسلمته صندوق نياشينها. وعندما أضاع أحد هذه النياشين أبلغت عنه البوليس - بإيعاز من فيزنسكي - فتم القبض عليه وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، وفي الاستئناف تم تخفيف الحكم إلى ستة أشهر، قضاها في سجن الحضرة بالإسكندرية، فكانت هذه أول مرة يسجن فيها حافظ نجيب.
22
وعندما خرج حافظ من السجن، لفقت له فيزنسكي قضيتين، الأولى تمثلت في أنه قضى ليلة حمراء في أحد بيوت الدعارة، وأكل وشرب الخمر، وفي الصباح هرب من البيت دون أن يدفع ثمن ملذاته! والأخرى تمثلت في أنه ركب حنطورا وعطله لساعات طويلة دون أن يدفع للعربجي أجرته، فتم القبض عليه على ذمة القضيتين. ويستكمل حافظ - في اعترافاته - هذه القصة قائلا: «وأرسلت في الصباح إلى النيابة فحولتني إلى سجن الحضرة من جديد، وصدر حكمان في القضيتين بأمر حبس احتياطي، ولما تحددت جلسة المحاكمة صدر الحكم بحبسي سنة ونصف، وأيد الاستئناف الحكم الابتدائي فقضيت العقوبة في السجن.»
23
ومن الملاحظ هنا، أن حافظ نجيب حاول بكل جهده نفي تهمة النصب والاحتيال عن نفسه، خصوصا فيما يتعلق بنيشان ألكسندرا أفيرينو، متهما الراقصة حميدة بأنها السارقة، وأن سجنه كان بسبب فيزنسكي، وكأنه بريء من الموضوع برمته! فهل يعقل أن حافظ نجيب - بكل ما لديه من مهارة في الحيلة والتنكر والهرب، وقدراته المكتسبة من عمله كجاسوس - يقع في مثل هذه القضية! وإذا كان بريئا حقا، فكيف يتم تجريمه في الحكم الابتدائي والاستئناف أيضا؟! وإذا اقتنعنا ببراءته، فكيف نصدق أنه بريء من تهمتي النصب والاحتيال على امرأة بيت الدعارة وعلى العربجي! فهل من المعقول أن يكون بريئا، ويتم الحكم عليه والتصديق على الحكم في الاستئناف أيضا؟!
ونقطة أخرى في غاية الأهمية؛ كيف يتم سجن حافظ نجيب لمدة ستة أشهر، في تهمة تبديد نيشان لإحدى الأميرات، ثم نجده يسجن سنة ونصف في جريمتي نصب واحتيال على امرأة لعوب وعلى عربجي؟! فمن المؤكد أن الجريمة كانت أكبر من ذلك بكثير، وإلا لما كانت العقوبة قاسية، دون تخفيفها في الاستئناف، بل التأكيد على الحكم الابتدائي، وهذا يعني أن الجريمة ثابتة بكل أركانها!
قضى حافظ مدة العقوبة، وبعد خروجه تعرض لمحاولة قتل، نجا منها بأعجوبة، واستطاع أن يقبض على القاتل ومن ثم مصادقته، فعرف منه أن الأميرة فيزنسكي هي التي استأجرته لقتله! وبعد هذه الحادثة تورط حافظ في مجموعة من جرائم النصب والاحتيال أيضا، منها احتياله على أحد المحال التجارية، ومنها احتياله ونصبه على الراقصة منتهى الأمريكية، عندما استولى على سوارها الذهبي بحجة استبداله بسوار من الماس، فتم القبض عليه ووضع في السجن! ثم نجده - في اعترافاته - يدفع عن نفسه هذه التهم، بحجة أنها من تلفيق الأميرة فيزنسكي،
24
قائلا: «أدركت في الحال أن اليد الخفية لا زالت تعمل في الخفاء لتحضير وسائل الانتقام، وأيقنت بأن الحكم ضدي سيكون شديدا ... ولكن الاستمرار في الرضوخ لنظرية احترام الأحكام معناها إضاعة سني عمري بسبب التهم التي تكال لي وصدور أحكام ضدي بسببها. من حق كل إنسان الدفاع عن حياته والاحتفاظ بالسلامة. ففي مقدوري عدم مخالفة القانون، ولكن ليس في مقدوري دفع اتهام باطل تدبر أسبابه وتجمع اليد الخفية الشهود الزور لإثبات الإدانة، فصار من المحتم علي أن أحمي حياتي من خصومي، والوسيلة المفردة للتمكن من الحماية هي عدم تنفيذ ما يصدر ضدي من الأحكام، وهذه النظرية والوسائل التي لجأت إليها لتنفيذها هي التي خلقت شهرة حافظ نجيب.»
25
وهكذا نجد حافظ نجيب، يحاول تبرير كل جرائمه في النصب والاحتيال، بأنها جرائم ملفقة من قبل الأميرة فيزنسكي! وهذا التبرير لا يقنع الطفل الصغير؛ لأن من غير المعقول أن تتدنى أميرة روسية، صاحبة جاه ومال وسلطان وزوجة الملحق العسكري في الأستانة، فتقوم بتلفيق تهم النصب والاحتيال وتتورط في محاولة قتل، بمساعدة بعض أعوانها! ألم تخش هذه الأميرة على اسمها وسمعتها ومكانتها، إذا علم الأخرون بما تقوم به؟! ولماذا لم يقم حافظ نجيب نفسه بكشف علاقته بها إلى زوجها، أو إلى أية جهة أخرى انتقاما منها، كنوع من إبعاد خطرها عنه؟! وهذا غير مستبعد عن إنسان بأخلاق وتصرفات حافظ، علما بأنه اعترف كثيرا بأنه لم يحبها، بل كان يشبع رغباتها الآثمة على مضض! ووجهة نظرنا في هذا الأمر، تتمثل في أن الأميرة فيزنسكي شخصية وهمية لا وجود لها إلا في خيال حافظ نجيب وحده، وكأنها إحدى شخصيات رواياته الكثيرة؛ لأن شكوكا منطقية تحيط هذه الشخصية من كل جانب - بل وتحيط «اعترافات حافظ نجيب» - كما سنرى.
وبالعودة إلى حافظ في اعترافاته، نجده يتعرف على فرنسين اليهودية، والتي ساعدته في الهروب من السجن، بعد أن تم حبسه احتياطيا في جريمتي النصب والاحتيال الأخيرتين، وكان هذا أول هروب لحافظ من السجون المصرية! وتمثلت قصة هروبه في أن فرنسين ذهبت إلى نيابة شبرا واتهمت رجلا نصب عليها، واستولى على بعض مجوهراتها، وتظن أنه حافظ نجيب المحبوس احتياطيا في سجن الاستئناف. فقام الضابط المسئول باستدعاء حافظ لعرضه على المرأة لعلها تتعرف عليه. وقام بحراسة حافظ أحد الجنود، فتم استبداله بأحد أعوان فرنسين، وفي الطريق وأثناء الترحيل من سجن الاستئناف إلى نيابة شبرا، هرب حافظ نجيب!
وهكذا تخلى حافظ بهروبه من السجن عن اسمه، وفي ذلك يقول لفرنسين: «لا تتوهمي أن المطاردة ستكون سببا في عجزي عن التمتع بكل حريتي، إنهم سيطاردون حافظ نجيب، ولكنني سأترك لهم ذاك الاسم الذي يلوثونه والصورة التي خلقها الله، وسأتحول إلى إنسان جديد يحمل اسما نكرة ووجها كاذبا فأختفي عن العيون في ظلام التنكر، ولكنني سأعيش بين سمع الناس وأبصارهم؛ أمتع نفسي بكل ما على ظهر الأرض من الملذات.»
26
ومن الغريب أن حافظ نجيب - أو من عبث باعترافاته ونشرها بعد وفاته - نسي أنه كتب في مجلة «الحاوي» قصة بعنوان «زهرة هانم»،
27
وفي هذه القصة اعترف حافظ بأنه بطلها عندما كان شابا في العشرين من عمره، حيث تعرف على زهرة هانم في أحد أسفاره، فتعلقت به المرأة إلى درجة الجنون، ولكنه كان يصدها؛ لأنه شعر بأنها تريد امتلاكه. وعندما زاد صده لها استأجرت قاتلا محترفا ليقتله، ولكنه فشل في مهمته. وبعد أيام قبض البوليس على حافظ نجيب يوم 14 / 12 / 1907، ثم أفرجت عنه محكمة الموسكي الجزئية بكفالة مالية يوم 28 / 12 / 1907، وأرسل حافظ لأحد أصدقائه رسالة يطالبه بدفع الكفالة قبل ظهر يوم 29 ديسمبر.
وفي صباح يوم 29 ديسمبر استدعت نيابة شبرا حافظ نجيب للتحقيق معه في قضية جديدة لا يعلمها ولا يعرفها، فجاء عسكري لاستلامه من قسم الموسكي لترحيله إلى نيابة شبرا، واستقل العسكري بصحبة حافظ سيارة أجرة، فلاحظ حافظ أن السيارة تسير في طريق آخر غير طريق نيابة شبرا، حتى دخلت السيارة إلى قصر مهجور، وتم سجن حافظ في قبوه. وعرف حافظ أن هذا القصر لزهرة هانم، وأن العسكري باعه لها مقابل المال، ولكن حافظ نجيب بدهائه استطاع أن يهرب من القصر. وفي صباح اليوم التالي قرأ في الصحف هذا النبأ: خرج حافظ نجيب في حراسة عسكري للذهاب إلى قسم من الأقسام ففر منه في الطريق.
ومن خلال هذه القصة، يتضح لنا أن فيزنسكي هي زهرة هانم، بكل تصرفاتها والأحداث المحيطة بها، كما جاءت في الاعترافات! بل إن قصة زهرة هانم هي القصة الحقيقية الثابتة؛ لأنها منشورة عام 1925، أثناء وجود حافظ نجيب على قيد الحياة، وعندما كان متمتعا بحياة مستقرة وصاحب إحدى المجلات! هذا بالإضافة إلى وجود التواريخ الموثقة في قصة زهرة هانم، تلك التواريخ المهملة في معظم صفحات الاعترافات! ولهذا يسهل علينا أن نشك في «اعترافات حافظ نجيب »، وأن هناك يدا عبثت بها ونشرتها بعد وفاته!
هناك سبب آخر لهذا الشك. فقد اعترف حافظ نجيب في اعترافاته عام 1946، بأن هروبه من السجن لأول مرة، كان بمساعدة فرنسين اليهودية، عندما قامت بتهريبه أثناء ترحيله إلى نيابة شبرا! ولكنه في عام 1925 كتب قصة «عمر بك»،
28
وكان هو بطلها وباعترافه. وفي هذه القصة نجده يقول إن سبب هروبه من السجن لأول مرة، كان بسبب فتاة تركية تعرف عليها وأحبها تدعى إقبال، كانت طريحة الفراش في مستشفى بحلوان بين الحياة والموت، وعندما هرب مكث معها لحظاتها الأخيرة! فأي القصتين نصدق؟! القصة التي كتبت عام 1925 بتوقيع صريح من حافظ نجيب، وباعترافه الصريح أيضا بأنه بطلها، أم القصة التي كتبت ونشرت بعد وفاته في اعترافاته عام 1946؟!
ولم يقتصر الاختلاف بين أحداث اعترافاته، وبين الأحداث نفسها المنشورة في قصص مجلته على هاتين القصتين، بل هناك قصص أخرى كثيرة، منها على سبيل المثال، قصة «علقة في الحمام» التي نشرت في مجلة «الحاوي» عام 1925،
29
عندما تنكر حافظ في شخصية الحاج فرغلي بائع الحمص والفشار، واستطاع أن يهرب من البوليس عن طريق حمام النساء، وتسبب في قيام النساء بضرب رجال البوليس بالقباقيب! وهي قصة نشرت في الاعترافات، مع اختلافات كثيرة، أهمها أن الحاج فرغلي في القصة أصبح عم دؤدؤ في الاعترافات عام 1946! وهناك قصة أخرى بعنوان «خادم الرئيس»، نشرت في «الحاوي»،
30
عندما تنكر حافظ في شخصية الخادم حسن، الذي عمل لمدة تسعة أشهر في منزل رئيس النيابة، وهي القصة نفسها التي جاءت في الاعترافات، مع بعض الاختلافات من أهمها أن حسن الخادم أصبح في الاعترافات الخادم مبروك!
وإذا كنا قد شككنا في شخصية الأميرة فيزنسكي، وأنها زهرة هانم، أو أنها شخصية روائية ابتكرها حافظ، فسنجد أيضا أن شخصية الكونتس سيجريس، التي تزوجها حافظ في اعترافاته، هي أيضا شخصية مشكوك في أمرها! فقد ألف حافظ عام 1915 مسرحية أو رواية «الحب والحيلة»، وهي تحكي قصته مع الملكة الفرنسية ناتالي، والقصة بكاملها عبارة عن مراحل متنوعة من علاقته بسيجريس كما جاءت في اعترافاته، مع الاختلاف في الأحداث والأسماء!
وفي عام 1920، ألف حافظ نجيب مسرحية «محور السياسة»، وفيها نجده يخدع الجميع بموته، ثم عودته إلى الحياة مرة أخرى، هربا من مطاردة البوليس، وإسقاط التهم المنسوبة إليه، وذلك كي يتزوج من تلميذته إحسان - بطلة المسرحية - وهذه المسرحية تمثل مرحلة من مراحل حياة حافظ نجيب، كما جاءت في اعترافاته، عندما أراد الزواج من سيجريس!
وفي عام 1924، ألف حافظ قصة قصيرة بعنوان «غرام أنطوان دوريه»، نشرها في مجلة «العالمين»،
31
وهي تحكي قصته عندما تنكر في شخصية أنطوان دوريه، وأحب الفتاة أليس، التي حضرت إحدى محاكماته وطلبت منه أن يهرب لمقابلتها، فوعدها وحدد الموعد والمكان، وأعلن للقاضي وسط المحكمة بأنه سيهرب غدا لأنه ضرب موعدا للفتاة، ويجب أن يفي بهذا الموعد، وسط ضحكات من في قاعة المحكمة. وبسبب هذا الإعلان تشددت الحراسة عليه في السجن، وفي صباح اليوم التالي فتحت الزنزانة فلم يكن بها حافظ! وهذه القصة تمثل أيضا مرحلة من مراحل علاقته بالكونتس سيجريس، وبالأخص ما حدث في حفل سرحان باشا، كما جاء في الاعترافات!
وأخيرا ألف حافظ نجيب قصة قصيرة بعنوان «الخواجا غالي»، نشرها في مجلة «الحاوي» عام 1925،
32
وهي تحكي قصته عندما تنكر في شخصية الخواجا غالي، هاوي الآثار، وعلاقته بالسائحة إيزابيل، ومصاحبته لها لمدة شهرين، لمشاهدة الآثار المصرية. وهذه القصة تمثل إحدى مراحله مع سيجريس كما جاءت في اعترافاته. فهل الكونتس سيجريس هي الملكة ناتالي، أم تلميذته إحسان، أم الفتاة أليس، أم السائحة إيزابيل؟! أم هي إحدى شخصيات رواياته المؤلفة، وقام - أو من عبث في اعترافاته - بإقحامها في اعترافاته، كما حدث لشخصية الأميرة فيزنسكي!
وإذا نظرنا إلى «اعترافات حافظ نجيب»، وإلى قضايا النصب والاحتيال، التي اتهم فيها وجرم بسببها - كما مر بنا - سنجد هناك قضايا نصب واحتيال أخرى أضيفت إليه، منها احتياله على رجل يهودي سرق ساعته، فحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، ولكن حافظ نجيب في اعترافاته، برر هذا الاتهام بأنه من تلفيق فيزنسكي.
33
وفي موضع آخر نجده يقول: «أسلمت نفسي للقضاء في 1913 لتصفية الحساب بيني وبين الحكومة لأسباب هامة طرأت علي، وبدلت إصراري الأول بغيره، والعقوبات الصادرة بأحكام غيابية من محاكم الجنايات تسقط بمجرد القبص على المحكوم عليه، فأعيدت الإجراءات من جديد وقدمت لمحكمة الجنايات في إحدى القضايا.»
34
ومن الملاحظ على هذا القول، أن حافظ نجيب ولأول مرة، لم يبرر اتهامه في إحدى القضايا بأنها من تلفيق فيزنسكي! هذا بالإضافة إلى أنه لم يوضح ما هو هذا الحساب الذي بينه وبين الحكومة! بل ولم يوضح ما هي القضية نفسها، وما هو الاتهام الموجه إليه! وهذا التعتيم يثبت أن حافظ نجيب بالفعل قام بمجموعة من الجرائم، أوجبت محاكمته، وكأن هذا التعتيم اعتراف صريح من حافظ بأنه مجرم يستحق المحاكمة والسجن! وبالرغم من ذلك نجده يقول لصديقه خليل حداد: «لن أنفذ أي حكم من الأحكام التي ستصدر ضدي، سأترك لهم اسم حافظ نجيب يكيلون له التهم ويصدرون عليه الأحكام كما يشاء خصومي، سأختفي من العالم بجسمي وأترك لهم اسمي، وسأحمل أسماء كثيرة أختارها للظروف المتنوعة والمناسبات، فيعجزون عن الاهتداء إلي ويتعذر عليهم تنفيذ الأحكام.»
35
وحقيقة الأمر أن حافظ نجيب، قام بكم كبير من قضايا النصب والاحتيال، فتم الحكم عليه غيابيا بالسجن لسنوات كثيرة، وهذا يفسر لنا العدد الكبير من الشخصيات التي انتحلها وتنكر فيها، هربا من تنفيذ الأحكام! وهي شخصيات جاءت في اعترافاته عام 1946، ومن قبل جاءت في قصصه المؤلفة - والتي يعترف بأنه بطلها - والمنشورة في مجلتي «العالمين» و«الحاوي» منذ عام 1923. ومن هذه الشخصيات: الجاسوس الأخرس، الرجل البدين، عم دؤدؤ أو الحاج فرغلي، الخادم مبروك أو حسن، المسيو بنفيه، البارون دي ماسون، الشيخ صالح عبد الجواد، الراهب غبريال إبراهيم، الراهب غالي جرجس أو فيلوثاؤس، البارون ماير أو شنيدر، المسيو توندور، الخواجا غالي، مسيو أنطوان دوريه، بنفيه خادم الملكة ناتالي، محمد صبحي، الشيخ بكر! وقد أضاف الزركلي في أعلامه شخصيات أخرى تنكر فيها حافظ نجيب، وهي الأمير يوسف كمال، ابن أخي أفلاطون باشا، المندوب السامي العثماني!
36
ويبرر حافظ نجيب تنكره في هذه الشخصيات، بقوله : «في صدري غل من الهيئة الاجتماعية بسبب حملات الصحف علي اعتباطا لتلويث اسمي واعتقاد الناس صحة ما ينشر بدون وزنه. ولجوء الجميع إلى التندر بهذا الاسم مع الإسراف في تخيل حكايات ونوادر ينسبونها إلي كما كانوا يفعلون بجحا، فدفعني هذا الغل إلى التنكر للرأي العام وللهيئة الاجتماعية ثم استخففت بالقوانين والأخلاق والعادات والتقاليد وتعمدت أن أعيش في حرية مطلقة بدون تقيد بنظم الاجتماع.»
37
وقبل أن نختتم الحديث عن صورة حافظ نجيب في اعترافاته، سنحاول الإجابة على سؤال يقول: لماذا كتب حافظ نجيب اعترافاته؟! وهل كان في حاجة إلى كتابتها قبل وفاته؟! وتجيب على هذا السؤال «سعدية الجبالي»
38 - ناشرة الاعترافات بعد وفاته عام 1946 - قائلة: «أرغمت الأستاذ حافظ نجيب على نشر اعترافاته في حياته بدلا من نشرها بعد مماته، لأمكن الناس من تكذيب ما لا يصدقونه، ولأمكنه من الرد عليه، فلا ينهشون لحمه وهو جثة كما نالوا منه بنشر الأكاذيب والخرافات وهو مطارد عاجز عن الدفاع عن نفسه. إن جلجلة صوت الحق تدمغ الباطل وتفزع الجبان.»
39
وهذا القول يعني، أن سعدية الجبالي كانت تهدف من نشر الاعترافات تكذيب كل ما أشيع عن حافظ نجيب! فهل قامت الاعترافات بالتكذيب حقا؟! أنا أرى أن الاعترافات رسخت الأكاذيب وجعلت منها حقائق ثابتة! وأي تكذيب ينفع أمام اعتراف حافظ نجيب بجحوده لأهله ... وبشربه للخمر ... وبارتياده للبارات والملاهي ... وبمجالسته للساقطات والراقصات وبنات الهوى ... وبقيامه بارتكاب الكبائر! ومن العجيب أن هذه الأمور بالنسبة إلى حافظ نجيب لا تعتبر من الأخطاء، بل هو يفتخر بذكرها؛ لأنها مفيدة للناس؛ لأن هناك أفظع منها خجل حافظ من ذكرها، فتجنبها في اعترافاته! وفي ذلك يقول: «في ماضي كثير من الأخطاء وقليل لا يشرف ذكره ولا يفيد الناس عرضه، وحب الذات يقتضي كتمانه ونسيانه ومحوه من ألسنة الناس بمرور الزمن.»
40
إذن هناك غرض آخر لكتابة هذه الاعترافات، غير السبب الواهي الذي جاء في كلمة سعدية الجبالي! بدليل أن حافظ نجيب يعترف بأن هناك أشياء لا يشرفه ذكرها، فكتمها عن الناس، ولم يصرح بها في اعترافاته! إذن ما زال السؤال الأول مطروحا: لماذا كتب حافظ نجيب اعترافاته؟! ويجيب حافظ على هذا السؤال قائلا: «أولادي يلحون علي لكتابة اعترافاتي. وقد عصيت هذا الإلحاح زمانا طويلا؛ لأنني أنفر من نبش الماضي، ولكن الإلحاح المتكرر وصل إلى حد الضغط الشديد والإكراه ... فخضعت وأطعت. وليس يهمني رأي الناس إذا عرفوا الحقيقة؛ لأنني قسوت على نفسي بحكمي ... ولست أكتب اعترافاتي لهؤلاء، إنما أكتبها لأولادي إجابة لرغبتهم.»
41
وهذا القول يطرح سؤالا آخر! لماذا ألح أولاد حافظ نجيب عليه لكتابة اعترافاته؟! ولماذا قاموا بنشرها بعد وفاته، رغم أن المنطق يقول إنها اعترافات غير مشرفة وتدين صاحبها وتتهمه بالمجون والزندقة والكفر وارتكاب الكبائر! فهل أراد الأولاد تلويث سمعة أبيهم أمام الناس بعد وفاته؟! أليس من الحكمة إخفاء هذه الاعترافات ودفنها مع صاحبها؟!
الواضح أن أولاد حافظ نجيب وقت كتابة ونشر اعترافات أبيهم، كانوا أصحاب مراكز مرموقة، وبلغوا من العمر درجة النضوج، وأصبح لديهم مستقبل مشرق أرادوا الحفاظ عليه، وتنقيته من أية شوائب كانت موجودة في الماضي! وأظن أن الشوائب الموجودة في اعترافات أبيهم كثيرة، ولكنها لا تؤثر عليهم، بل تؤثر على سمعة أبيهم وحده، إلا شائبة واحدة، هي التي يخشون منها، وهي تهمة «النصب والاحتيال»! فهذه التهمة وحدها كفيلة بأن توصمهم بالعار مدى الحياة؛ لأنهم سيوصمون بأبناء النصاب المحتال! والنصب والاحتيال من الصفات التي تلازم الإنسان مدى الحياة، مهما كفر عنها أو ابتعد عنها! أما شرب الخمر وارتياد الملاهي وارتكاب الكبائر، فمن الممكن للإنسان أن يقلع عنها في شيخوخته، ومن الممكن تبرير القيام بها بأنها كانت وقت الشباب وثورته.
والدليل على هذا الأمر، أن حافظ نجيب في اعترافاته، كان يدافع عن نفسه أمام تهمتي النصب والاحتيال بكل قوة، وكان يبرر الاتهامات الموجهة له، بأنها اتهامات من تدبير الأميرة فيزنسكي! وعندما يتعرض إلى اتهام معين من الصعب تبريره، كان يمر عليه مرور الكرام، ولا يوضحه!
وهناك هاجس يراودني، ويتمثل في شكوك حول الاعترافات نفسها! فأنا أشك في أن حافظ نجيب هو الذي قام بكتابة الاعترافات، وأشعر بأن أحدا آخر قام بذلك، من أجل تبرير تهم النصب والاحتيال! وهذا الاحتمال له أسباب عديدة، منها أن حافظ نجيب اعترف بتصرفات مخزية كثيرة، كان منها الكفر! فلماذا يتهرب من الاعتراف بجرائم النصب والاحتيال؟! ومن الأسباب أيضا؛ أن معظم أحداث الاعترافات التي نشرت عام 1946، تم نشرها في مسرحيات وقصص ممثلة ومنشورة منذ عام 1915، قام حافظ بتأليفها وتمثيلها ونشرها، والاعتراف بأنها قصص من حياته! لذلك كان من السهل أن يقوم أي إنسان، بتجميع هذه الأعمال والعبث في بعض أحداثها، ونشرها على شكل اعترافات.
أما آخر الأسباب وأهمها - من وجهة نظري - والذي يؤكد أن هذه الاعترافات تم العبث بها من قبل آخرين، أن حافظ نجيب توقف عن إصدار مجلته «الحاوي»، بعد صدور العدد رقم 41 بتاريخ 24 / 3 / 1927، ثم أعاد إصدار المجلة مرة أخرى عام 1929، وفيها بدأ في نشر اعترافاته، قبل أن تظهر في شكل كتاب بعد وفاته عام 1946! فالعدد الثالث من مجلة «الحاوي» بتاريخ 26 / 8 / 1929، به باب بعنوان «اعترافاتي»! وفي العدد نفسه إعلان يقول: «إن اعترافاتي بقلم حافظ نجيب تظهر في «الحاوي» كل أسبوع باستمرار حتى تتم». وهذا يعني أن الأعداد الأول والثاني والرابع وما بعده، ربما بها حلقات أخرى من «اعترافات حافظ نجيب»! ولكننا لا نملك الدليل على ذلك لفقد هذه الأعداد، حيث إن دوريات دار الكتب المصرية، لا يوجد بها من أعداد مجلة «الحاوي» لسنة 1929 إلا العدد الثالث فقط!
والملاحظ أن حلقة «اعترافاتي» المنشورة في العدد الثالث، كانت تشتمل على عدة أحداث، منها زواج الكونتيس سيجريس وحافظ نجيب عندما كان متنكرا في شخصية البارون في مكتب الأستاذ فاتيكا المحامي بشارع الساحة بتاريخ 1 / 2 / 1909، حيث قضى الزوجان السهرة في جزيرة بالاس أوتيل. وفي أحداث أخرى من هذه الحلقة، وتحت عنوان «عند لويزة فلورانجي» نعلم أن حافظ نجيب كان يسكن بشارع كوبري قصر النيل بالعمارة رقم 15 الدور الثاني، في شقة لويزة فلورانجي، وكان متنكرا في شخصية الخواجا غالي جرجس، وكان على علاقة بلويزة، وعندما اكتشف خيانتها له تركها وذهب للسكن في غرفة مفروشة في شارع أبو السباع أمام الكنيسة عند سيدة إيطالية شابة وجميلة تدعى مادلين، وكان هو متنكرا في شخصية رجل يدعى محمد صبحي أفندي. هذا بالإضافة إلى أن هذه الحلقة بها بعض الأحداث الخاصة بحافظ نجيب عندما كان متنكرا في شخصية الراهب فيلوثاؤس.
ولعل أحد القراء، يعارضني ويقول: إن المسرحيات الممثلة، والقصص المنشورة في مجلة «الحاوي»، والتي قام حافظ نجيب ببطولتها، لا تعتبر اعترافات أو مذكرات؛ لأنها مسرحيات وقصص مكتوبة بأسلوب فني، وهذا يفسر اختلافها في بعض الأمور عن الأحداث نفسها عندما نشرت في الاعترافات! وإذا تقبلنا هذا الرأي، فماذا سنقول أمام حلقة «اعترافاتي» المنشورة عام 1929؟! أليست هذه اعترافات صريحة كتبها حافظ نجيب ونشرها في مجلته، وهو على قيد الحياة؟! فلماذا جاءت هذه الحلقة مختلفة اختلافا كبيرا عن الأحداث نفسها، التي جاءت في كتاب الاعترافات، المنشور بعد مماته؟! ولماذا جاءت بها أحداث، لم نقرأ عنها ولم نعلم عنها شيئا، في كتاب الاعترافات أيضا؟!
فعلى سبيل المثال، نجد أحداث حلقة «اعترافاتي»، تتحدث عن زواج حافظ بالكونتيس سيجريس عندما كان متنكرا في شخصية البارون في مكتب الأستاذ فاتيكا المحامي بشارع الساحة بتاريخ 1 / 2 / 1909! وهذا التفصيل الموثق غير موجود في كتاب الاعترافات! هذا بالإضافة إلى أن تاريخ الزواج غير مذكور في كتاب الاعترافات، بل إن هذا التاريخ دليل كبير على العبث في «اعترافات حافظ نجيب»؛ لأن تاريخ الزواج كان في عام 1909، علما بأن كتاب الاعترافات يثبت أن زواج حافظ بالكونتس وانفصاله عنها كان قبل دخوله الدير في عامي 1907، 1908! فأي الأمرين نصدق؟! ونقطة أخرى مهمة، أن أحداث حلقة «اعترافاتي» بها قصص عن علاقة حافظ نجيب بامرأتين؛ الأولى لويزة فلورانجي، والأخرى مادلين، وكان حافظ متنكرا في شخصية رجل يدعى محمد صبحي، وهذه الأحداث كلها لا يوجد لها أي أثر في كتاب الاعترافات؟!
فهل قام أحد المقربين من حافظ نجيب، بتجميع مسرحياته وقصصه المنشورة في مجلة «الحاوي»، وما كتب عنه في الصحف من حقائق أو أكاذيب، وقام بصياغة كل ذلك في شكل اعترافات، قام بنشرها بعد وفاته، كي ينفي عنه تهمة النصب والاحتيال؟! سؤال لا نملك الإجابة عليه حاليا، وربما تكشف الأيام المقبلة عن إجابات وتفسيرات لهذا السؤال! ... فهذا هو جهدنا المتواضع، في إبراز صورة حافظ نجيب، المستخلصة من اعترافاته المنشورة. والآن نتعرض لصورة حافظ نجيب عند معاصريه.
فمن الثابت أن الصحف المصرية، في أوائل القرن العشرين، بدأت تكتب بعض الأخبار المتفرقة عن حافظ نجيب، وعن أعماله. ولكن هذه الكتابات لم تؤثر على القراء، ولم تكتب شهرة حافظ نجيب، إلا بعد أن كتب جورج طنوس،
42
أول كتاب كامل عن حافظ نجيب، وكان بعنوان «نابغة المحتالين أو حافظ نجيب»! وتم نشر هذا الكتاب فيما بين عامي 1909 و1912.
43
والكتاب عبارة عن مجموعة من أخبار وحوادث حافظ نجيب، ومجموعة من قصائده، ورواية طويلة من تأليفه، استغرقت معظم صفحات الكتاب.
هذا بالإضافة إلى أن الكتاب به صورة شخصية لحافظ نجيب، تجعل الرائي يتعجب عندما ينظر إليها، لشدة دمامة صاحبها، وملامحه المتوحشة!
44
فالناظر إليها لا يصدق أن صاحب هذه الصورة، هو حافظ نجيب الذي تزوج من الكونتيس سيجريس، وكانت تحبه وتعشقه لدرجة الجنون الأميرة فيزنسكي، وكان يجالس ويراقص ويعشق الجميلات! فهذه الصورة تثبت أحد أمرين، إما أن علاقات حافظ نجيب بالنساء، كانت علاقات وهمية من ابتكاره، ليعوض بها مركب النقص، الذي كان يشعر به! لأن من غير المعقول أن امرأة دميمة، تستطيع أن تنظر لوجه حافظ نجيب - تبعا لصورته المنشورة - أكثر من دقائق معدودة، فما بالنا بالأميرات ممن أوقعن في حبه وعشقه! والأمر الآخر أن تنكر حافظ نجيب، كان بسبب تجميل وجهه أمام الناس وأمام النساء بصفة خاصة، بالإضافة إلى سبب هروبه من مطاردة البوليس!
ويبين جورج طنوس عن هدفه من الكتاب، قائلا في تمهيده: «لا عجب إذا تشوق الناس إلى سماع كل شيء عن حافظ نجيب المحتال الأشهر؛ لأنه أظهر بأعماله وفراره من أيدي رجال البوليس ثلاث مرات متواليات، أنه داهية نادر المثال بين معاشر النصابين والسارقين. ولأن الناس مولعون دائما بالوقوف على أخبار نوابغهم، سواء نبغوا في الشر أو الخير؛ لأنهم يعدون من مصف غير مصاف سائر العالمين؛ إذ برهنوا بأعمالهم واقتدارهم على أن ليس في وسع غيرهم إتيان ما أتوه، من غريب الأعمال ومدهش الأفعال؛ فلهذا رأيت أن أذكر بعض ما يهم من أخبار حافظ نجيب، قبل الحكم عليه في حادث سرقته أوسمة حضرة الكاتبة الفاضلة السيدة ألكسندرا أفيرينو، صاحبة مجلة «أنيس الجليس» تفكهة للقارئين.»
45
بعد ذلك بدأ طنوس بسرد أخبار حافظ نجيب، وهي عبارة عن رؤية مضادة للقصص التي كتبها حافظ نجيب في مجلته «الحاوي»، أو في اعترافاته! فعلى سبيل المثال يقول طنوس: إن حافظ نجيب تنكر في شخصية الراهب واختفى في دير المحرق، بسبب احتياله على راقصة تعمل في القهوات العامة!
46
وهذه المعلومة، تخالف ما ذكره حافظ بأن دخوله الدير، كان بسبب حالته النفسية السيئة أثر انفصاله عن زوجته سيجريس، أو بسبب نصيحة رجال الحزب الوطني، كما مر بنا!
وقصة أخرى يرويها طنوس، تحت عنوان «الكونت الإيطالي وحافظ نجيب في فندق الكونتننتال»، وهي تحكي عن وجود حافظ في فندق الكونتننتال متنكرا في شخصية ابن أمير مات والده. وفي الفندق تعرف على كونت إيطالي، ووصل التعارف بينهما إلى أن حافظ نجيب عرف كل صغيرة وكبيرة عن هذا الكونت. ومن ثم علم حافظ أن الكونت له يخت في البحر فعرف اسمه وأسماء بحاراته ومواقعهم على هذا اليخت. وبعد أيام قليلة، انتحل حافظ شخصية هذا الكونت، وعن طريق النصب والاحتيال استولى على اليخت، وسافر به إلى فرنسا ثم باعه أخيرا في أمريكا.
47
وهذه القصة تختلف اختلافا كبيرا، عما ذكره حافظ نجيب في اعترافاته، عندما قال إنه تعرف على كونت سويدي اسمه ماير، وكان مريضا فساعده على كتابة وصيته، كما طلب منه أن يكتب له توكيلا، حتى يستطيع أن يستخلص ثروته ليضمها إلى الوصية! وعندما مات الكونت انتحل حافظ شخصية البارون الحقيقية، وهي البارون شنيدر، وذلك من أجل تنفيذ وصيته! وبهذا الفعل حصل حافظ على أموال ويخت البارون! والغريب أن حافظ نجيب في اعترافاته لم يخبرنا بنهاية القصة، وما هو مصير اليخت وأموال البارون، وهل قام بتنفيذ وصية البارون أم لا؟! بل إننا نجد في الاعترافات قولا لحافظ نجيب، يشير إلى نيته السيئة تجاه البارون، ويوحي بأنه سيقوم بالنصب والاحتيال عليه!
48
فمثلا عندما طلب حافظ من البارون أن يكتب له توكيلا للحصول على ثروته، وقام البارون بكتابة التوكيل بالفعل، تعجب حافظ من ذلك، قائلا: «لست أدري كيف أصغى لمشورتي وكتبها في غير احتراس؛ لأن الأيام القليلة التي عاشرته فيها لم تكن كافية لحمله على الثقة بي كرجل غريب لا يعرفه حق المعرفة، ثم عللت هذا التصرف غير الحكيم بأنه تم والرجل في حالة ضعف أثرت في عقله تأثيرا منعه من وزن الأمر بعناية قبل كتابة الكتاب الخطير.»
49
ثم ينتقل طنوس إلى قصة أخرى، ذكرها تحت عنوان «حكاية حافظ نجيب مع البرنسس ألكسندرا أفيرينو صاحبة مجلة أنيس الجليس»، وفيها نعلم أن حافظ نجيب تعرف على ألكسندرا أفيرينو، صاحبة مجلة «أنيس الجليس»، عن طريق انتحاله لصفة شقيق إحدى المشتركات في المجلة. وبمرور الأيام زاد التعارف بينهما، فرأى في مكتبها صورة زيتية مرسومة لها، فانتقد الرسام الذي رسمها، ووعدها بأنه سيرسم لها صورة أفضل منها، فانتقت ألكسندرا صورة شخصية لها، وهي مزينة بالأوسمة والنياشين. وبعد فترة اتصل بها حافظ، وأخبرها أن الأوسمة والنياشين غير واضحة المعالم والألوان في الصورة؛ لذلك فهو يرغب في رؤية هذه الأوسمة والنياشين على طبيعتها. وبالفعل أرسلت له ألكسندرا أوسمتها ونياشينها. وبعد عدة أيام ظهر حافظ نجيب أمام الناس مرتديا مجموعة من الأوسمة والنياشين، بعد أن أوهمهم بأن السلطان فلان أعطاه هذا الوسام، وأن الأمير فلان أعطاه هذا النيشان ... إلخ، وعندما تأخر حافظ عن ألكسندرا، شكت في أمره فأبلغت عنه البوليس وتم القبض عليه، وسجن في سجن الحضرة لمدة سنتين.
50
وهذه القصة، رغم أنها تثبت تهمة النصب والاحتيال، إلا أنها جاءت مخالفة لما ذكره حافظ في اعترافاته، بأن الراقصة حميدة هي التي سرقت نيشان ألكسندرا، ورقصت به أمام الناس، وأن فيزنسكي هي التي دفعت ألكسندرا كي تتهمه بتبديد نيشانها، كما مر بنا .
ولم يكتف طنوس بذكر قصص حافظ الموجودة في قصص مجلة «الحاوي» أو في قصص اعترافاته، بل أضاف إليها مجموعة من القصص الجديدة، التي تثبت جرائمه في النصب والاحتيال، ومنها على سبيل المثال «حكاية الإرسالية»، وهي عبارة عن قصة، قام حافظ نجيب فيها بالنصب على إحدى الإرساليات المسيحية، حيث حصل من رئيسها على مبلغ كبير من المال، أظهره أمام الناس في الإسكندرية بمظهر الأعيان. ثم استكمل طنوس سرده لقصص النصب والاحتيال في حياة حافظ نجيب، تحت مجموعة من العناوين، منها: حكاية العصا، في نادي الميسر، حادث الكمبيالة.
51
وقد أدلى طنوس برأيه في حافظ نجيب، وتناقض تصرفاته، قائلا: «ومن غرائب أمره أيضا، أنه عندما بدأ يحترف صناعة النصب، كانت أطواره غريبة تدعو إلى الدهش الكبير. فقد كان يظهر اليوم لناظريه والذهب يغطي أديم أصابعه ويزين صدره وجميع ملابسه، فلا تغرب شمس الغد إلا وقد باع كل ذلك، وأنفقه مع ما كان معه من المال، وعلى من؟ على فتيات الهوى؛ لأنه كان مولعا بإنفاق الذهب الرنان بالمئات في قهوات الرقص. وما ذاك إلا لاعتقاده أن هذه القهوات، تظهره للناس بمظهر الوارثين والأغنياء ... بينما كنت تراه رث الثياب، خاوي الوفاض، وعلى وجهه ملامح الكآبة واليأس، تراه بعد أسبوع على الأكثر، وقد ظهر لك بمظهر عظماء الرجال، واقتنى العربات الفاخرة، والمطهم من الجياد.»
52
كما أن ناشر كتاب «نابغة المحتالين» أو طابعه، ذكر أيضا رأيه في حافظ نجيب، بالإضافة إلى ذكر معلومات جديدة - تبعا لمعرفته الشخصية به - قائلا تحت عنوان «كلمة الطابع»: «كان حافظ ولا ريب، في بدء حياته شابا نبيلا، كريم العواطف، شريف الأخلاق ... ولا يبعد أن يكون حافظ ... ربيب الكرم والرخاء؛ لأن دخوله إلى المدارس الكبرى، وحصوله على الشهادات العالية، يدلان على أن الذين كفلوه في صغره قوم كرام النفوس، وعلى سعة من العيش. فإذا ثبت هذا كان دخول حافظ في زمرة المحتالين والنصابين، لا للغرض الذي يسعى إليه غيره، وهو حشد المال؛ لأن التحقيقات القضائية التي أجرتها النيابة العمومية، والحوادث العديدة التي رويت عنه، تدل على أنه كان ينفق بإسراف كل ما يحصل عليه من المال، حتى بلغ منه البذخ إلى أن ينفق في اليوم الواحد من خمسين إلى مائة جنيه أو يزيد. فهو على ما يظهر، وفق في أول أمره إلى سلب مبلغ من أحد من الناس، فظن أن الاحتيال على عباد الله أمر ميسور، وأنه من السهل عليه، نظرا لما أوتيه من الذكاء والاقتدار، أن يجعل احتياله قانونيا، بعيدا عن غائلة العقاب، فلا يدع فيه مجالا لدخول رجال البوليس، ولكن تهوره في الاحتيال، جره في آخر الأيام إلى السجون. وها هو لا يزال إلى اليوم شريدا.
ومن غريب أمره أنه يأنف الابتعاد عن بلاده، ولو ظل فيها هدفا لسهام البوليس، وكوارث السجن. يدلنا على هذا أنه بعد أن خرج من الأديرة القبطية، حاصلا على مبلغ كبير من المال، ناله من بعض رؤسائها ورجالها ... لم يشأ أن يهرب إلى بلد غير مصر، ويعيش تحت سمائه حرا، خاليا من كل تعب، بعيدا عن كل خطر. بل نزل في أعظم فنادق العاصمة، وأخذ ينفق المال بغير حساب، حتى اضطر في نهاية الأمر إلى الاحتيال على إحدى السيدات الفرنسويات، احتيالا وقع من أجله في أيدي البوليس، الذين كانوا يبحثون عنه ليل نهار. إن نابها كحافظ نجيب، لو استخدم ذكاءه في الخير، نفع أمته ونفسه. ولكن الظاهر أن كثيرين من الأذكياء، كان ذكاؤهم اختصاصيا بالشر، فلا يعرفون معنى الخير، ولا يميلون إليه. ولله في عباده شئون.»
53
ومن الغريب أن جورج طنوس، لم يكتف بإصدار كتاب «نابغة المحتالين» عن حافظ نجيب، بل شرع في ذلك الوقت في طبع كتاب ثان، قال عنه تحت عنوان «نوادر نجيب»: «بناء على رغبة الأكثرين من أهل الفضل والأدباء، شرعت الآن في طبع كتاب غير هذا باسم «نوادر حافظ نجيب»، سيظهر بعد زمن قريب، مشتملا على كل ما أتاه حافظ من المدهشات والمستغربات، منذ خروجه من سجن الحضرة إلى الآن. ولا سيما ما أجراه من غريب الحيل، في أديرة الرهبان، في العام الذي قضاه معتزلا عن عباد الله ... حتى خرج بعد ذلك العام، يحمل ألفا وأربعمائة جنيه، حصل عليها بطريقة مدهشة، متى اطلع عليها القارئون في الكتاب القادم، أدركوا أن حافظا، آية من آيات الزمان في الخداع والاحتيال.»
54
وبالبحث لم نجد كتابا باسم «نوادر حافظ نجيب» من تأليف جورج طنوس أو غيره، ولكن أحمد حسين الطماوي، أشار إلى أن هذا الكتاب صدر باسم «الراهب المسلم» عام 1910،
55
ولكنه لم يطلع عليه. كما أن هناك دليلا آخر على صدور هذا الكتاب، حيث قرر حافظ نجيب رفع قضية عام 1919 على من تاجروا باسمه، وألفوا كتبا عنه حشوها بما لا يرضيه، ولكن هذه القضية لم ترفع، واتضح أنها لعبة من ألاعيب حافظ.
56
أما الدليل الثالث، فقد جاء به حافظ نجيب نفسه، عندما كتب قصته في الدير لأول مرة، في مجلة «العالمين» بتاريخ 21 / 1 / 1924، قائلا قبل أن يسرد القصة: «ننشر اليوم هذه القصة، رغبة في ذكر الحقائق، التي شوهها بعض المرتزقين من الكتاب، حين طمعوا بكسب دريهمات، من سبيل نشر الخرافات عنا والطعن فينا، يوم كنا لا نملك وسيلة لدفع مفترياتهم، ولا فرصة لرد ألسنتهم البذيئة في أفواههم القذرة. ننشر هذه القصة اليوم ليعرف القراء الحقيقة، في حادثة أرجف بها المرجفون، وطنطن بها المحتالون، ليكسبوا الدرهم من طريق الكذب والتلفيق، لا يردهم أدب فقدوه، ولا مبدأ شريف لم يألفوه، وها هي الحقائق، لم ننقص منها ولم نزد، ليعرف الناس قدر الذين نشروا عنا ما نشروا، يوم أمنوا التأديب من رجل، ظنوه لن يعود إلى عالم الأحياء.»
وبعد أن سرد حافظ قصته في الدير بكل تفاصيلها المعروفة - كما جاءت في الاعترافات، مع بعض الاختلافات - قال: «هذه قصة وجودي في الدير وخروجي منه، وشهودها أحياء، القمص إيسيذورس لا يزال حيا يرزق وهو رئيس الدير الآن، ونيافة الأنبا باخوميوس وهو لا يزال أسقف الدير، والقس بطرس وهو الآن مطران أخميم، والقمص باخوم وعاذر أفندي جبران وبيومي أفندي الشناوي وكلهم أحياء، كذلك وكيل الدير تاضروس أفندي ميخائيل، الذي أرجف المرجفون بأنني أخذت منه مئات من الجنيهات، لشراء آلة لاستخراج الذهب، لا يزال حيا يرزق في منفلوط ... فقارنوا بين ما نشره صغار النفوس والعقول وبين الحقائق، تدركوا أن بعض الذين ينتسبون إلى الصحافة، كذبة ومنافقون، عاشوا قذى في عين ذوي الفضل من رجال الأدب، ولطخة عار في جبين الصحافة، التي نكبت بوجودهم بين رجالها.»
ومن الملاحظ على هذا القول، أنه موجه إلى كتاب ألفه جورج طنوس عن حافظ نجيب أثناء تنكره في شخصية الراهب، وحياته في الدير! ولم يكن موجها إلى كتاب «نابغة المحتالين»؛ لأن هذا الكتاب لم يتطرق إلى حافظ نجيب كراهب إلا بإشارة يسيرة! وهذا دليل على أن كتاب «نوادر حافظ نجيب» أو «الراهب المسلم» صدر بالفعل. ومن الجدير بالذكر، أن حافظ نجيب لم يكتف بهذا الرد على طنوس بخصوص كتاب «الراهب المسلم»، بل رد عليه أيضا بخصوص كتابه «نابغة المحتالين» في مجلة «العالمين» بتاريخ 8 / 3 / 1924، قائلا في ثنايا قصته «غرام أنطوان دوريه»: «دام اعتقالي أسبوعين، وخرجت يوما إلى دار النيابة في محكمة الموسكي، مكبلا بالحديد، حولي الجنود للحراسة. وكان الزحام شديدا في المحكمة، كلهم يريدون مشاهدة «حافظ نجيب»، الذي من عليه «جورج طنوس»، بشهرة تذهب بالكرامة، وتغري بالاحتقار، بما نشره اعتباطا، من القصص الموضوعة، والنوادر الكاذبة في كتابه «نابغة المحتالين».»
وحيث إننا لم نجد كتاب «الراهب المسلم»، كي نتحقق مما فيه من اتهامات، ونقارن بينها وبين ردود حافظ نجيب، إلا أننا من خلال اطلاعنا على كتاب «نابغة المحتالين»، نستطيع أن نقرر أن حافظ نجيب لم يكن في ردوده على مستوى اتهامات طنوس! أي إن الاتهامات كانت أكثر قوة وحجة من حيث الأدلة والبراهين، على قيام حافظ نجيب بالنصب والاحتيال، مقابل الهروب والتلاعب بالألفاظ والغموض الواضح على رد حافظ نجيب السابق! وهذا وإن دل، فإنما يدل على أن حافظ نجيب قام بالفعل، بعدة جرائم نصب واحتيال!
وعلى الرغم من ذلك، فإن شهرة حافظ نجيب، التي ملأت الأسماع والأصقاع في أوائل القرن العشرين، كانت بسبب ما كتبه عنه جورج طنوس! لدرجة أن مجلة «الزهور» في يونيو 1912، طرحت استفتاء من خلال سؤال عن: من هم نوابغ مصر؟ فجاء الاستفتاء يحمل اسم حافظ نجيب، ضمن هؤلاء النوابغ، أمثال: أحمد شوقي، الشيخ علي يوسف، حافظ ابراهيم، جورجي زيدان، يعقوب صروف، سعد زغلول، سمعان صيدناوي
57
ومن الواضح أن شهرة حافظ نجيب، وبالأخص تنكره في شخصية الراهب، وحياته في الأديرة القبطية، لازمته طوال حياته، وظل الناس يتندرون بها لسنوات طويلة! فعلى سبيل المثال، نشرت مجلة «مصر الحديثة المصورة» في 15 / 8 / 1928، مسرحية من فصل واحد - دون ذكر اسم مؤلفها - بعنوان «إعدام مائتي جريدة». وهي مسرحية تدور أحداثها في القاهرة بإدارة قلم المطبوعات بوزارة الداخلية، على أثر صدور قرار وزاري يقضي بإلغاء جميع الجرائد اليومية التي لا تصدر بانتظام. ومن الطريف أن حافظ نجيب كان أحد أشخاصها، وقد ظهر في حوار قصير، كالتالي:
حافظ نجيب (داخلا) :
استغفر الله العلي العظيم ... بسم الله الرحمن الرحيم ... إيه الراجل ده؟
جورج طنوس (داخلا) :
إيه؟ جرى إيه يا خواجة إلياس؟ صحتك بالدنيا ... تعالي نروح نشرب لنا كاس ويلعن أبو الجرايد.
إلياس زيادة :
الحق معك يا ابني ... الفية عرق بستين ألف جرنال من ها الجرنالات الملعونة ...
حافظ نجيب :
إيه رأيك يا جورج يا طنوس؟ أنا رايح أدور لي على دير من ديورة الأقباط أرجع أعمل فيه قمص زي زمان. دي الحكومة بتحرضنا على إننا نغير طريقنا وما نمشيش في السبيل السوي (تحدث ضجة في الخارج. ويدخل إسكندر مكاريوس صاحب اللطائف المصورة ومعه فؤاد مغبغب المحرر بها والدكتور خوري مديرها) .
58
وما يستفاد من هذا الحوار القصير، أن قصة تنكر حافظ في شخصية الراهب، واختفاءه في الأديرة القبطية، كانت من القصص المعروفة عند الجميع. هذا بالإضافة إلى أنها قصة لا يعلم حقائقها وخفاياها إلا اثنين فقط، حافظ نجيب وجورج طنوس، بدليل أن الحوار في هذا الأمر، كان بينهما فقط في هذه المسرحية!
وإذا كان جورج طنوس هو صاحب شهرة حافظ نجيب بين الناس، في أوائل القرن العشرين، بما كتبه عنه في كتابيه «نابغة المحتالين»، و«الراهب المسلم »، فإن أحمد حسين الطماوي هو صاحب شهرة حافظ نجيب، في أوائل القرن الحادي والعشرين، عندما كتب عنه مقالته الشهيرة «حافظ نجيب الفيلسوف المحتال»، في مجلة «الهلال، أغسطس 1994»! فهذه المقالة، كانت السبب في قيام - وباعتراف - ممدوح الشيخ بنشر «اعترافات حافظ نجيب»، تلك الاعترافات التي نتج عنها مسلسل فارس بلا جواد، ذلك المسلسل الذي أثار الضجة العالمية السياسية، تلك الضجة التي جعلت الكثيرين، ينهلون وينهبون مقالة الطماوي، سواء أشاروا إليه إشارة غامضة، أو صرحوا باسمه على سبيل الذكر - لا العرفان - أو أنكروه وأنكروا جهده!
حافظ نجيب ... الصحفي
سنتحدث هنا عن صورة أخرى، من صور حافظ نجيب المتعددة، وهي صورته كصحفي! فقد صدرت مجلة «العالمين» في 18 / 5 / 1922، لصاحبها عبد القوي الحلبي، ولكنها لم تصدر بانتظام في سنتها الأولى، وكان كاتب أغلب مقالاتها وقصصها الأديب كامل الكيلاني، الذي كان يوقع بحروفه الأولى «ك ك» على مقالاته وقصصه. أما مع بداية السنة الثانية لإصدار المجلة، في 10 / 10 / 1923، وتحت إدارة علي الحمراوي أفندي - دبلوم تجارة - وعلى غلاف العدد الأول، وجدنا هذه العبارة: «مجلة العالمين مجلة أسبوعية علمية أدبية اقتصادية روائية مصورة ... يحررها طائفة من كبار الكتاب أحدهم الكاتب الاجتماعي حافظ نجيب»!
أما أبواب مجلة «العالمين»، فكانت متنوعة، منها: الاجتماع، الأخلاق، الاقتصاد، الأدب المختار، التاريخ، التدبير المنزلي، الفكاهات والطرائف، التجارة، الزراعة، الألعاب الرياضية، الاكتشافات الحديثة، قصة الأسبوع، روايات مسلسلة، أخبار الأسبوع، حوادث الأسبوع المصورة. وفي الكلمة الافتتاحية، قال صاحب امتيازها: «وعدنا القراء ... بعزمنا على تأجيل إظهار المجلة وقتا ما، لانتقاء بعض كبار الكتاب ليشاركونا في تحرير المجلة، وللاستعداد لإظهارها كبيرة الحجم كثيرة الصور حافلة بالمواد العلمية والمختارات الأدبية. وها نحن ذا قد وفينا الوعد، فانتخبنا للمجلة طائفة من كبار كتاب القطر ستظهر أسماؤهم في ذيل الرسائل التي ننشرها لهم، وأضفنا إلى هذه النخبة الأستاذ «حافظ نجيب» الكاتب الاجتماعي الكبير الذي اشتهر في الشرق كله بما نشره بقلمه من الكتب الاجتماعية والروايات المشهورة، التي كانت في العامين الماضيين حديث القوم في كل مجتمع وسحرهم اللذيذ في كل بيت.»
وهكذا بدأ حافظ نجيب عمله الصحفي. وبالرغم من أنه لا يعتبر صاحب امتياز المجلة، ولا رئيس تحريرها، إلا أنه كان يقوم بأعبائها وحده! لدرجة أن هناك أعدادا كاملة قام بتحريرها بصورة كاملة! فعلى سبيل المثال، نجده في العدد الأول - للسنة الثانية - يكتب مقالة بعنوان التربية في باب أبحاث خلقية، ومقالة المرأة العصرية في باب أبحاث اجتماعية، وقصة طاهر وأمينة في باب قصة الأسبوع، وأخيرا يكتب الحلقة الأولى من القصة المسلسلة «الغرفة الصفراء» ... كل هذا في عدد واحد فقط!
ومن الملاحظ، أن حافظ نجيب كان يكتب في شتى أبواب المجلة، لدرجة أنه كتب في أمور ما كنا نصدق أنه كتب فيها، إلا بعد أن رأينا توقيعه الصريح عليها! فمثلا كتب مقالة بعنوان العروس الجديدة في باب «التدبير المنزلي»!
1
وكتب مقالتين في باب «الألعاب الرياضية»، غطى في الأولى مباراة لكرة القدم بين فريق الهايكو النمساوي، وبين فرقة منتخب القاهرة يوم 4 / 1 / 1924، وكانت تغطيته للمباراة تغطية خبير رياضي. أما المقالة الأخرى فكانت بعنوان «حادث هام في عالم الألعاب الرياضية»!
2
وبداية من العدد التاسع عشر الصادر في 11 / 2 / 1924، أصبح حافظ نجيب رئيس تحرير وإدارة المجلة، كما نشر تنويها، بأن جميع المكاتبات وكل ما يختص بأعمال المجلة، يرسل على عنوان حافظ نجيب بمصر القديمة. ومن تتبعنا للمجلة، لاحظنا أن حافظ نجيب تعثر كثيرا في إصدارها بصورة منتظمة، حيث أصدر العدد الأخير منها في 22 / 9 / 1924، أي بعد أكثر من خمسة أشهر، من صدور العدد السابق عليه، الذي جاء بتاريخ 5 / 4 / 1924!
غلاف العدد الأول من مجلة «الحاوي» عام 1925.
وبعد توقف مجلة «العالمين» بعشرة أشهر، أصدر حافظ نجيب - من بيته بشارع مصر القديمة - العدد الأول من مجلته «الحاوي» في 14 / 7 / 1925. وهذه المجلة كانت صورة مماثلة من مجلة «العالمين»، سواء في أبوابها أو أسلوب مقالاتها. وكان من أهم كتابها: كامل الكيلاني، محمد أمين حسونة، أبو مصطفى، أبو سعاد. ولكن الجديد فيها، كان مشاركة القراء في تحرير بعض أبوابها، وذلك بنشر رسائلهم في أبواب معينه، هي: الشعر المختار، النكات، الفكاهات، الأبحاث الاجتماعية، المتفرقات، النقد النزيه، الاختراعات الحديثة .
وفي افتتاحية العدد الأول، قال حافظ نجيب: «انقطعنا عاما عن الكتابة مكرهين، وقد كنا نظن أن للبطالة ولتقليد المترفين في نوع المعيشة شيئا من اللذة، فلم نشعر بغير الوحشة لانقطاعنا عن الاتصال بقرائنا، وبغير السآمة من سكون البلادة والخمول. أكرهنا بوسائل غير شريفة على وقف ظهور «مجلة العالمين» وقد كانت كما يعرف القراء، قلما امتدت يد القدرة الإلهة فطهرت الوجود من السبب الذي حدانا للامتناع عن إظهار المجلة. عدنا إلى عالم الصحافة مرددين قوله تعالي:
إن ربك لبالمرصاد .»
وبداية من العدد رقم 22 بتاريخ 8 / 12 / 1925، أدخل حافظ تعديلات في شكل المجلة، حيث كان ورقها من النوع الجيد، وخطها من النوع الراقي الجميل المنمق. هذا بالإضافة إلى وجود مقر ثابت للمجلة، وكان عنوانه: 40 الدرب الواسع بشارع كلوت بك.
ظلت مجلة «الحاوي» تصدر بانتظام حتى العدد رقم 40 بتاريخ 12 / 11 / 1926، والعدد رقم 41 بتاريخ 24 / 3 / 1927، حيث إنهما نشرتان إعلانيتان، أكثر من كونهما مجلتين! فقد صدر كل عدد منهما في أربع صفحات فقط، وكان يوزع مجانا على الجمهور، حيث إن كل عدد كان عبارة عن إعلانات متنوعة عن فرقة حافظ نجيب المسرحية، وما تقدمه وما ستقدمه من مسرحيات، سوف نتحدث عنها لاحقا.
توقفت مجلة «الحاوي» ما يقرب من سنتين ونصف، ثم أعاد حافظ نجيب إصدارها مرة أخرى في عام 1929. وللأسف الشديد لم نستطع الاطلاع إلا على العدد الثالث الصادر في 26 / 8 / 1929 - حيث إنه العدد الوحيد المحفوظ في دوريات دار الكتب - ونظن أن المجلة توقفت بعد إصداره! وهذا العدد به تغييرات كثيرة في الشكل، حيث كان الورق من النوع الجيد، بالإضافة إلى الغلاف الملون والمنمق بصورة جيدة، وهذا الشكل يختلف بصورة كبيرة عن شكل المجلة في أعدادها السابقة.
وهكذا كان دور حافظ نجيب في مجال الصحافة، بصفة عامة، حيث إننا سنتطرق بالشرح والتحليل إلى بعض أنشطته الصحفية، في الموضوعات التالية، لارتباطها ببعض المقالات والقصص المنشورة في مجلتي «العالمين» و«الحاوي»، ودور حافظ نجيب فيها.
حافظ نجيب ... الكاتب الاجتماعي
كانت صفة الكاتب الاجتماعي كثيرا ما تطلق على حافظ نجيب، بسبب ترجمته لمجموعة كبيرة من الكتب الاجتماعية، وهي: «روح الاعتدال»، «غاية الإنسان»، «الناشئة»، «الغرور»، «دعائم الأخلاق»، «مناهج الحياة» ... وهي مجموعة من الكتب تندرج أيضا تحت علم الفلسفة، رغم كونها من علم الاجتماع! وقد صدر الكتاب الأول «روح الاعتدال» عام 1912، عن مطبعة المعارف لصاحبها نجيب متري. وللأسف لم نطلع على هذا الكتاب، لعدم وجود نسخة منه بدار الكتب،
1
ورغم ذلك، علمنا أن مؤلفه هو «شارل وانير»، وهو كتاب تدور موضوعاته حول الاعتدال في العقل والروح والعقل والفكر والقول، وقامت السيدة وسيلة محمد بترجمته!
2
غلاف كتاب «غاية الإنسان».
وفي العام نفسه 1912، صدر الكتاب الثاني «غاية الإنسان» عن مطبعة المعارف أيضا، وهو كتاب وضعه الفيلسوف جان فينوت، وقامت أيضا السيدة وسيلة محمد بترجمته! وهو يدور حول الأفكار الإنسانية السامية، كالسعادة والفضيلة والحرية والواجب والحق ... إلخ هذه الأفكار. فعلى سبيل المثال نجد المبحث الأول بعنوان «أين السعادة»، وفيه يقول المؤلف: «لكل شيء غرض منه أو غاية يرمي إليها، والباعث على الشيء هو سبب وجوده، ونتيجة الوجود هي الغاية التي يرمي إليها. فإذا كتب كاتب ما حداه إلى الكتابة هو الباعث عليها، ويكون الغرض منها هو الغاية التي يقصد إليها. فكذلك الحياة؛ للإنسان غرض منها أو غاية يطمح إليها. وإجماع الأفكار على تخصيص نوع الشيء يشير إلى دنو المجمع عليه من الصواب. فانصراف رغبات الناس جميعا، منذ خلق النوع الإنساني، إلى غاية واحدة، دليل على أن هذه الغاية المفردة، هي الغاية من الحياة، وهي السعادة.»
3
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: من هي السيدة وسيلة محمد، وما علاقتها بحافظ نجيب؟! والإجابة على هذا السؤل، جاءت في مقالة أحمد حسين الطماوي، عندما أشار إلى أن جريدة المحروسة نشرت حديثا صحفيا لحافظ نجيب في 3 / 12 / 1912، اعترف فيه بأنه صاحب ترجمة كتاب «روح الاعتدال» و«غاية الإنسان»، ولم تقم بترجمتهما السيدة وسيلة محمد، كما هو معروف.
4
ونضيف إلى ذلك أدلة أخرى، منها أسلوب حافظ نجيب نفسه، حيث كانت له كلمات أثيرة، ذات معان خاصة في كتاباته وإبداعاته، منها كلمة «المفرد» بمعنى الوحيد، أو «المفردة » بمعنى الوحيدة، وقد جاءت هذه اللفظة مظللة، في نهاية الجزء السابق من مبحث «أين السعادة»!
5
ومن الأدلة أيضا غلاف كتاب «الناشئة» المطبوع عام 1915، وقد جاء فيه أنه ترجمة حافظ نجيب، مترجم «روح الاعتدال» و«غاية الإنسان»! وقد تكرر هذا الأمر على غلاف كتاب «الغرور» لحافظ نجيب أيضا، الصادر عام 1923.
هذا بالإضافة إلى اعتراف صريح من حافظ نجيب، نشره عام 1923، قال فيه: «النفس إذا انصرفت إلى غاية لا تقف دونها إلا مرغمة مكرهة، والرغبة إذا قويت لا تحول دون تحقيقها الحوائل والعقبات. علقت مطالعة كتب الاجتماع والأخلاق، ورغبت في إفادة أبناء بلادي بما انتفعت بالاطلاع عليه، فلم يمنعني الاختفاء والتنكر من تحقيق هذا الغرض، فنشرت «روح الاعتدال» و«غاية الإنسان»، منسوبة ترجمتهما إلى زوجتيى السيدة وسيلة محمد، فإذا لم يكن لهذه السيدة فضل في الترجمة، فإن لها يدا في نشر هذين الكتابين، فهل من خطأ؟»
6
وعلى الرغم من أن كتاب «غاية الإنسان»، كما جاء على غلافه، هو ترجمة! إلا أن كلمة وسيلة محمد في بداية الكتاب - أو بالأحرى كلمة حافظ نجيب - تفيد بأن الكتاب أقرب إلى التعريب أو التأليف منه إلى الترجمة! ومما جاء في هذه الكلمة: «إنني لأكذب إذا نسبت كل ما في كتابي هذا إلى نفسي، أو قصرت ما فيه من الأفكار على ثمرة عقلي. فقد تحديت الوقوف على أفكار من سبقوني إلى الكتابة في هذا البحث، وطالعت شتاتا من صنوف الكتب، فعلق بذهني منها ما أدركته. وغاب عنه ما استعصى علي فهمه. فالفضل في الواقع راجع إلى أولئك الحكماء لا إلي؛ لأنني منهم استمديت وعنهم أخذت، ومن زبد أفكارهم كونت فكري ... فإنني صورت ما علق بفكري، وما انطبع عليه من صور أحوال الحياة، على ما تمثلته تماما وظننت أنه الحقيقة. ولما كان ما يتمثله الفكر ويقرره الإنسان، على أنه الحقيقة، قد لا يكون هو الصواب دائما؛ لهذا أتحاشى الجزم بكون ما كتبته هو الصواب، وإنما أقرر كونه الحقيقة، على قدر ما تصورتها ووصل إليها إدراكي. فليحاسبني الناس على غايتي من الكتابة، لا على دنوها من الصواب أو بعدها عنه، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.»
7
وإذا كان حافظ نجيب قد ترجم - أو عرب أو ألف - كتاب «غاية الإنسان»، وأن كل كلمة فيه منسوبة إليه، إلا أن زوجته وسيلة محمد لها في هذا الكتاب بضعة أسطر فقط، هي أسطر الإهداء، حيث قالت فيها: «إلى ابنتي العزيزة ... الدهر عبر، والحياة سير، والنفس بينهما لا تستقر. فمن تتقى الأيام تأمن عبرها، ومن تعرف الحياة تجمل سيرها. والحوادث جائية ذاهبة، والأعمار فانية ناضبة، فالحال لا تدوم أسعدت أم أشقت، والذكرى لا تفنى قبحت أم حسنت. فاتقي بنيتي العاقبة الأخرى، فإنما الحياة هي الذكرى.»
وهذا الإهداء يعطي لنا معلومات مهمة عن حياة حافظ نجيب الشخصية، حيث إنه يشير إلى أن وسيلة محمد، لها ابنة من رجل آخر غير حافظ نجيب! وأن هذا الإهداء كتب لها! ولم يكن إهداء لابنتها من حافظ نجيب! والدليل على ذلك أن حافظ نجيب ذكر في إهداء كتاب «الغرور» أن ميلاد ابنته الأولى كان في 14 / 12 / 1912. علما بأن حافظ نجيب اعترف في حديثه بجريدة المحروسة في 3 / 12 / 1912، بأنه أصدر كتابين باسم وسيلة محمد، منهما كتاب «غاية الإنسان»! فكيف تكتب وسيلة محمد إهداء لابنتها، قبل أن تولد أول ابنة لحافظ نجيب منها بعشرة أيام؟!
غلاف كتاب «الناشئة» عام 1915.
وبعد ثلاثة أعوام، أصدر حافظ نجيب ترجمة كتابه الثالث «الناشئة»، من تأليف شارل وانير - صاحب كتاب «روح الاعتدال» - في أوائل عام 1915، عن مطبعة المعارف لصاحبها نجيب متري، ناشر جميع كتب حافظ نجيب الاجتماعية. والكتاب الذي نحن بصدده، لا يختلف في موضوعه أو مباحثه، عن بقية الكتب الأخرى، من حيث اهتمامه بالاجتماع والفلسفة. وقد قال حافظ نجيب في كلمة المترجم: «الناشئ لأول عهده بالحياة كالغريب في المدينة الواسعة، يتهيب أهلها، ويجهل دروبها، يبحث ولا يجد، وينظر ولا يرى، ولكن له من دهش المفاجأة وعدم الاعتياد عذرا مقبولا. والمدينة لا تماثل الحياة إلا مماثلة الذرة للكون؛ لأنها ثابتة منظورة ومحصورة، أما الحياة فصروفها جمة ، وأحوالها متبدلة، ومناهجها تؤدي إلى الفضل والهناء، كما تدهور إلى السفه والشقاء، والعقول عاجزة عن حصر ما فيها عجزها عن إدراك ما وراء المنظور. فما العبرة إذن بالذي في الحياة من مختلف الأحوال الظاهرة والخفية، وإنما بالتمييز بين منافع المحسوس ومضاره، وبين ما يؤدي إلى الغاية منها وما يدفع إلى قرار الهاوية. والعجز عن حصر أحوال الحياة لا يمنع عرفان المعلوم منها والملحوظ؛ لأن النور الضئيل خير من الظلام الحالك، ولأن المعرفة القليلة أفضل من الجهل التام.»
8
ومن الجدير بالذكر، أن حافظ نجيب كان سيهدي هذا الكتاب إلى ابنته، ولكنه أهداه إلى محاميه، قائلا: إلى محمود بك أبو النصر المحامي ... سيدي الأستاذ الفاضل ... البذور إذا غرست في التربة الجيدة تنتج وتثمر، وكذلك المعروف إذا أسدي إلى غير ذي نفس خبيثة، يؤثر فيه فيحتفظ بذكره. وليس غريبا أن تمن وأنت رجل الفضل، وإنما أن يذكر مثلي تلك المنة، في زمان عرف كثير من أهله بالجحود ونكران الجميل. لقد تقدمت للدفاع عني حين فقدت الأنصار، فقلت في نفسي: رجل من المحاماة يؤدي واجبا إنسانيا، ولكن حين رأيتك تفحص نفسي، وتحلل معدنها بدراية ومهارة أمام القضاء، عرفتك عالما من علماء الطبائع فأكبرتك. وما لمس من حرارة نفسك ونهضتها لإنقاذ دخيل على الأدب، إكراما للحرفة التي احترف، وللسبيل التي طرق، ذلك أبقاني أحس بتلك الحرارة إلى هذه اللحظة، وشجعني على الالتصاق بالأدب، وإن كنت لا أزال دون رجاله في كثرة البضاعة وجودتها، وفي القيمة الشخصية. وإذا كان حب طفلتي هو الذي نفث في هذا الروح ورغبني في الاعتصام، فإنك بعملك الواجب، وبما أظهرت من العواطف الإنسانية، تحيي تلك الروح وتقويها، وتملأ نفسي الخاملة نشاطا وفتوة، وتسوقني إلى حب الحياة والاجتماع، وإلى خدمة الإنسانية من طريق الأدب. وإذا أنا حرمت ابنتي هذه الهدية واختصصتك بها، فأنا لا أجني عليها ولا أتهم بالتبديد؛ لأنها هي أيضا مدينة لك ضمنا بالمنة، أسيرة ذلك الفضل القديم. وإنها لتبتهج بعرفان الوفاء من خصال أبيها أكثر من ابتهاجها بالإهداء إليها ، بل إن هذا لدرسا عمليا يهذب نفسها ويرقق عواطفها، ويحضها على التكمل بالاقتداء وعلى التطبع بالتحبيذ والنحو. فكن يا سيدي الأستاذ طيب النفس عند القبول، مطمئنا لهذه التقدمة، فالباعث عليها قدر حقك من الفضل، والواجب علينا من الإخلاص والوفاء. نفع الله بك الأدب والفضل، وجعلك مثالا حيا للمروءة وعلو الهمة. أنت رجل والرجال قليلون.»
9
وهذا الإهداء له علاقة بحياة حافظ نجيب الشخصية، حيث إنه في عام 1909، كان مقيما في فندق ناسيونال باسم غالي جرجس، ولكن جندي إبراهيم صاحب جريدة الوطن تعرف على حافظ، فأبلغ عنه البوليس، الذي حاصره في غرف الفندق، ولكن حافظ نجيب استطاع أن يهرب من الفندق، بعد أن هدد قوة البوليس بأسلحة متنوعة، منها قنبلة ومسدس بالإضافة إلى تلغيم إحدى الغرف بالمفرقعات. وفي عام 1913، عرضت هذه القضية على محكمة الجنايات، برئاسة محمد توفيق رفعت وبحضور حافظ نجيب نفسه، وكان ممثل النيابة محمد زكي الإبراشي، وقد تطوع المحامي محمود أبو النصر للدفاع عن حافظ نجيب، حيث حصل حافظ على البراءة!
10
ولعل القارئ لا يرى غرابة، في أن يهدي حافظ نجيب أحد كتبه إلى هذا المحامي، الذي حصل له على البراءة! ولكن الغرابة في أن البراءة التي حصل عليها حافظ في هذه القضية، لم تكن بسبب دفاع المحامي، حيث إن المحكمة لم تر أي إقناع في دفاعه! والسبب الحقيقي في البراءة، كان في دفاع حافظ نجيب عن نفسه! وهذا بالطبع بناء على ما جاء في «اعترافات حافظ نجيب»! ولعل هذا أيضا سبب جديد، يضاف إلى أسباب شكوكنا في هذه الاعترافات! لأن من غير المعقول، أن تترك هيئة المحكمة الحرية المطلقة، لمتهم في إحدى القضايا الجنائية، كي يدافع عن نفسه بصورة كانت أبلغ من مرافعة محاميه، فيحصل على البراءة! وإذا كنا سنقبل هذا الخيال الروائي الغريب من أي متهم، فمن المستحيل أن نقبله من حافظ نجيب، صاحب الخيال والأكاذيب!
ومما قاله حافظ نجيب في اعترافاته عن هذا الأمر: «وكان المحامي الذي تطوع للدفاع عني حينذاك في هذه القضية وغيرها المرحوم محمود بك أبو النصر، فبنى دفاعه على تصرفي أنه كان للإيهام بإطلاق النار مع عدم وجود النية على التنفيذ، في حالة عصيان أمري. ورأيت المحكمة غير مقتنعة بهذا الدفاع؛ لأن القانون يعاقب على التهديد نفسه، لا على النية المستوردة [أظنها المستورة] المجهولة، من الذي وقع عليه التهديد. فالتمست من المحكمة الإذن لي بالدفاع عن نفسي، فأذنت لي بشرط عدم تكرار ما ذكر في دفاع المحامي.»
11
وإذا تركنا كتاب «الناشئة»، إلى الكتب الاجتماعية الأخرى لحافظ نجيب، سنجده عرب ونشر قبل عام 1923 كتابين: الأول «دعائم الأخلاق»، والآخر «مناهج الحياة». والكتاب الأول يعتبر من الكتب المجهولة، ولا نعلم عنه أي شيء، سوى ما أعلنه حافظ نجيب، بأنه عرب كتابا بهذا العنوان!
12
أما كتاب «مناهج الحياة»، فقد نشر ضمن المجلدات السبعة لروايات جونسون، وتحديدا في نهاية المجلدين الثاني والثالث. وللأسف الشديد هذه المجلدات غير موجودة بصورة كاملة في دار الكتب المصرية، والمجلد الوحيد الموجود، غير صالح للاطلاع! وبناء على ذلك، لا نستطيع الحديث عن هذين الكتابين، سوى أنهما من الكتب الاجتماعية، قام حافظ نجيب بترجمتهما أو تعريبهما!
أما في عام 1923، فقد أصدر حافظ نجيب آخر كتبه المعربة، وهو كتاب «الغرور» لماكس نوردو، ونشرته مطبعة المعارف. وهذا الكتاب عنوانه الأصلي «نقد المدنية الحاضرة ونظم الهيئة الاجتماعية»، وتدور أبحاثه حول النظم الاجتماعية والاقتصادية. وفي كلمة المعرب، وضح حافظ هدفه ومنهجه من تعريب هذا الكتاب، قائلا: «ليس هذا الكتاب ترجمة صحيحة لما كتب ماكس نوردو؛ لأنه كاتب ملحد، وما تضمنه كتابه من النظريات والآراء بني على الإلحاد. وفي نشر الكتاب بالصورة التي كتب بها ضرر عظيم، يؤثر في عقول النشء، والذين لم يتمكنوا من التعاليم الدينية، تمكنا يحفظهم من تأثير قوة المؤلف في هدم المعتقدات والأديان السماوية. لم أكن أمينا في النقل عن ماكس نوردو للسبب المتقدم، فاخترت من كتابه ما راقني من النظريات والانتقادات والآراء ونشرتها في هذا الكتاب، وجعلت الأبحاث مرتكزة على مبدأ الإيمان بالإله الخالق. قد لا يرضي هذا النهج في النشر بعض الذين يريدون الأمانة في الترجمة، ولكنني أوثر عدم الأمانة في الترجمة على إفساد عقائد الكثيرين، بما أنشره من آراء الكاتب الملحد وحججه القوية في هدم الأديان والاستخفاف بالمعتقدات. في هذا الكتاب آراء كثيرة وأبحاث نافعة وانتقادات جمة لماكس نوردو، وأضفنا إليها من الآراء والنظريات التي تخالف معتقده، ونسبنا الكتاب كله إلى المؤلف، بسبب كثرة ما اقتبسناه من كتابه من الأبحاث الكثيرة والانتقادات الوجيهة. لم أحجم في كل حياتي عن عمل خوفا من الانتقاد، أو رغبة في إرضاء الرأي العام؛ لهذا نشرت هذا الكتاب متحديا النهج الذي ذكرته، فليسمه من شاء ترجمة أو اقتباسا أو مسخا، فهكذا فعلت لأنشر ما اعتقدت أن في نشره فائدة، ولأمنع ما رأيت في انتشاره أذى وإضرارا، فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.»
13
غلاف كتاب «الغرور» عام 1923.
ومن الملاحظ أن حافظ نجيب أهدى هذا الكتاب إلى ابنته من وسيلة محمد، والتي ولدت في 14 / 12 / 1912، قائلا: «ابنتي العزيزة ... الحال أقوى ما تكون تأثيرا في العقل إذا عرفها بالاختبار، وفي النفس إذا انصدعت وتألمت منها، وقد حرم أبوك حنو الوالدين من طفولته، وساوى الأذلين بين أهله، فعرف حقيقة الشقاء. وبقدر حرمانه من مظاهر العطف والحنان وتوقان نفسه إليهما، دام الشجن يؤثر في شعوره فيحييه وفي عواطفه فيرققها، فقوي تأثيره فيهما وتضاعف ألم النفس. ولما كان الافتقار إلى الحاجة يحدو إلى طلبها نشد تلك العاطفة في قلوب من عرف من الجنسين، النشيط بالصداقة، واللطيف بها وبالحب، فأنفق الحياة بددا، وألفى ما عوض من الإخاء سوءا، ومن الوفاء ختلا، ومن الحب غدرا ونكاية. ولو أن نفسا طيبة وفقت إلى عرفان ما امتلأت به نفس والدك من الطيبة والوداعة، وقلبه من الحنان والشفقة، لذابت في حرارة هذا القلب ولامتزجت بتلك النفس. فمن تصور هذه الحال المشجنة، وتأثيرها في فكره ونفسه، تدركين أيتها العزيزة موقعه حيال الناس، ونظره إلى الحياة وكم كان فيها يتألم. ومن شكايته على ذويه تعرفين نوع حبه إياك وقدر عطفه عليك وسروره بك واغتباطه بتربيتك. فهل يطول هناء نفسه بقربك، أم تحول بينكما الأقدار؟ يا ألله من هول تلك اللحظة، فإن ألمي من توهم حينها يا عزيزتي يمزق أحشائي، فكيف بي إذا حانت؟ ليس حب الذات هو الذي يزعجني عند فراقك، إنما الإشفاق عليك من اليتم والقهر وغلظة أكباد الناس، ومن كل ما عرفت من صنوف الشقاء، فهل أنت واعية مبلغ إشفاقي فتعوضيني منه الترحم علي؟ أم ينسيك الزمن من تحوم حواليك روحه وتحن إليك عظامه عاش أم مات؟»
14
ومما سبق يتضح لنا أن حافظ نجيب، عرب أو ترجم ستة كتب في الاجتماع أو الفلسفة. وإذا كنا لم نتوقف كثيرا عند فحوى هذه الكتب، فهذا راجع إلى أن هذه الكتب تحمل أفكار كتاب وفلاسفة غربيين، ولا جهد لحافظ فيها غير ترجمتها أو تعريبها! حتى كلمات حافظ أو إهداءاته التي تتناسب مع موضوعات هذه الكتب، فهي في الوقت نفسه لا تتناسب مع شخصية حافظ نجيب، وما عرف عنه من الخداع والكذب والتناقض والنصب والاحتيال ... إلخ! فمن غير المعقول أن نصدق أفكاره وآراءه في كلماته وإهداءاته، المنشورة في هذه الكتب؛ لأنها أفكار وآراء تخالف كل ما هو معروف عن حافظ نجيب، إلا إذا كان قد كتبها كنوع من التكفير عما اقترفه من أفعال وجرائم! وهناك احتمال آخر، وهو أن يكون حافظ نجيب مصابا بانفصام في الشخصية!
ومن الجدير بالذكر أن حافظ نجيب، لم يكتف بترجمة وتعريب الكتب الاجتماعية فقط، بل قام بترجمة أو كتابة بعض المقالات الاجتماعية، ثم قام بنشرها في مجلة «العالمين»، في بابي «أبحاث اجتماعية»، و«أبحاث خلقية». ومن هذه المقالات على سبيل المثال: الحياة ونظر الناقد، المرأة العصرية، الزواج، البساطة، الحارس، الهمة، الطاعة، النظم الاجتماعية. هذا بالإضافة إلى نشره جميع أبحاث كتاب «الغرور»، على هيئة مقالات متفرقة في المجلة أيضا.
15
حافظ نجيب ... الشاعر
لحافظ نجيب عدد قليل من القصائد والمقطوعات الشعرية، بعضها نشر في الصحف والمجلات في أوائل القرن العشرين. ومنها على سبيل المثال ما قاله في رثاء الزعيم مصطفى كامل بجريدة الوطن، عندما كان متنكرا في شخصية الراهب. ولكن بكل أسف لم نستطع الاطلاع على هذا الرثاء؛ لأن مجلد الجريدة المشتمل على القصيدتين مفقود بدار الكتب! وقد جاء أحمد حسين الطماوي ببعض الأبيات من قصائد أخرى لحافظ نجيب، نشرت في مجلتي «الأقلام»، و«المجلة المصرية».
1
ويشاء القدر أن يقوم جورج طنوس بذكر أكبر مجموعة من قصائد وأشعار حافظ نجيب في كتابه «نابغة المحتالين»، ما عدا رثاء حافظ في مصطفى كامل. ونحن نظن أن الشعر الموجود في هذا الكتاب، هو كل ما يستطيع المرء الحصول عليه من أشعار حافظ نجيب،
2
حيث إنه لم يقل الشعر بعد نشر هذا الكتاب، أو قاله بصورة نادرة، يصعب على الإنسان الحصول عليه! والسبب في هذا الظن، أن حافظ نجيب توفرت لديه فرصة عظيمة، لنشر قصائده بعد صدور كتاب «نابغة المحتالين»، وهي قيامه بتحرير مجلة «العالمين»، وأيضا إصداره لمجلته «الحاوي»، طوال أعوام 1923-1929، ورغم ذلك لم نجد بيتا شعريا واحدا لحافظ نجيب، في هاتين المجلتين!
3
وإذا عدنا إلى أشعار حافظ في كتاب «نابغة المحتالين»، سنجد أول بيتين له، تم وضعهما أسفل صورته الشخصية المنشورة في الكتاب - والتي تحدثنا عنها فيما سبق - يقول فيهما:
عجبت من البوليس كيف يرومني
وإني كالعنقاء في نظر الرائي
جنون ووهم إن رأوا صورتي التي
أغيرها إن شئت تغيير أزيائي
وفي هذين البيتين، نجد حافظ نجيب يتباهى ويتساءل متعجبا، كيف يطارده البوليس، وهو كالعنقاء التي يظن الناس أنها احترقت فماتت واندثرت، ولكنها بعد فترة تخرج من رمادها، وتبعث حية من جديد، في قوة وفتوة وشباب! لذلك فمن الصعب على البوليس أو غيره أن يرى صورته؛ لأنه يتنكر دائما، ويغير من وجهه وهيئته، في سهولة ويسر كأنه يبدل ثيابه! وهذا وإن دل، فإنما يدل على غرور وغطرسة حافظ، في تحديه للجميع بصعوبة رؤية صورته! وبسبب هذين البيتين، قام جورج طنوس بنشر صورته في الصفحات الأولى من الكتاب، ووضعها أعلى هذين البيتين، وكأنه قابل تحدي حافظ بتحد أكبر منه!
وتحت عنوان «أول عهده بالنظم»، ذكر جورج طنوس، قصيدة لحافظ، كان قد أرسلها له من سجن الحضرة بالإسكندرية، بعد اتهامه بسرقة نياشين ألكسندرا أفيرينو، فقام طنوس بذكر بعض أبياتها تفكهة للقارئ! وفي هذه الأبيات، يقول حافظ:
4
تحطمت الآمال وانصرم الحب
وما عاد يشجيني البعاد ولا القرب
وبات ضميري واهن الحول متعبا
فما عاد يحييه الطبيب ولا الطب
فقولوا لمن بات العتاب حديثه
يقلل من عتبي فلا ينفع العتب
فلست بذي سمع يصيح لمن أتى
يلوم فلا عذل يفيد ولا صخب
كفاني الذي لاقيت من صدق ودهم
ومن شاهد السكران مر له الشرب
ولا يحمل الثعبان من بعد لسعه
رشيد ولا يعلو جوادا به يكبو
غرست جميلي في أرض عقيمة
ومن يزرع الصحرا يليق به العطب
جدير بمثلي أن يرى الكون قائما
عليه وأحرى يا زمان به الندب
فقد كنت أعمى أجهل الدهر طائشا
يخادعني أهل الوشاية والصحب
وهذه الأبيات، بناء على ما ذكره حافظ في اعترافاته، تخص الأميرة فيزنسكي. وفيها يقول إن آماله في الحياة والحب قد انتهت، بانتهاء علاقته بفيزنسكي، وأصبحت مشاعره متضاربة. فلا البعد عنها يشجيه، ولا القرب منها يشجيه! لدرجة أن ضميره مات، فلا ينفع فيه طب ولا دواء مهما حاول الطبيب إحياء هذا الضمير! ويطالب بعد ذلك بالكف عن عتابه، فما نفع العتاب في جسد ميت بلا روح ولا ضمير، وما نفع الصياح أو الصراخ في إنسان فاقد لحاسة السمع! فكفى بهذا الإنسان خداع الغير، فقد لاقى الصدق، وظنه صدقا صافيا، فوجده صدقا حالك السواد! وعلى هذا المنوال يسير حافظ في أبياته، مستشهدا ببعض الأمثلة التراثية، والأمثال الشعبية، والأقوال المأثورة، ليثبت بها أنه الضحية، وأنه المظلوم المخدوع!
وفي قصيدة أخرى، يقول:
5
وما أنا ذو ذعر وما أنا خائف
ولكن حكم الحب في أهله صعب
تذل له كل النفوس وإن علت
وأي محب لا يذلله الحب
وأمسيت لا أشكو البعاد ولا الهوى
ولا أذكر الماضي وتذكاره عذب
ليالي نام الدهر فيها ولم يفق
فبتنا سكارى خمرنا الوصل والقرب
وفي هذه الأبيات، يشكو لوعة الحب واشتياقه للمحبوبة؛ لأنه يعلم علم اليقين، أن حكم الحب على الإنسان حكم نافذ، وهذا الحكم يطبق على الجميع مهما كانت منزلة الإنسان وعلو شأنه! وبالرغم من ذلك فقد أصبح لا يشكو من البعد أو الحب، بل ولا يريد أن يذكر الماضي، رغم حلاوته وطيب ذكرياته! وكفى من هذا الماضي ذكرى مقابلاته مع المحبوبة، حيث كان الدهر يتغافل عنهما، ليستمتعا بنشوة الوصل والقرب، التي تجعلهما سكارى!
وفي قصيدة أخرى - وهي تكملة للقصيدة السابقة - يستكمل حافظ صورة العشيقين، قائلا:
6
ولما أفاق الدهر من بعد نومه
تقطعت الآمال وانصرف الحب
تجافت قلوب لم تكن تعرف الجفا
وفاضت عيون لم يكن دأبها السكب
ودس عزولي كل ما شاء حقده
ومن يرهب العذال يرعبه الثوب
ولكنني دست العذول وحبها
وقطعت عهدا لا يقطعه الغضب
فإن كنت في السجن الرهيب بكيدها
فإن فؤاد مطلق ما به عطب
وإن جاءني طيف اللئيمة زائرا
تفلت على وجه يشوهه الشيب
وما أنا في هذا المقام بخالد
وبعد خروجي يعرف الليث والذئب
وفي هذه الأبيات، يبين حافظ أن الدهر لم يغفل عن العاشقين فترة طويلة، بل استيقظ فهدم آمالهما، وأصبح الحب قسوة في قلب الحبيبة، وتساقطت الدموع بغزارة كأنها فيضان نهر، فأصبح المناخ بين الحبيبين مناسبا لتدخل العذول، الذي دس الحقد والكره! فما كان من حافظ إلا أنه احتفظ بكرامته، فداس بقدمه هذا الحب، ولم يعبأ بهذا العذول، وقطع على نفسه عهدا بأن يتخلص من هذا الحب، الذي كان سببا في سجنه! وتوعد المحبوبة بالانتقام؛ لأنه لن يمكث في السجن طيلة حياته، وعندما يخرج للانتقام سيعلم الجميع من هو الأسد القوي، ومن هو الذئب الغادر!
ومن سجن الحضرة بالإسكندرية أيضا، قال حافظ:
7
إلى الله أشكو أم إلى الناس ما جرى
وقد باعني الهم المبرح واشترى
وأصبحت عبدا لا اسام بدرهم
وأن جاءني المبتاع عاب وعيرا
وأقضي طويل الليل للحظ ناعيا
فيغمض عيني السوط بالرغم لا الكرى
إذا ما مضى جيش الظلام تراجعت
لدى الصبح أحزاني وبت مفكرا
فاطم سما لا يميت وليته
يقصر أيامي فيسترني الثرى
ويسقونني بالكأس صبرا وعلقما
ويا ليته صبر على الضيم صبر
ويخرجني كالعير للحمل حارسي
ويكرونني للنذل بالقرش أشهر
وأنكرني من كان من قبل صاحبي
وعيرني بالذل والفضل أنكرا
وضاع جميل في الرجال غرسته
ولو كان في كلب لبان وأثرا
ولو كان في واد لأينع نبته
ولو كان في قفر لما ظل مقفرا
ولو كان في وحش لأصبح آنسا
وأعلن فضلي للوحوش وأشهرا
ولكنه الإنسان للفضل جاحد
وهيهات للمعروف أن يتذكرا
وهل ينظر الشمس المنيرة ذو عمى
لذلك فضل باب في الكون لا يرى
وقد ساءهم مني اقتدار وهمة
وعزم برى كيد الزمان وما انبرى
ولو قلت شعرا خاله الناس منزلا
وصلى عليه البعض والبعض كبرا
ولولا الهوى أصبحت للناس كوكبا
ولولا الهوى أمسيت في القوم عنترا
وكم عالم قد ضاع في الحب علمه
وكم عاشق في الرمس بات معفرا
ولولا الهوى ما بت في القيد مثقلا
ولا بت في وادي الهموم كما ترى
ولا تعجبوا أن بات لي السجن منزلا
فقد ينزل الإبريز في منجم الثرى
وقد يجهل الإنسان في الرمل قدره
ولكنه لو بان للعين أبهرا
فإن جاءك الساقي بماء ولم تذق
فهل تعرفن الماء إن كان كوثرا
كذلك أخفاني عن القوم جهلهم
وعاقبني القاضي جزاء لما جرى
وفي هذه القصيدة، يصور حافظ حالته النفسية، واشتداد عذابه داخل السجن، لدرجة أن الأمر اختلط عليه: أيشكو أمره لله أم للناس؟! وهذا استفسار تعجبي، يعكس مدى حيرة حافظ. فقد لازمته الهموم، لدرجة أنه أصبح سلعة لها تباع وتشترى! ويا ليتها سلعة ثمينة، فقد أصبح عبدا ثمنه أقل من درهم، بسبب ما به من عيوب! لذلك يقضي الليل بطوله ينعي حظه، حتى يأتيه السجان فيجبره على النوم بالسوط. وفي الصباح يبدأ حافظ يوما جديدا من عذاب الفكر في الهموم والأحزان، فيتمنى الموت في هذا اليوم وفي كل يوم! فقد صبر بما يكفي، لدرجة أن الصبر مل من صبره!
ولم يبق له في الحياة أي صديق، فقد أنكره كل الأصدقاء، ممن استفادوا من فضله، وأصبحوا يعيرونه بذله وسجنه! ولو كان قدم هذا الفضل إلى كلب لكان الكلب حفظ الجميل وأصبح أفضل من الصديق! ولو قدم هذا الفضل في واد، لظهرت نتيجته في نباته اليانع، أو ظهرت خصوبته لو كان واديا مقفرا! ولو قدمه إلى وحش، لاستأنس هذا الوحش، وتحدث بأفضال حافظ نجيب عليه وسط الوحوش! ولكن بكل أسف قدم حافظ هذا المعروف إلى الإنسان الجاحد! الذي يتشبه بالأعمى، الذي لا يرى نور الشمس. وهذا الإنسان الجاحد، ما هو إلا الحاقد الحاسد على حافظ بسبب همته واقتداره ونبوغه!
فعلى سبيل المثال عندما كان حافظ يقول الشعر، كان يظن الناس أن هذا الشعر كلمات مقدسة، فيصلي به البعض، والبعض الآخر يكبر به! فلولا حبه وما جره عليه هذا الحب من مهانة وإذلال في السجن، لكان نجما لامعا من نجوم المجتمع، ولكان في منزلة عنترة بن شداد! ولكن هذا هو حكم الحب الذي يذهب بعلم العالم، وبقيمة الإنسان! وعلى الرغم من ذلك فحافظ نجيب، رغم أنه في السجن، إلا أنه كالذهب المدفون في المناجم، ما أن يظهر للإنسان حتى يبهره ببريقه، مهما كان متسخا بالأتربة والرمال! فعندما يتخلص حافظ من سجنه، سيعلم الجميع مقداره الحقيقي، وكم هو مظلوم بسبب حكم قاض، حكم بالأدلة الظاهرة.
ومن سجن الحضرة أيضا، قال:
8
طال البعاد على السجين المغرم
فتندم الرجل الذي لم يندم
ما نام في ليل على مهد الأسى
إلا وقلبه النوى كالمجذم
تزكو به نار الغرام مكرها
ووقودها قلب المحب المكلم
ويعوده طيف يزور مقنعا
وقناعه ديجور ليل مظلم
في الليل يأتي كالطبيب لموجع
فإذا دنا ضمد الجراح بمرهم
وإذا تلطف بالسلام أراحه
مثل العليل إذا أتوه ببلسم
وإذا صحا عند الصباح ولم يجد
طيف الدجى ذرف المدامع كالدم
كم مرة هزأ الخيال بمن غدا
بعد الدلال قرين لص مجرم
يا صاح قد غدر الزمان ومن هوى
أحرى به سم بكاس مفعم
خير من السجن الطويل وضيقه
فالسم أطيب من شراب العلقم
ولقد سئمت من الحياة وذلها
وغدا الممات أحب من لئم الفم
أني تعبت من الزمان وصرفه
وتحكم الدهر الذي لم يحكم
من عاش حرا بين آل بلاده
صعب عليه الذل بعد تكرم
وأخيرا قال حافظ نجيب:
9
بالله قل لي هل أراني واهما
أم ذي الحقيقة لا منام النوم
ضل الرشاد ولم يعد لي فكر
وغدا مقالي مثل شرح الأيكم
وغدا يراعي لا يطاوع أصبعي
إلا إذا كان المداد من الدم
وغدا غلاف الطرس من كفن الهوى
ونأى على عجل البخار بدرهم
فعسى يذكر من تكبر وانتضى
سيف السكوت لكي يقل تكلمي
ولعله يلقى مكانا في الصدو
فلا يضيق كضيق قيد المجرم
ومن الملاحظ على هذه القصائد، أنها كتبت في فترة واحدة، وهي فترة سجن حافظ نجيب، كما أنها تدور حول فكرة واحدة، تتمثل في براءته من التهم المنسوبة إليه! وهذا الشعر قال عنه أحمد حسين الطماوي: إنه «يعد من شعر الشخصية ... وشعر الشخصية هو الشعر الذي يعبر فيه الشاعر عن أحاسيسه، ويستظهر فيه أعماقه ... ويستمده من حياته، ومن هنا يكون مطبوعا وليس متكلفا، وشعر حافظ نجيب كان ينقل فيه أحاسيسه ويضمنه معالم نفسه، ويعبر فيه عن تجاربه.»
10
وهذا الرأي من الممكن الأخذ به إذا قرأ شعر حافظ منفصلا عن حياته! ولكن إذا امتزج هذا الشعر بحياة حافظ نجيب، سيكون الحكم مختلفا؛ لأن حافظ نجيب في هذه القصائد يكذب على الناس أولا وأخيرا! فهذه القصائد إذا كان طنوس قد اكتشفها، بعد زمن طويل من كتابتها، كان من الممكن اعتبارها تجربة شعورية ذاتية صادقة! ولكن الحقيقة أن هذه القصائد قد أرسلها حافظ من سجنه إلى طنوس كي ينشرها على الناس! وهذا يعني أن حافظ نجيب أراد من نشر هذه القصائد، استجداء عطف الناس عليه، حتى ولو عن طريق اختلاق مشاعر وأحاسيس غير صادقة! والدليل على ذلك، أنه لم يشر إلى تهمته، ولم يوضح الجريمة المنسوبة إليه، وما هي دوافعها! أي إنه لم يتحدث مطلقا عن القضية، وكل شعره اتجه نحو الشكوى والأنين، وقسوة السجن، وعذاب الحب ... إلخ ، من أجل التأثير على القارئ!
ومهما يكن من الأمر، فالذي لا شك فيه أن هذه القصائد كتبها حافظ نجيب، وهي تعتبر من أعماله الإبداعية، التي تعكس فترة من حياته، وتدل على قدرته في صياغة الشعر، سواء كان شعرا صادقا أو شعرا كاذبا! وكنا نتمنى أن نجد له شعرا في مناسبات أخرى، قيل في فترات متباعدة، حتى نحكم على قدرته الشعرية! ولكن بكل أسف فقصائد حافظ نجيب في مجملها، قيلت في السجون، وفي فترة زمنية واحدة، وحول غرض واحد، هو الشكوى!
حافظ نجيب ... الروائي
إذا كنا لم نستطع الحكم على حافظ نجيب كشاعر قدير، بسبب قلة قصائده، ومحدودية أغراضها، ومساحتها الزمنية الضئيلة! فإننا نستطيع أن نحكم بقدرته الروائية، بسبب كثرة رواياته الفنية، المؤلفة والمترجمة، والتي تعكس بحق قدرة فنان روائي من الطراز الأول! وكفى بنا أن نعلم أن الكاتب العالمي نجيب محفوظ، كان في صغره يقرأ بنهم كل ما يكتبه حافظ نجيب، حيث كان من أشهر المؤلفين في هذا الوقت، بعد أن أعلن توبته. ومن أهم ما قرأه نجيب محفوظ من أعمال حافظ نجيب: روايات جونسون وميلتون توب ومغامرات حافظ نجيب.
1
وينقسم إنتاج حافظ نجيب الروائي والقصصي إلى ستة أقسام؛ الأول: رواياته الطويلة المؤلفة. والثاني: رواياته الطويلة المترجمة. والثالث: رواياته المسلسلة. والرابع: قصصه القصيرة المؤلفة. والخامس: قصصه القصيرة المتشابهة مع قصص اعترافاته. والسادس والأخير: قصصه القصيرة المستمدة من حياته، والتي لم تشتمل عليها اعترافاته.
ومن الروايات التي تندرج تحت القسم الأول، رواية بدون عنوان، نشرها جورج طنوس في كتابه «نابغة المحتالين»، تقع في حوالي مائة صفحة ص53-145، كان قد أرسلها له حافظ نجيب وهو في سجن الحضرة بالإسكندرية كي ينشرها. كما يعترف طنوس بأنه ينشرها في كتابه، دون أن يغير فيها حرفا واحدا. والرواية تبدأ أحداثها منذ عام 1895، عندما التحق الشاب عزيز بالمدرسة الحربية، ولكن الحياة لم تضحك له، فانقلب عليها وسخط على الجميع، وقام بأعمال كثيرة مشينة، انتقاما من الحياة والمجتمع.
وهذه القصة، ما هي إلا فترة من قصة حياة حافظ نجيب نفسه، عندما التحق بالمدرسة الحربية، كما جاءت في اعترافاته. ويؤكد هذا القول، طابع كتاب «نابغة المحتالين»، عندما قال في كلمته: «يخيل لي من مطالعة هذه الرواية، أن بطلها «عزيز» هو حافظ نجيب بعينه؛ لأن كثيرا من الوقائع التي حدثت فيها، حدثت لحافظ، وقد سبق له أن قص علي بعضا منها، قبل أن يأتي حادث البرنسس ألكسندرا أفيرينو، ويودع سجن الحضرة بعد ذلك.»
2
أما ثاني الروايات الطويلة المؤلفة، فهي رواية «الحب والحيلة»، وقد نشرتها مطبعة الشعب في أكثر من 160 صفحة، قبل عام 1915 تقريبا. وجاء على غلافها أنها «رواية واقعية مملوءة بالحوادث المدهشة والحيل الغريبة، بطل وقائعها حافظ نجيب»! وهكذا نعلم من البداية أن هذه الرواية، ما هي إلا فترة أخرى من فترات حياة حافظ نجيب! ولهذه الرواية أهمية خاصة، حيث تم تحويلها إلى نص مسرحي بالعنوان نفسه، قامت فرقة أولاد عكاشة بتمثيله على المسرح، وقام حافظ نجيب بتمثيل دوره فيها بنفسه! وهذا النص المسرحي كان مفقودا منذ عام 1915، حيث إنه لم يطبع حتى الآن، ولكنني وجدته مخطوطا، وقمت بنشره في هذا الكتاب، كما سيأتي ذكره. ولهذه الأهمية، يلزم علينا ذكر ملخص رواية «الحب والحيلة»، قبل الحديث عنها كمسرحية.
تبدأ أحداث الرواية في ميناء الإسكندرية عام 1905 تقريبا، حيث تقلع سفينة تحمل حافظ نجيب، وهو شاب في عمر السادسة والعشرين، ومعه صديقه خليل حداد، إلى ميناء مرسيليا. ونعلم من حوار الصديقين، أن حافظا يسافر إلى مرسيليا لسببين؛ أولهما: الهروب من مطاردة البوليس، والآخر: الذهاب إلى فرنسا لمقابلة محبوبته الملكة ناتالي، التي تعرف عليها في مصر وأحبها، أثناء رحلتها السياحية لمشاهدة الآثار الفرعونية، حيث كان حافظ مترجمها ومرشدها السياحي. ويصل حافظ إلى فرنسا، ويذهب إلى قصر الملكة ناتالي متنكرا في شخصية الخادم بنفيه، الذي جاء للعمل لديها بخطاب توصية من إحدى صديقاتها. فتوافق ناتالي على عمل بنفيه لديها، بعد أن تحذره من الخيانة؛ لأنها تعاني من خيانة جميع أعوانها في القصر.
ومن جانب آخر نجد الملك - زوج ناتالي - يعشق كاترين ابنة دي توسكا ، رئيس حراس الملك ووكيل الحزب الملكي وصديق الملك الحميم، وأن هذا العشق ذاع خبره بين الناس. كما نعلم أن كاترين لا تحب الملك، بل هي تمثل عليه الحب، رغبة منها في إرضاء أبيها من جهة، وطمعا في أن تكون الملكة المتوجة من جهة أخرى. ولتكتمل مؤامرة دي توسكا ضد الملك والملكة معا، نجده يقيم علاقة حب سرية مع الملكة ناتالي، استمرت لمدة عامين. وتشاء الظروف أن يعلم بنفيه كل هذه الأمور، فيحاول إبعاد دي توسكا عن حبيبته الملكة ناتالي بكل وسيلة ممكنة. ومن هذه الوسائل، أنه استغل فرصة إقامة حفلة تنكرية في القصر، فقام بنفسه بعمل المكياج التنكري للملكة، عندما علم أنها تريد أن تتنكر في شخصية حنة دوتريش ملكة فرنسا في عهد لويس الثالث عشر. وفي المقابل قام بنفيه بالتنكر في شخصية الكاردينال ريشيليو عشيق الملكة حنة دوتريش وعدوها اللدود؛ لأنها أحبت غيره، والذي كان يحكم فرنسا وأوروبا كلها بالعقل، في عهد لويس الثالث عشر أيضا.
ولم يكتف بنفيه - أو حافظ نجيب - بهذا، بل قام بعدة أعمال أفسدت الحفلة، ومنها قيام إحدى صديقاته بالتنكر في زي شخصية كاترين دي توسكا التنكرية، فوقع أبوها في حيرة من أمره؛ لأنه وجد فتاتين لا يعرف من منهما ابنته. هذا بالإضافة إلى قيام بنفيه بإطفاء النور، وفي الظلام قام بتبديل النوت الموسيقية للفرقة العازفة، التي عزفت لحنا من اختيار بنفيه، الذي استغل الظلام أيضا في سحب يد الملكة من دي توسكا، الذي كان يراقصها. وعندما عاد النور، وجدت الملكة نفسها تراقص الكاردينال ريشيليو أو بنفيه، وسط غيظ دي توسكا، الذي بدأ يشك في الأمر، فقام بنفيه بإطفاء النور للمرة الثانية، وهرب من باب جانبي، فاتبعه دي توسكا، ومن ثم اتبعتهما الملكة ناتالي. وفي مواجهة كلامية بين بنفيه ودي توسكا، في حضور ناتالي، ينتصر بنفيه على غريمه، من خلال مبارزة بالسيف، أدت إلى إحراج دي توسكا أمام الملكة أكثر من مرة، عندما أسقط بنفيه سيف دي توسكا مرات عديدة، حتى انتهت المبارزة بهروب دي توسكا.
وفي مساء أحد الأيام، تسمع الملكة صوت موسيقى جميلة تنبعث من حديقة قصرها، يصاحبها غناء شاب جميل، وفي الصباح وجدت الملكة باقة من الزهور بصحبة ورقة مكتوب عليها القصيدة المغناة في المساء، وضعها الشاب المغني. فحاولت الملكة معرفة شخصيته دون جدوى، حيث تكرر الغناء وباقات الزهور والقصائد المكتوبة عدة مرات. وفي يوم كانت الملكة تركب مركبتها الملكية وتتجول في الغابة، وفجأة أصيب حصانها بحالة هياج، فأسرع في الجري متجها نحو النهر، فاستغاثت الملكة، فظهر فارس على حصانه، وأنقذ الملكة بأن قفز في مركبتها، وقطع سرج الحصان، وأنقذ المركبة من السقوط في النهر. فتشكر الملكة الفارس، ويدور بينهما حوار، فتعلم الملكة أنه المغني الشاب الذي تريد معرفة شخصيته. ومن خلال هذا الحوار أيضا، يعلم القارئ أن هذا الفارس أو المغني، ما هو إلا حافظ نجيب أو بنفيه متنكرا.
ويطول الحوار بين الفارس والملكة، فتفهم الملكة أن هذا الشاب يعلم كثيرا من أسرارها الخطيرة، بل ويعلم من هو المخلص ومن هو الخائن من بين أفراد حاشيتها! ومن أهم هذه الأسرار، أن الملك قد أهدى خاتما ثمينا لزوجته الملكة، التي قامت بإعطائه لعشيقها دي توسكا، الذي باعه - كما باع خطاباتها الغرامية له - إلى الدوق هيس ويمر الألماني ألد أعداءها، كي يجمع أكبر قدر من الأدلة على خيانتها، كي يحاكمها أمام محكمة علنية تحكم عليها بالموت. وأمام هذه الأسرار الخطيرة التي يعلم بأمرها بنفيه أو الفارس، تشك الملكة في أمره، ولكنه يطمئنها، ويوعدها بأنه سيعيد إليها الخاتم والخطابات. ويبدأ بنفيه أو حافظ نجيب في خطة استرجاع الخاتم والخطابات من الدوق هيس ويمر، وذلك في ليلة رأس السنة؛ لأنه يعلم أن الدوق زير نساء، تعود على اصطياد الجميلات في هذه الليلة. وفي إحدى الحانات يرى الدوق امرأة جميلة، فيتعرف عليها. وبعد لحظات يحضر زوج المرأة، الذي لا يبالي بغزل الدوق لزوجته، مما جعل الدوق يألف وجود هذا الزوج. وبعد ساعات من السكر والعربدة، يذهب الجميع إلى منزل الزوجين.
وفي المنزل تنكشف الحقيقة ، حيث إن الزوج ما هو إلا حافظ نجيب أو بنفيه، وإن المرأة ما هي إلا ماري إحدى صديقاته، فيقومان بتخدير الدوق ووضعه في سلة كبيرة، وسجنه في قبو قصر قديم. ومع الضغط النفسي الشديد على السجين، يقر بمكان الخاتم والخطابات، حيث خبأ هذه الأشياء في مكان سري بسرير نومه. وينجح حافظ في الحصول على الخاتم والخطابات، وقبل أن يهرب يقبض عليه هافار رئيس البوليس، فيقوم بنفيه برش عين هافار بفلفل أسود، كان في جيبه، فيصرخ رئيس البوليس، ويحضر الخدم فيستنجد بهم بنفيه، موهما إياهم بأن هافار هو اللص، وبهذه الحيلة يهرب بنفيه. وفي محطة القطار تتكرر محاولة هروب حافظ وماري من هافار، الذي كان ينتظرهما للقبض عليهما، ولكنهما يهربان بعد أن أوهما قوة البوليس المنتظرة على رصيف المحطة أن هافار هو اللص، بعد أن تبادل معه حافظ الملابس.
وفي المشهد الأخير، نجد حوارا يدور بين دي توسكا وبين الملكة ناتالي، يشاركهما فيه بنفيه أو الشاب المغني أو الفارس أو حافظ نجيب، حيث يكشف أمام الملكة خيانة دي توسكا، بعد أن يعطيها الدليل على أقواله، وهو الخاتم والخطابات الغرامية المتبادلة بينها وبين دي توسكا. فتقوم مبارزة بين بنفيه وبين دي توسكا، كان الفوز فيها من نصب بنفيه، حيث قام دي توسكا بالهرب. وهنا يكشف بنفيه شخصيته الحقيقية للملكة، بعد أن يزيل وجهه التنكري، فتعلم الملكة أن بنفيه هو الفارس الذي أنقذها من الموت وهو المغني وهو أخيرا حافظ نجيب مرشدها السياحي في مصر، فتستعيد معه عبارات الحب والهيام، وتنتهي القصة.
أما الرواية الثالثة من روايات حافظ نجيب المؤلفة الطويلة. فهي قصة تقع في 78 صفحة، كتبها عام 1923، ونشرها في العدد رقم 28 من مجلة «العالمين»، بتاريخ 22 / 9 / 1924.
3
وهي قصة مصرية في موضوعها، حيث تناقش نفسية المرأة، وتأثير الحب عليها وعلى قلبها. وتعتبر من القصص المؤلفة تأليفا صرفا، حيث إن الروايتين السابقتين، من الروايات المتعلقة بحياة حافظ نجيب الشخصية.
أما رواية «ثورة العواطف»، فهي الرواية الرابعة من الروايات الطويلة المؤلفة، وتقع في ثلاثين صفحة، نشرها حافظ نجيب في مجلة «الحاوي» عدد 37 بتاريخ 2 / 5 / 1926. وهذه الرواية، تتشابه مع الرواية السابقة في تأليفها بعيدا عن حياة حافظ نجيب. وفكرتها تدور حول الصراع النفسي لفتاة صغيرة السن، أمام زواجها من شخصين أحدها رجل يضاعفها في العمر، والآخر شاب صغير مناسب لها في العمر! فتختار الفتاة الشاب، الذي يقسو عليها ويجعلها تندم في اختيارها. وفي كلمة ختامية لهذه الرواية، قال حافظ نجيب: «لقد كنت في زمن الشباب قويا أصرع خصمي في لحظة، فأصبحت بفضل الإهمال يصرعني الفأر إذا وثب علي، وتزهقني الذبابة إذا انحطت على كتفي. وكنت سابحا أقطع أميالا في البحر، فأصبحت يصيبني الدوار عند رؤية ماء النهر الوديع الساكن. وكنت عداء وثابا، فصرت إذا تحرك الترام من مكانه لا أقوى على الحركة للحاق به، أو للوثب على سلمه. وقيل عني إنني كاتب أرضي بعض قرائي، فلما انقطعت زمنا قصيرا لم أعد أحسن وضع القلم بين أصابعي، وأسأل ابنتي عن تهجئة الكلمات خشية الخطأ. كنت مصورا هاويا، وكنت موسيقيا أحسن التوقيع على آلتين، وكنت كثير النكات، فزالت كل هذه المعلومات بالترك. وقد كنت في زيارة في منزل صديق لنا - لبيب أفندي سعد المحامي - فأعجبت بمنظر بيانو جديد اشتراه، فدعاني للتوقيع عليه، فخشيت أن أحطم الآلة إذا امتدت إليها أصابعي فامتنعت. فالإجادة لا تتم إلا بانصراف الرغبة إلى عمل معين وبالمثابرة عليه؛ لهذا رأيت أن أجعل عنايتي موجهة خاصة لنشر الروايات المترجمة أو غيرها، وسيجد القراء من اليوم في «الحاوي» رواية تامة في كل عدد بالحجم الذي نشرت به رواية ثورة العواطف.»
4
وبالإضافة إلى الروايات المؤلفة السابقة، فهناك مجموعة أخرى من روايات حافظ نجيب، ولكنها مفقودة، منها «عواطف المرأة»، و«غرام الملك»، و«توت عنخ آمون»، و«شقاء العشاق». وقد علمنا بهذه الروايات، من إعلان نشره ناشر أعمال حافظ نجيب الروائية - وهو مصطفى محمد صاحب المكتبة التجارية الكبرى - في نهاية رواية «عضو البرلمان». كما توجد رواية أخرى بعنوان «كنوز السلطان عبد الحميد»، صدرت عام 1937.
5
إعلان قصص وروايات حافظ نجيب المنشور في آخر رواية «عضو البرلمان».
وإذا نظرنا إلى روايات القسم الثاني، وهي الروايات الطويلة المترجمة، سنجد حافظ نجيب ترجم حوالي أربع روايات، تقع كل واحدة منها في 80 صفحة، وهي: «غرام العذراء»، «الفتاة العصرية»، «قلب المرأة»، «عضو البرلمان» أو «النائب الجديد». وللأسف الشديد لم نستطع الاطلاع إلا على رواية «عضو البرلمان» أو «النائب الجديد» فقط، التي نشرتها المطبعة التجارية الكبرى.
غلاف رواية «عضو البرلمان».
ويقول حافظ نجيب في إهداء هذه الرواية: «يتمنى الوصول إلى منصب الوزارة كثيرون، ينشدونها بكل الوسائل حتى بالتضحية؛ لهذا يشك الناس في الجميع؛ لأنهم لا يميزون بينهم، فلا يعرفون من بلغ إليها عن جدارة، ومن نالها بالشطارة. للظهور أسباب كثيرة، القصور الفخمة، والجياد الموسومة، والسيارات الغالية، والثياب الأنيقة، والرياش الثمينة، والجواهر الكريمة، ثم الرتب والألقاب: الأولى تشترى كلها بالمال، أما الثانية فإنها تنال بالجدارة أو بالاحتيال. عضو البرلمان ينتخبه الناس من أصلح الناس، إذا تنزهت النفوس عن الأغراض والغايات، ورمت إلى اختيار الأصلح، لفائدة البلاد والجماعات. ولكنا نرى في كل زمان ومكان كثيرين، من ذوي الجهل بين أهل الفضل، ومن الفحول في زمرة أهل العقول. كذلك نرى في البرلمان خليطا من العقلاء النافعين، والأغنياء «المطينين»، يطلبون المقاعد كأنها على الموائد، يجمعون الأصوات بمختلف الوسائل والعمليات. فالذي يحصل على مقعد يستحقه، يغتصبه من الذي حقه أن يكون له. ومن يغتصب حق الغير بالقوة أو بالحيلة، ليحل محله في البرلمان، أولى به أن يرسل إلى الميمارستان. وليس أفضل الناس الذي يختاره الناس للبرلمان، إنما من يعرف قدر نفسه، فيترك ذلك المجلس لمن هو أصلح منه. فإلى هذا الشريف إذا وجد أهدي روايتي.»
6
ويلاحظ على هذا الإهداء، أن حافظ نجيب يتحدث فيه حديث الخبير بالأمور، وكأنه كان نائبا في يوم من الأيام، أو يتمنى أن يكون نائبا! فمن بين السطور يشعر القارئ بأن حافظ نجيب، يعطي لنفسه قدرا كبيرا، وهذا القدر لا يعلمه الناس؛ لذلك استغل حافظ هذه الرواية، كي يبث ما في نفسه من مشاعر وآمال! ومن الغريب أن هذا الأمل - بأن يكون حافظ نجيب نائبا في يوم من الأيام - من الآمال المستحيلة؛ لأن حافظ نجيب محروم قانونا حتى من إعطاء صوته في الانتخابات، فما بالنا بأمل الترشيح كعضو في البرلمان! ومما يؤكد هذا الرأي، كلمة المعرب المنشورة في الرواية، وفيها يقول حافظ نجيب: «الحمد لله الذي حرم علي أن أكون ناخبا أو منتخبا، وإلا لكنت أحد اثنين؛ ذا عقل يدفن في مقعد غيري، أو ذا مقعد دفن فيه عقل غيري، فأكون في الحالة الأولى جيفة، وفي الثانية قبرا، وأنا لا أرضى الحالين ... لقد حرمني القانون من حق الانتخاب، فأراحني من التألم لحال هؤلاء المنكوبين في عقولهم، المأبورين في مبادئهم. أراحني أيضا من البحث عمن يصلح للنيابة. وما داموا لا يجدون بينهم نائبا، بسبب الأثرة والأنانية وحب الذات والظهور، فمن حق كل عاقل أن يسأل الله أن يمن عليهم بنائبة بدلا من نائب.»
7
ورواية «عضو البرلمان» أو «النائب الجديد»، تدور أحداثها حول الشاب أدريان باريزيل، الذي نجح في انتخابات البرلمان الفرنسي، عن إحدى القرى الريفية. وعندما تم النجاح قرر السفر إلى باريس، ليباشر عمله في البرلمان، فودعته خطيبته نيزيت على محطة القطار. وفي المحطة وقبل ركوب النائب القطار، نجد ثلاثة أشقياء يدبرون خطة محكمة لخطف هذا النائب. وبدأت الخطة بأن أحدهم - وهو بابيار - ركب في مقصورة النائب، وقدم نفسه له باعتباره أحد الصحفيين. فنشأ التعارف بينهما، ووصل الأمر إلى أن هذا الشقي استطاع أن يقنع النائب بأن يسكن معه في منزله الكبير، الذي يليق بنائب في البرلمان، فوافق أدريان على ذلك.
وفي هذا المنزل، يتم خطف النائب وسجنه في قبوه، وعندما يسأل أدريان عن سبب هذا الاختطاف، يجيب عليه بيلوت زعيم الأشقياء، بأن الشبه التام بينهما جعل بيلوت يفكر في انتحال صفة أدريان في البرلمان، حتى يتحصن بهذا المنصب، ويتزوج من سيدة غنية، كي يستولي على ثروتها. وبالفعل تنجح خطة الأشقياء، وينتحل بيلوت اسم وصفة أدريان، ويذهب إلى البرلمان ويخطب فيه، ويثبت للجميع أنه النائب أدريان. وبمرور الأيام تقلق نيزيت على خطيبها، الذي أرسل لها خطابات غرامية، دون أن يتحدث عن أعماله السياسية في البرلمان، كما هي عادته معها في السابق قبل أن ينجح في الانتخابات.
وبسبب هذا القلق تسافر الخطيبة إلى باريز لمقابلته، وتفاجأ بوجود بيلوت شبيه خطيبها، وتكشف أمره من أول نظرة، ولكن الشقي أقنعها بأنه فعل ذلك من أجل خطيبها، حيث إنه هرب إلى أستراليا مع امرأة متزوجة، وحتى لا ينكشف أمره اتفق مع صديقه بيلوت لانتحال اسمه وعمله، حتى لا يعلم بأمر هروبه زوج خليلته. وتصدم الخطيبة بهذه القصة، رغم شكها فيها، ولكن بيلوت قدم لها أوراقا مزورة تثبت كلامه. وحاول الشقي الاعتداء على الخطيبة وهي في هذه الحالة، ولكنها هربت منه بعد أن صرخت صرخة عالية، سمعها أدريان وهو في القبو، فعرف صوت خطيبته. وفي المساء وعن طريق الحيلة استطاع أدريان أن يهرب من المنزل عن طريق نافذة الحمام، بعد أن أقنع الأشقياء بأنه استسلم لهم ولأوامرهم. وبعد هروبه بدقائق، جمع الأشقياء كل متعلقاتهم من المنزل وهربوا منه. وفي الصباح ذهب أدريان إلى خطيبته وشرح لها المؤامرة بكاملها، وفعل الأمر نفسه في قسم الشرطة، وأحدث هذا الأمر ضجة صحفية كبيرة، وانتهت القصة بعودة أدريان إلى البرلمان.
وإذا نظرنا إلى روايات القسم الثالث، والتي تتعلق بالروايات المسلسلة الطويلة، سنجد حافظ نجيب ترجم بين عامي 1921 و1922 «روايات جونسون» الفرنسية، وهي سلسلة روايات بوليسية غرامية فكاهية، تتضمن بعض النصائح والمواعظ، بجانب مجموعة من الحيل والمغامرات. وبلغت روايات جونسون اثنتين وعشرين رواية مسلسلة، هي: «خطف بارجة حربية»، «قيصر روسيا»، «قاضي التحقيق»، «أصبع الشيطان»، «موت بيكار»، «عفريت بيكار»، «اختفاء بنوا»، «زواج جونسون»، «قاتل اللادي بلتهام»، «وفاء هيلين»، «حذاء الميت»، «القطار المفقود»، «غرام الأمير»، «باقة الورد»، «الفارس المقنع»، «التابوت الفارغ»، «هيلين فوق العرش»، «والدة بنوا»، «سارق الذهب»، «كنوز الذهب»، «مداعبة جونسون»، «خاتمة جونسون». وقد نشرت هذه الروايات في سبعة مجلدات بالقاهرة.
8
وفي آخر المجلد الثاني والثالث كتاب «مناهج الحياة»، وجزء من رواية «موت حافظ نجيب» بقلم الآنسة زينب فوزي.
9
وفي عام 1923، ترجم حافظ نجيب رواية «الغرفة الصفراء»، وهي رواية واقعية ذات وقائع غريبة وحوادث غامضة، ومواقف غرامية مؤثرة، اعتمد في ترجمتها على الأدلة العقلية والمنطقية. وقد بدأها بكلمتين، قال في الأولى: «العقل كالمصباح يهدي إلى الغاية، والمبدأ قوة دافعة في سبيل الحياة، فالإنسان الذي له عقل ناضج ومبدأ قويم له غاية في الحياة وله قوة تبلغ به إلى هذه الغاية.» وفي الأخرى قال: «يعتمد الإنسان في الليل على نور المصباح ليتمكن من الإبصار، كذلك العاقل يعتمد في الأبحاث الغامضة على العقل والمنطق والاستدلال.»
وقد نشر حافظ هذه الرواية المسلسلة، في مجلة «العالمين» ابتداء من 10 / 10 / 1923 إلى 4 / 2 / 1924. ثم ضم إليها رواية مسلسلة أخرى بعنوان «سر الجريمة»، قال عنها إنها خاتمة رواية الغرفة الصفراء! ولكن هذه الخاتمة، تعتبر رواية مستقلة بذاتها، حيث تم نشرها في مجلة «العالمين» أيضا، ابتداء من 11 / 2 / 1924 حتى 5 / 4 / 1924.
وتعتبر رواية «الشبح المخيف» الرواية المسلسلة الرابعة لحافظ نجيب، حيث ترجمها ونشرها في مجلته «الحاوي» ابتداء من 14 / 7 / 1925 وحتى 5 / 1 / 1926، وهي من الروايات البوليسية. ثم بدأ في ترجمة ونشر رواية «رفائيل» للكاتب لامرتين، حيث نشر الحلقة الأولى في مجلة «الحاوي» عدد رقم 36 بتاريخ 7 / 3 / 1926، ثم توقفت المجلة؛ لأن العدد رقم 37 صدر بعد شهرين في 2 / 5 / 1926، وكان خاليا من أية حلقة لهذه الرواية!
وبالإضافة إلى ما سبق، فهناك ثماني روايات مسلسلة، ترجمها ونشرها حافظ نجيب تحت اسم «ملتون توب»، لم نطلع عليها، ولم نجد منها أية رواية، ولكن حافظ نجيب أشار إليها في أكثر من موضع.
10
وهي تتشابه إلى حد كبير بروايات جونسون.
أما القسم الرابع من روايات حافظ نجيب، فهو الخاص بالقصص القصيرة المؤلفة، وهي قصص قد نشرها حافظ في باب «قصة الأسبوع» بمجلتي «العالمين»، و«الحاوي»، ابتداء من 10 / 10 / 1923 إلى 11 / 11 / 1925. وهذه القصص، هي: «طاهر وأمينة»، «حسن وجميلة»، «في خلوة»، «أسرار القصور»، «الزوجة الخائنة»، «الغرام الصامت»، «سنية»، «جنى على نفسه»، «على شاطئ البحر»، «الجمال». وهي قصص اجتماعية، تدور أغلب حوادثها في البيئة المصرية، وتناقش المشاكل الاجتماعية بأسلوب فلسفي، وبالأخص المشاكل التي تتعلق بالمرأة ونفسيتها.
وإذا تطرقنا إلى القسم الخامس، سنجده يتعلق بالقصص القصيرة، التي جاءت فيما بعد في كتاب «اعترافات حافظ نجيب». أي إنها قصص من حياة حافظ نجيب، تم تغيير بعض أسماء شخصياتها، والعبث ببعض أحداثها، ومن ثم أعيد نشرها في الاعترافات. وبالرغم من ذلك، فإن الخطوط الرئيسية ثابتة في القصة القصيرة، كما هي ثابتة في الاعترافات. وهذه القصص نشرها حافظ في باب «قصة الأسبوع» بمجلتي «العالمين» و«الحاوي»، ابتداء من 7 / 1 / 1924 وحتى 22 / 9 / 1925.
وأول قصة كانت بعنوان «صحن الشمام»، وهي تحكي عن حادثة تمت بين حافظ نجيب، عندما كان متنكرا في شخصية غالي جرجس، وبين الشيخ عبد العزيز جاويش، عندما قابله حافظ في فندق الناسيونال بحضور الزعيم محمد فريد.
11
والقصة الثانية، كانت بعنوان «الراهب فيلوثاؤس»، وهي تحكي عن قصة حافظ نجيب، عندما تنكر في شخصية الراهب غبريال إبراهيم أو غالي جرجس أو فيلوثاؤس، كما مر بنا.
12
والقصة الثالثة كانت بعنوان «غرام أنطوان دوريه»، وهي تحكي عن حافظ نجيب، عندما تنكر في شخصية أنطوان دوريه وعاش قصة حب مع الفتاة أليس، ولكن البوليس يقبض عليه، وفي المحكمة تحضر أليس وتطلب من حافظ أن يهرب ليقابلها غدا، فيعدها بذلك أمام القاضي. وفي الصباح فتح السجان زنزانة حافظ نجيب فلم يجده؛ حيث هرب لمقابلة أليس!
13
وكانت قصة «خادم الرئيس»، هي القصة الرابعة، وتدور أحداثها حول حافظ نجيب عندما تنكر في شخصية الخادم حسن، وعمل في منزل رئيس النيابة، نكاية فيه.
14
أما القصة الخامسة فكانت بعنوان «زهرة هانم»، وهي تحكي عن حافظ نجيب عندما كان في العشرين من عمره، فتعرف على زهرة هانم، التي أحبته لدرجة الجنون، ولكنه تركها عندما شعر بأنها تريد امتلاكه؛ لذلك قامت زهرة بإرسال من يقتله، ولكن القاتل فشل في مهمته، وأخيرا تقوم باختطافه وحبسه في قبو قصرها، ولكنه في النهاية يهرب منها.
15
والقصة السادسة، كانت بعنوان «الخواجه غالي»، وهي تحكي عن علاقة حافظ نجيب بالسائحة إيزابيل، التي تعرف عليها في فندق ميناهاوس، فصادقها لمدة شهرين ولازمها في سياحتها؛ حيث شاهدت الآثار الفرعونية، وانتهت القصة بالقبض عليه في الفندق.
16
أما القصة السابعة والأخيرة، فكانت بعنوان «علقة في الحمام»، وهي تدور حول حافظ نجيب، عندما كان متنكرا في شخصية الحاج فرغلي، بائع الحمص والفشار وحلوى الأطفال، حيث طارده البوليس، فدخل إلى حمام النساء وهرب من بابه الخلفي.
17
ونأتي إلى القسم السادس والأخير، من روايات حافظ نجيب، وهو القسم الخاص بقصصه القصيرة، التي تحكي فترات من حياته، دون نشرها في كتاب الاعترافات. وهذه القصص نشرت في باب «قصة الأسبوع» بمجلتي «العالمين» و«الحاوي» ابتداء من 31 / 10 / 1923 إلى 29 / 9 / 1925. وأول قصة كانت بعنوان «فتحي وبديعة»، وهي قصة شاهدها حافظ نجيب، وشارك في أحداثها، حيث تدور حول الراقصة بديعة التي تخدع زبائنها من شبان العائلات الكريمة، حيث وقع بين أنيابها الشاب فتحي، فأحبها وأجزل لها العطاء. ولكن الشقي سيد الذي يحب بديعة، قام برش مادة كاوية على وجهها انتقاما منها، ولكن فتحي تلقى هذه المادة على عينيه فداء لبديعة، فيصاب بالعمى.
18
أما القصة الثانية، فكانت بعنوان «لحد الفضيلة»، وهي تدور حول حافظ نجيب عندما كان مدرسا؛ حيث تعلقت به وأحبته تلميذته إحسان. وبمرور الوقت تعلم إحسان أن أستاذها حافظ زير نساء، فتتفق مع خادمه على الدخول إلى منزله أثناء غيابه. وتذهب إحسان برفقة والدتها إلى منزل حافظ، فيكتشفان صورا وخطابات من نساء كثيرات، فتصمم إحسان على إعطاء حافظ درسا قاسيا في الحب. وهذا الدرس يتمثل في محاولتها إيقاعه في حبها لدرجة الجنون، وبالفعل تنجح إحسان في ذلك، ويسير حافظ نجيب في الطريق المستقيم، بعد زواجه من إحسان.
19
وكانت قصة «عمر بك» القصة الثالثة، وهي تحكي عن حافظ نجيب، عندما نزل في فندق أوتيل آيات بالإسكندرية باسم عمر بك. وكانت تسكن في الغرفة المجاورة الفتاة إقبال التركية. وفي يوم ما ذهب حافظ إلى مقابر الإسكندرية، وجلس عند مقبرة والدته يبكيها، فتقابل مع إقبال التي جاءت تبكي والدها، فنشأ بينهما التعارف، الذي تطور بمرور الأيام إلى حب جارف. وعلم حافظ من إقبال أنها جاءت إلى مصر للاستشفاء في حلوان من علة الصدر، ففقدت والدها في الإسكندرية، ومن ثم أوقفت العلاج. وأمام ذلك صمم عمر بك - أو حافظ نجيب - الذهاب معها إلى حلوان لاستكمال علاجها. وفي حلوان اشتد المرض على إقبال، فلازمت الفراش مدة طويلة، وكان عمر بك بجوارها طوال هذه المدة، حتى قبض عليه البوليس بعد أن كشف شخصيته، وأودعه السجن. وفي هذه الفترة وصلت إقبال في مرضها إلى حالة متأخرة، حتى أصبحت بين الحياة والموت. وعندما علم حافظ بحالتها هذه هرب من السجن عن طريق التنكر، ومكث معها لحظاتها الأخيرة قبل أن تموت. وكان هذا هو السر الذي دفع حافظ نجيب إلى الهروب من السجن لأول مرة!
20
أما القصة الرابعة، فكانت بعنوان «الفريسة»، وهي تحكي عن إحدى مغامرات حافظ نجيب النسائية، عندما تعرف على الفتاة جان، وهي من أم فرنسية وأب سوري توفي في القاهرة.
21
والقصة الخامسة والأخيرة، كانت بعنوان «الزالقة»، وهي تحكي عن حافظ نجيب، عندما تعرف في يوم ما بفتاة طلبت منه مساعدتها للالتحاق بإحدى الفرق المسرحية، ولكنه خشي عليها من دخول هذا العالم الغريب، ونصحها بالابتعاد عنه. وبعد فترة من الزمن قابل الفتاة مرة أخرى، وذكرته بنفسها، بعد أن سقطت سقوطا شديدا في الرذيلة. وكان سبب السقوط أحد الإنجليز من مستعمري مصر، حيث سلبها عفافها انتقاما من والدها، الذي كان ينافسه في بعض الأعمال.
22
حافظ نجيب ... المسرحي
إذا كان حافظ نجيب، عرف عنه نظمه للشعر، وتأليفه للروايات وترجمتها، وتعريبه لبعض الكتب الاجتماعية أو الفلسفية، فإن تفاصيل نشاطه المسرحي مجهولة عن الجميع في وقتنا الحاضر، ولم يكتب عن هذا الجانب المسرحي إلا من خلال إشارتين لشخصي الضعيف، كتبتهما قبل عرض مسلسل «فارس بلا جواد» بعدة أشهر! أي قبل أن تحدث الضجة التي صاحبت عرض المسلسل.
ومن الجدير بالذكر أن الإشارة الأولى، تم نشرها قبل عرض المسلسل بشهرين، في مقدمتي لكتاب «المسرح المصري»، الموسم المسرحي 1921، الذي أصدره المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية عام 2002. أما الإشارة الأخرى، فتم نشرها بعد ظهور المسلسل بشهرين أيضا، في كتابي الأخير «مسيرة المسرح في مصر: 1900-1935»، الجزء الأول : فرق المسرح الغنائي . الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2003. وفي هاتين الإشارتين، تحدثت بكلمات موجزة، عن نشاط حافظ نجيب المسرحي، من خلال عمله كممثل في فرقة أولاد عكاشة عام 1915، ثم تكوينه لفرقة مسرحية خاصة به، كانت تحمل اسمه منذ عام 1919.
وإذا أردنا أن نتحدث بالتفصيل عن نشاط حافظ نجيب كمسرحي، سنجد أن أول كتاباته الأدبية، كانت مسرحية مترجمة، هي «نكبات الهوى». وهذه المسرحية كانت السبب في تعارف جورج طنوس على حافظ نجيب. فطنوس يقول عن هذا التعارف إنه قرأ إعلانا عن عزم إحدى الجمعيات التمثيلية، عرض رواية «نكبات الهوى» بمسرح شارع عبد العزيز، بقلم حافظ نجيب، المدرس بمدرسة الاتحاد الإسرائيلي. فذهب جورج إلى المسرح، وكان الأديب محمد إمام العبد من المدعوين، حيث استنجد به رئيس الجمعية محمد غندور؛
1
لأن حافظ نجيب رفع عليه دعوة قضائية، فحكمت المحكمة لحافظ بالاستيلاء على مبلغ معين من رئيس الجمعية، بالإضافة إلى نصف إيراد المسرح!
فقرر إمام العبد الثأر من حافظ، كي ينتقم منه لصالح رئيس الجمعية. وبعد انتهاء عرض مسرحية «نكبات الهوى»، وقف إمام العبد وانتقد المسرحية، وأظهر عيوبها وغالى في نقده، فرد عليه حافظ نجيب واتهمه بجهله باللغة الفرنسية، حيث إن الرواية مأخوذة من إحدى الروايات الفرنسية الشهيرة، والتي تمثلها في هذا الوقت الممثلة العالمية سارة برنار. فتجمع بعض الأصدقاء لتهدئة الموقف بينهما، وبالفعل نجحوا في إصلاح الأمور، بعد جلسة مطولة، تمت في مقهى بار عايدة أمام التياترو، وكان معهم جورج طنوس، الذي تعرف على حافظ نجيب في هذا اليوم، ودامت صداقتهما سنوات طويلة.
2
وهذه القصة تمدنا ببعض المعلومات المهمة، عن أول مسرحية كتبها حافظ نجيب، ومنها أن المسرحية مثلتها إحدى الجمعيات التمثيلية، وكان العرض في مسرح إسكندر فرح بشارع عبد العزيز، وأن المسرحية مترجمة أو معربة عن رواية فرنسية. وهذه المعلومات تعتبر أفضل مما ذكره حافظ نجيب في اعترافاته، حيث قال: «كتبت رواية تمثيلية ومثلتها جمعية بتياترو فرح بشارع عبد العزيز فربحت منها.»
3
ويضيف يوسف أسعد داغر معلومات أخرى، حيث أعلمنا بأن اسم الجمعية التمثيلية هي «جمعية الاتحاد الشرقي»،
4
وأن مسرحية «نكبات الهوى» تم تمثيلها يوم 6 / 1 / 1905.
5
وبسبب كتاب «نابغة المحتالين»، وما كتب عن حافظ نجيب في الصحف، وما اشتهر عنه من قصص النصب والاحتيال، والسجن والهروب ... إلخ، ذاعت شهرة حافظ نجيب، واستغلت فرقة أولاد عكاشة
6
هذه الشهرة، في ابتكار أسلوب جديد، لجذب الجمهور. وتمثل هذا الأسلوب في الاتفاق مع حافظ نجيب، بأن يقوم بإلقاء محاضرة قبل بداية التمثيل. وعن هذا الأمر قالت جريدة «الأفكار» في 3 / 2 / 1915، تحت عنوان «حافظ نجيب يلقي محاضرة في التربية بدار التمثيل العربي»: «لم يبق في مصر عالم أو جاهل، قارئ أو أمي، صغيرا أو كبيرا، رجل أو امرأة، إلا وقد سمع باسم «حافظ نجيب»، وملأت أذنيه نوادره إن صادقة وإن كاذبة. وود لو أن رأى ذلك الرجل، الذي تضاربت فيه الآراء واختلفت العقول، وهو أثناء ذلك كله، إما قابع في داره مشتغل بالتأليف والتعريف، وإما بين جدران السجون، يقضي ما حكم عليه به القضاء. ولقد شاء الله أن يحل ذلك اللغز، ويظهر ذلك المستخفي، ليعرف الناس حقيقته ناصعة، بعد أن شوهها خيال المتحرين. ففي الساعة التاسعة من مساء يوم السبت 6 فبراير، يمثل جوق عبد الله عكاشة رواية «بائعة الخبز» بدار التمثيل العربي، ويلقي حافظ نجيب محاضرة في التربية. وهناك يعرف الناس من هو حافظ نجيب. وتطلب تذاكر تلك الليلة من مكتبة المعارف بشارع الفجالة، وإدارة جريدة الشعب، وإدارة هذه الجريدة، وأجزاخانة المنسي بالسيدة زينب، ومن دار التمثيل العربى. ولا نظن أنا بحاجة إلى حث الجمهور على شهود تلك الليلة الزاهرة.»
لم تكتف فرقة أولاد عكاشة باستغلال حافظ نجيب، في إلقاء الخطب قبل التمثيل، بل أقنعته بعد شهرين فقط من الانضمام إليها كممثل ضمن أفراد فرقتها! بل ووصلت معه في الإقناع إلى درجة قيامه بتحويل روايته «الحب والحيلة» إلى مسرحية بالعنوان نفسه، وأن يقوم بتمثيل دوره الحقيقي فيها على خشبة المسرح! وعن هذا الأمر قالت جريدة «الأفكار» في 9 / 4 / 1915: «11 أبريل هو اليوم المشهود، الذي يمثل فيه على مسرح دار التمثيل العربى رواية «الحب والحيلة» لأول مرة. وهي قطعة تمثيلية ذات خمسة فصول، حوادثها واقعية وأبطالها أحياء يرزقون، يشغلون مراكز اجتماعية سامية. قطعة مملوءة بالحيل الغريبة، والحوادث الخطيرة، وفيها يظهر دهاء بطل الرواية، وصاحب وقائعها المزعجة حافظ نجيب. وسيمثل دوره بنفسه بعد ظهر يوم الأحد 11 أبريل في الساعة الخامسة. فرصة نادرة لم يسبق لها مثيل؛ لأن الذي مثل هذه الأدوار الخطيرة، على مسرح الكون الأعظم، سيعيد تمثيلها للعبرة والتفكه على مسرح التمثيل.»
7
ومن المؤكد أن هذه المسرحية لاقت نجاحا كبيرا، بدليل أنها مثلت أكثر من مرة، وفي أكثر من مكان، بعد عرضها الأول. فعلى سبيل المثال نجد فرقة عكاشة تمثلها في حفلات محددة، تخصص دخلها لحافظ نجيب! ومن هذه الحفلات، حفلة يوم 15 / 5 / 1915 بطنطا، وحفلة يوم 17 / 5 / 1915 بالمنصورة. وقد قام بتمثيلها أفراد فرقة عكاشة في هذا الوقت، وهم: أحمد حافظ، ماري إبراهيم، محمد بهجت، حافظ نجيب، علي مرتضى، عبد المجيد شكري، محمود حبيب، حسين حسني، أحمد ثابت، لبيبة، أحمد فهمي، فوزي الجزايرلي، محمد يوسف، صادق أحمد، فكتوريا، نهوه، صالح.
8
ومن الجدير بالذكر، أن مسرحية «الحب والحيلة» - كما جاءت في المخطوطة، وكما هي منشورة في هذا الكتاب - تعتبر فنيا أقل من رواية «الحب والحيلة» الأصلية. فعند تحويل الرواية إلى مسرحية، لم يلتزم حافظ نجيب بالأسس الفنية لكتابة المسرحية! فعلى سبيل المثال، لم يهتم بالإرشادات المسرحية، فكان الحوار ينتقل من شخص إلى آخر، بصورة فجائية دون وصف للموقف، أو شرح للمكان، أو تحليل للظروف النفسية والاجتماعية للشخصيات، وقت إلقاء الحوار. لدرجة أن جميع الإرشادات المسرحية الموجودة في النص المنشور - في هذا الكتاب - وضعتها بنفسي، بناء على قراءة الرواية الأصلية.
هذا بالإضافة إلى افتعال بعض المواقف، أو إلغائها لصعوبة تنفيذها على خشبة المسرح، فجاءت الأحداث ضعيفة بعض الشيء في بعض الفصول بمقارنتها بالأحداث نفسها، كما جاءت في الرواية الأصلية، والسبب في ذلك راجع إلى أن حافظ نجيب ليس من كتاب المسرح في هذا الوقت، وكان دخوله في مجال المسرح، دخولا متعجلا بسبب استغلال شهرته.
ترك حافظ نجيب المسرح ، واهتم بمغامراته النسائية، وأساليبه في النصب والاحتيال، حتى قبض عليه وأودع السجن عدة مرات. وفي عام 1919، وبعد خروجه من السجن في إحدى قضاياه الكثيرة، نشر مجموعة من الإعلانات، قال فيها إنه سيظهر من جديد على خشبة المسرح. وانتهزت هذه الفرصة جريدة «الإكسبريس»، وقالت في 14 / 12 / 1919: «حافظ نجيب العيار الشهير، رجل مولع بالشهرة. خرج من السجن أخيرا، ورأى أن الناس منصرفون عنه بما هو أهم ... فما كان من صاحبنا إلا أنه ملأ البلد إعلانات طويلة عريضة، قال فيها إنه سيظهر على أحد المراسح ليلتين متواليتين. لا ندري ماذا يفعل على المرسح. وكل ما نرجوه أن لا تكون أحبولة لصيد جديد. فإن الرجل لا يهدأ باله إلا بالنط على الشناكل، ولو أداه عمله إلى المشنقة. مصيبة حافظ نجيب في فنه، أو مصيبتنا فيه، أنه كاتب وأديب، ويأبى إلا أن يتعب الناس ويشقوا ويقدموا له المال، وهو راقد على سريره، وإلا سلبهم ما يملكونه بطرق لا يعرفها إلا هو وإبليس.»
ومهما يكن من أمر رأي الجريدة في حافظ نجيب، إلا أن هذا الرأي يعكس لنا مدى شهرة حافظ نجيب في مغامراته وحيله في النصب والاحتيال. لدرجة أن الجريدة تعتبر عودته إلى المسرح لعبة جديدة من ألاعيبه في النصب على الآخرين! ولكن يشاء القدر أن يكون حافظ نجيب صادقا هذه المرة، حيث إننا وجدناه يكون فرقة مسرحية تحمل اسم «الفرقة المصرية» مرة، وتحمل اسمه مرة أخرى. وظلت هذه الفرقة في تمثيل مستمر منذ عام 1919، وحتى عام 1921. وقد قامت هذه الفرقة بتمثيل مجموعة من المسرحيات، كتبها حافظ نجيب أو ألفها، مستغلا حوادث حياته وشهرته في أحداثها الفنية. أو بمعنى آخر، كتب حافظ قصة حياته في مجموعة من المسرحيات، قام بتمثيلها بنفسه، كما سنرى.
بدأ حافظ نجيب تكوين فرقته المسرحية الأولى في أوائل ديسمبر 1919، وأطلق عليها اسم «الفرقة المصرية»، وكان من أبرز ممثليها الممثل القدير يوسف عز الدين.
9
وهذه الفرقة مثلت أولى مسرحياتها، على خشبة مسرح برنتانيا في منتصف ديسمبر 1919، وكانت المسرحية بعنوان «قوة الحيلة». وهي مسرحية من تأليف حافظ نجيب، وتحكي عن حادثة موته ودفنه وخروجه من القبر حيا، وأيضا عن أسلوبه في الهروب من مطاردة البوليس، بالإضافة إلى بعض أفكار حافظ نجيب وأسراره ومبادئه. واستمر تمثيل هذه المسرحية ما يقرب من شهرين، سواء على مسارح القاهرة، أو على مسرح الهمبرا بالإسكندرية.
10
وقد قالت جريدة «الإكسبريس» في 25 / 1 / 1920، عن هذه المسرحية: «بين الإعلانات التي توزعت في المدينة، إعلان وزعه حافظ نجيب المشهور، وأعلن فيه أنه سيمثل رواية «قوة الحيلة». وقد مثلها في العاصمة، بعد أن أجهد نفسه، وأفرغ جعبة «حيله» في الإعلان عنها. وخرج المشاهدون بعد التمثيل يسألون بعضهم ماذا رأينا؟ وماذا شاهدنا؟ وأين ما وعدتنا به الإعلانات؟ فلم يجدوا غير جواب واحد، وهو أن صاحب الحفلة، والمعلن عنها، هو حافظ نجيب وكفى. وإذا سألت حافظا عن موضوع روايته، يقول لك: إنها رواية تمثل حيلتي، وكيف اختفيت عن عين البوليس، وتخلصت منه كلما طاردني. وكثيرون من المجرمين المحكوم عليهم، مثلوا مع البوليس روايات مختلفة، وهربوا بأساليب غريبة، فلم يتمكن من القبض عليهم إلا بعد عناء. فإذا كان كل منهم يتجر بمثل هذه الحيل، وتنخدع العامة بإعلاناتهم المنمقة، وعباراتهم المزوقة، فيربح من جيوبهم مائة جنيه أو مائتين، لعاشوا سعداء، وتمنى كل فقير معدم، أن يرتكب جرمه ويمثل دوره مع رجال البوليس ليسجن، ثم يفارق سجنه، ليمثل دوره ويربح منه الربح الجزيل.»
وفي أواخر فبراير 1920، ألف حافظ نجيب مسرحيته الثالثة، وكانت بعنوان «الجاسوس المصري»، وهي أيضا تمثل فترة من فترات حياته، عندما تجسس على ألمانيا لصالح فرنسا - كما مر بنا سابقا - وهذه المسرحية مثلتها فرقته لأول مرة في 20 / 2 / 1920 على مسرح الكورسال.
11
وقد قام حافظ نجيب بتمثيل دوره الحقيقي في المسرحية، وقاسمته البطولة الممثلة ميليا ديان.
12
ومنذ ذلك التاريخ أصبحت مسرحيتا «قوة الحيلة» و«الجاسوس المصري» البرنامج الأساسي لفرقة حافظ نجيب، حيث كان يجوب به مسارح الأقاليم المختلفة في مصر.
كانت أول رحلة لهذا البرنامج في بني سويف، حيث مثلت الفرقة مسرحيتي «قوة الحيلة» و«الجاسوس المصري » يومي 24 و25 فبراير 1920. ثم انتقلت الفرقة إلى الإسكندرية، ومثلت المسرحيتين أيضا على مسرح الكونكورديا في يومي 4 و6 مارس 1920. ثم عادت الفرقة إلى القاهرة، ومثلت مسرحية «الجاسوس المصري» على مسرح الكورسال يوم 7 مارس. ثم ذهبت إلى المنصورة، ومثلت المسرحيتين على مسرح تياترو البلدية في يومي 15 و16 مارس. ثم انتقلت إلى طنطا والزقازيق، ومثلت المسرحيتين في 18 و19 مارس، ثم عادت إلى القاهرة ومثلت المسرحيتين على مسرح برنتانيا يومي 25 و26 مارس، ثم انتقلت الفرقة إلى بندر كفر الشيخ، ومثلت المسرحيتين أيضا، في 29 و31 مارس. كما مثلت هاتين المسرحيتين على مسرح تياترو الزقازيق، في 13 و14 أبريل. وفي شبين الكوم أيام 28 و29 أبريل، وفي منوف يوم 30 أبريل.
13
عادت الفرقة إلى القاهرة، وبعد أخذ الراحة اللازمة من عناء السفر والتمثيل في الأقاليم، قام حافظ نجيب بتأليف مسرحيته الرابعة الجديدة «محور السياسة». وهي كباقي مسرحياته، تحكي عن أحداث حياته عندما كان مدرسا، وأيضا تحكي عن حيله في تضليل البوليس، وبالأخص حادثة موته الشهيرة، وعودته إلى الحياة مرة أخرى. وقد مثلت «الفرقة المصرية» هذه المسرحية لأول مرة يوم 7 / 6 / 1920 بتياترو برنتانيا بالقاهرة،
14
ثم أعادت تمثيلها مرة ثانية يوم 8 / 7 / 1920، ومرة ثالثة في أسيوط يوم 4 / 1 / 1921، ثم أخيرا تم تمثيلها يوم 11 / 8 / 1921. وكانت من تمثيل حافظ نجيب، وتوفيق إسماعيل ومحمد إبراهيم.
15
16
الجزء العلوي من أول صفحة لمقدمة مخطوطة مسرحية «محور السياسة» عام 1920.
وإذا نظرنا إلى مسرحية «محور السياسة»، سنجدها تتحدث عن فترتين من فترات حياة حافظ نجيب، الأولى عندما كان مدرسا، والأخرى عندما أوهم البوليس بموته، حتى يتخلص من شخصيته الحقيقية، ويعيش بشخصية البارون، كي يتزوج من سيجريس، كما مر بنا. وعلى الرغم من عدم الربط بين الفترتين، إلا أن حافظ نجيب جمعهما في عمل مسرحي واحد! فجعل الفترة الأولى مقدمة للمسرحية، والفترة الثانية فصول المسرحية بكاملها!
وإذا أردنا أن نتحدث عن الفترة الأولى، وهي عمل حافظ نجيب في مجال التدريس، سنجده - كما جاء في الاعترافات، وبعد خروجه من السجن - عمل مدرسا للرياضة في المدرسة التحضيرية بدرب الجماميز، ثم مدرسا في المدرسة الإسرائيلية .
17
وعن الأخيرة يقول حافظ في اعترافاته: «جادت علي الظروف الحسنة بدروس في بيوت عائلات إسرائيلية غنية زادت علي دخلي الأول ستة جنيهات.»
18
وعن هذه الدروس الخصوصية، كتب حافظ مقدمة المسرحية، والتي تحكي عن قيامه بإعطاء الدروس الخصوصية لإحسان، التي تقع في حبه، ولكنها تكتشف علاقاته النسائية، وأنه يوقع بالحسناوات من أجل إشباع شهواته؛ لذلك تصمم إحسان على علاج حافظ من نزواته، بأن تجعله يحبها لشخصها، لا لجسدها. وهذه الأحداث صاغها حافظ مرة أخرى على شكل قصة قصيرة، نشرها مرتين في مجلتي «العالمين» و«الحاوي» عامي 1924 و1925، بعنوان «لحد الفضيلة»، كما مر بنا.
وإذا كانت مسرحية «الحب والحيلة» جاءت ضعيفة بعض الشيء، عندما صاغها حافظ في الأسلوب المسرحي، بعد أن كانت قوية في أسلوبها الروائي، فإننا نجده يعكس الأمر - بعد أن تمرس في الكتابة المسرحية - حيث كانت مسرحية «محور السياسة» أفضل وأقوى من حيث البناء والحوار، من قصته «لحد الفضيلة»!
والعيب الوحيد الذي يوجه إلى مسرحية «محور السياسة»، يتمثل في أحداث موت حافظ نجيب، ودفنه ثم عودته إلى الحياة، فقد تمت هذه الأحداث بصورة سريعة مسرحيا، وبصورة غير مقنعة، بالمقارنة بينهما وبين الأحداث نفسها كما جاءت في الاعترافات.
19
وكنا نتمنى أن نجد مسرحية «قوة الحيلة» أو قصة «موت حافظ نجيب» لزينب فوزي، حتى نقارن بينهما وبين مسرحية «محور السياسة»، فيما يتعلق بحادثة موت حافظ!
وإذا عدنا إلى نشاط فرقة حافظ نجيب، أو «الفرقة المصرية»، سنجدها تفتتح ليالي العيد التمثيلية بتياترو برنتانيا في 18 / 6 / 1920، بمسرحية جديدة، هي «في سبيل الحرية»، وكانت بطولة حافظ نجيب.
20
ومن المحتمل أنه ألفها، كبقية مسرحياته، مستغلا حياته الشخصية في أحداثها. ولكننا لا نملك دليلا قاطعا على ذلك، حيث إن عنوانها جاء بصورة عامة، وغير محدد لفترة من فترات حياته. هذا بالإضافة إلى قلة إعلانات هذه المسرحية، أو الإشارة إلى عرضها أكثر من مرة، كبقية مسرحيات الفرقة!
وتتوقف الفرقة بعد عرض هذه المسرحية، لمدة عام تقريبا، ثم تظهر مرة أخرى بتكوين جديد في إدارتها وعنوانها، حيث أطلق عليها صراحة «فرقة حافظ نجيب»، وكانت تحت إدارة الممثل حسن البارودي.
21
وقد قامت هذه الفرقة في مايو 1921 برحلة فنية إلى أقاليم ومحافظات الوجه القبلي، حيث مثلت مسرحيتي «قوة الحيلة» و«الجاسوس المصري» في سوهاج وقنا والأقصر وأسيوط وملوي ومغاغة وبني سويف، ابتداء من أول مايو وحتى 22 منه.
22
وفى أواخر عام 1921، وجدنا الممثل القدير عزيز عيد،
23
ينضم إلى فرقة حافظ نجيب، ويقوم ببطولة مسرحيتها الجديدة «البلياتشو»، والتي مثلت لأول مرة في 10 / 11 / 1921، بدار التمثيل العربي، وقد ألقى حسن البارودي قصيدة جميلة خلال فصولها.
24
ومن المحتمل أيضا أن هذه المسرحية ألفها حافظ نجيب من خلال أحداث حياته، كما هي العادة، ولكننا لا نملك الدليل على ذلك. كما يوجد احتمال آخر، وهو أن حافظ نجيب ترجم هذه المسرحية، عن مسرحية «البلياتشو» تأليف كزامير دي مونتبان، التي مثلتها فرقة رمسيس عام 1928.
صورة إعلان عروض فرقة حافظ نجيب في الوجه القبلي عام 1921.
إعلان مسرحية «البلياتشو» عام 1921.
بعد ذلك ترك حافظ نجيب المسرح، وتفرغ إلى عمله الصحفي في عام 1923، كما مر بنا، ولكنه ارتبط بالمسرح في هذه الفترة، من خلال كتاباته النقدية. ففي مجلة «العالمين» بتاريخ 31 / 12 / 1923، وتحت عنوان «مسارح التمثيل»، قال حافظ: «طلب إلينا الكثيرون من قراء «العالمين» الكتابة عن مسارح التمثيل في مصر، وقد امتنعنا عن طرق هذا الباب لأن مسارحنا لم تبلغ الكمال الذي نتمناه لها، ولم يبلغ أصحابها حد احتمال النقد النزيه، وكلها في حاجة إلى النقد إذا كانت تطمع بالارتقاء وبلوغ حد الكمال الذي وصلت إليه المسارح الكبرى في الغرب. امتنعنا عن الكتابة في التمثيل حتى ضج من سكوتنا الكثيرون واتهمونا بالتقصير في تأدية الواجب، وساقنا أحدهم بالإكراه لمشاهدة رواية «المهراجا» ... كنا مخطئين حين ظننا أن الكتابة في التمثيل ستكون قاصرة على النقد الجارح. أخطأنا حقيقة وكانت رواية «المهراجا» أوضح دليل على خطأ من يسيء الظن بالشيء قبل رؤيته ووزنه.»
ثم وجدناه يحلل مسرحية «المهراجا» لفرقة رمسيس، تحليلا نقديا واعيا، ومتفهما لمهمة النقد والناقد، رغم مبالغته بعض الشيء في مدح العمل بأكمله! ومن الملاحظ أن قدرة حافظ نجيب النقدية في هذه المسرحية، جاءت بسبب أن المسرحية تتحدث عن نفسية الرجل والمرأة في الحب والحياة، وما يتعلق بهذه الأمور من الناحية الاجتماعية. وهذه الأمور الفلسفية والاجتماعية هي من صميم تخصص حافظ نجيب ككاتب وأديب، وأبلغ دليل على ذلك كتبه الاجتماعية، التي تحدثنا عنها سابقا. وقد عاد حافظ مرة أخرى إلى الكتابة النقدية المسرحية، من خلال مقالته في باب «أبحاث اجتماعية»، عن منيرة المهدية، التي نشرت في مجلة «الحاوي» في 9 / 2 / 1926.
وفي أواخر عام 1926، وقبيل توقف مجلة «الحاوي» نهائيا، عاد حافظ نجيب إلى المسرح، فكون فرقة مسرحية، لعرض المسرحيات الفودفيلية الكوميدية. وقد بدأت هذه الفرقة التمثيل على مسرح برنتانيا يوم 20 / 10 / 1926، بمسرحية جديدة من تأليف وتمثيل حافظ نجيب، كانت بعنوان «بم بم»!
25
وقد قالت مجلة «الفنون» في 31 / 10 / 1926، تحت عنوان «حافظ نجيب في رواية بم بم على مسرح برنتانيا»: «انتقى حافظ نجيب كل الظروف ووضعها في رواية بم بم، الفصل الأول محاورات جميلة، فكاهات بديعة، وأبدع ما فعل أنه ظهر على المسرح يمثل الرجل الأبله، فما رأى المتفرجون حافظا في ثوب، حتى كادت تنشق قلوبهم من الضحك. وأنا واحد من الناس خفت أن يغمى علي من السرور، فتركت القاعة وهربت. وأما الفصل الثاني، فإني أؤكد للقراء أنه ليس في مقدور إنسان، أن يستمر على مشاهدته للآخر، فإنه ألعن من الأول. لكن حافظ الأبله كان شوية نبيه. وأما في الفصل الثالث، فيجب على محبي حافظ أن يمسكوا أنفسهم ويتشجعوا، حتى يروا آخر الرواية. الرواية حلوة، وحافظ جميل جمال خاص به، فهو جميل من حيث إن وجهه لا يشبه وجوه بني آدم، لا في فمه ولا في عينيه ولا في أنفه ولا في حاجة أبدا. حافظ لا شبيه له من الحيوانات، ولا من النباتات، ولا من الأحجار. حافظ يشبه حاجة واحدة فقط، حاجة غير محسوسة. وحافظ هو السرور في جسم، في جسم خاص بحافظ، فلا يرى حافظا غاضب إلا ويرضى، ولا حزين إلا ويفرح. وكان حافظ وجوقه وروايته على المسرح السرور مجسما . وقد أقبل عليه الهواة إقبالا عظيما. فاذهبوا وانظروا حافظا ثم احكموا فيما ذكرته فيه.»
وقد أعادت الفرقة تمثيل هذه المسرحية يوم 12 / 11 / 1926، على مسرح برنتانيا أيضا، وقد أعلنت عن ذلك مجلة «الفنون» يوم 7 نوفمبر، بعد أن كتبت ملحوظة في نهاية الإعلان، قالت فيها: «كل من يحمل محفظة نقود، يسلمها قبل الدخول لشباك التياترو. وكل سيدة لها حلي تودعه في محل الأمانات بالتياترو»! وهذا طبعا من باب الفكاهة، بسبب شهرة حافظ نجيب في النصب والاحتيال، تلك الشهرة التي لازمته طوال حياته.
وفي يوم التمثيل الموافق 12 / 11 / 1926، أصدر حافظ نجيب العدد قبل الأخير من مجلته «الحاوي»، وهو عبارة عن نشرة إعلانية مكونة من أربع صفحات، كانت توزع مجانا على الجمهور، كدعاية لمسرحية «بم بم». وفيها من المعلومات أن فرقة حافظ نجيب تقدم حفلتين مسرحيتين كل شهر. وأن مسرحية «بم بم» «أقوى فودفيل ظهرت على المسارح ... ليس بها حركات بهلوانية، ولا نكات حشاشين. إنما قوتها المضحكة في سوء التفاهم المستمر، والمفاجآت المتعددة، والمواقف التي أوجدها الكاتب المحتال «حافظ نجيب»، ليضحك الجمهور أو يضحك عليه»، هذا بالإضافة إلى أن محلات بلاتشي وحاييم للموبليا، هي التي تقدم الديكورات والأثاث والإكسسوارات الخاصة بمسرحيات فرقة حافظ نجيب.
ومن الجدير بالذكر، أن الفودفيل نوع من أنواع الكوميديا شاع في مصر في أوائل القرن العشرين على يد عزيز عيد، الذي أنشأ أول فرقة فودفيلية عربية، مثلت مسرحيات معربة عن الفرنسية، من أشهرها: «خلي بالك من إميلي»، «يا ستي ماتمشيش كده عريانة»، «خلي مراتي أمانة عندك»، «سكرة بنت دين كلب!» ومصطلح الفودفيل مركب من «فودي فير» أي «وادي فير»، وهي قرية من قرى نورمانديا في شمال فرنسا، كان أهلها يتغنون بمقطوعات من الشعر المجوني، على سبيل التهكم والسخرية بالناس. وقد تسرب هذا النوع إلى المسرح، واختلط بالكوميديا. وأصبح الفودفيل المسرحي، هو كل رواية تشتمل على حوادث ذات مفاجآت ومواقف مضحكة.
26
وهذا المعنى، هو ما سار عليه حافظ نجيب في كتابة أو تمثيل مسرحية «بم بم».
وبعد تمثيل مسرحية «بم بم»، كتب ناقد مجلة «الفنون» مقالة عنها في 21 / 11 / 1926، قال فيها: «حضرنا تمثيل هذه الرواية في يوم الجمعة الماضية في تياترو برنتانيا، فكان التمثيل بديعا، والموضوع يدل حقيقة على عبقرية مؤلفها، الأستاذ حافظ نجيب النابغة في كل أعماله. ألف الرواية حافظ نجيب، وعلم فرقته تمثيلها، وظهر على خشبة المسرح، فكان نعم الكاتب ونعم الممثل. ظهر محاميا وطالبا للزواج، فأضاع لباقة المحامي بحياء موقفه الجديد، ثم أخذ ينتقل في التمثيل من فصل إلى آخر، فكان يدهش النظارة بمفاجآته ونكاته، ويروح عنهم هموم اليوم بسرعة خاطره. أما العروس التي جاء يخطبها، فقد أظهرت في التمثيل كل النجاح ... وقابلها الجمهور عقب كل موقف بالتصفيق الحاد والتهليل، وتمنى كل من أسعده حظه برؤية هذه الفرقة أن تستمر في عملها الجديد. أما والد العروس فكان مع كبر سنه خفيف الظل رشيق الحركات، وهذا أيضا من حسن اختيار حافظ نجيب النابغة الأصلي. وكان الخادم الذي اشتغل في الفندق ثم اشتغل بعدئذ في خدمة العروس «زوج المحامي»، طلق اللسان جريئا، كثير التوريات. ومع كل هذه المفارقات فالإعجاب به كان عظيما والتصفيق حادا. وقد خرج المتفرجون مسرورين، يغبطون النابغة حافظ نجيب على فرقته، ويتمنون له استمراره في العمل لخدمة هذا الفن، وأن يكون جديدا لا بليدا في إخراج الروايات، حتى لا يقل عن يوسف وهبي أو الريحاني، اللذين يجهدان نفسهما لجذب الجمهور لمسرحهما. فاللهم وفق كل ظريف كحافظ نجيب.»
وهذا القول يضيف إلينا معلومات جديدة، منها: إن حافظ نجيب لم يكن مؤلف المسرحية وممثلها فقط، بل كان مخرجها أيضا. فقد كان حافظ فيما مضى يعتمد في إخراج مسرحياته، على الفنان حسن الباردوي «المدير الفني للفرقة». ولكن في هذه المسرحية كان حافظ نجيب «معلمها» أي مخرجها. وأيضا علمنا من هذه المقالة، أن حافظ نجيب نجح كممثل كوميدي، مثلما نجح كممثل تراجيدي في مسرحياته السابقة! هذا بالإضافة إلى أن المقالة، تعكس لنا الإقبال الجماهيري الكبير على مسرح حافظ نجيب، ذلك الإقبال الذي فاق إقبال الجمهور على مسرحي يوسف وهبي ونجيب الريحاني في هذا الوقت ! وأخيرا نجد كاتب المقال، يكرر كلمة «النابغة»، ويقرنها باسم حافظ نجيب، وهذا يدل على أن تأثير كتاب «نابغة المحتالين» على القراء، ما زال مستمرا حتى هذا الوقت. ولا ننسى أيضا كلمة «ظريف» في نهاية المقالة، التي تشير إلى حافظ نجيب، تشبها بأرسين لوبين «اللص الظريف»!
توقف حافظ نجيب عن عروضه المسرحية، حوالي أربعة أشهر تقريبا، وفي مارس 1927، بدأ في تكوين فرقة مسرحية جديدة، ضمت مجموعة من الممثلين، على رأسهم الفنان حسن فايق،
27
والمطربة ملك.
28
وبدأ العمل على قدم وساق، لعرض المسرحية الجديدة «الهوسة»! وهي من تأليف حافظ نجيب، ومن نوع الفودفيل أيضا، وقد تقرر عرضها يوم 21 / 3 / 1927 على مسرح سميراميس بشارع عماد الدين. وقبل العرض بأيام قليلة، نشر حافظ إعلانا، أخبر فيه الجمهور بتأجيل افتتاح مسرحيته «الهوسة» إلى يوم الخميس الموافق 24 / 3 / 1927.
29
وفي يوم الخميس هذا، أصدر حافظ نجيب عددا من مجلته «الحاوي»، وهو عدد - شبيه بالعدد السابق الذي صدر يوم افتتاح مسرحية «بم بم» - كان عبارة عن نشرة إعلانية عن تمثيل مسرحية «الهوسة»، مكونا من أربع صفحات، وكان يوزع مجانا على الجمهور. والإعلانات الموجودة في هذا العدد،
30
تفيد أن مسرحية الهوسة ستمثل ابتداء من 24 مارس وحتى 27 منه. وابتداء من 28 مارس حتى أول أبريل ستعيد الفرقة تمثيل مسرحية «بم بم».
وفي يوم العرض الأول لمسرحية الهوسة، ذهب الناقد الفني لمجلة «الفنون»، بدعوة شخصية من حافظ نجيب، كي يشاهد المسرحية ويكتب عنها! وبالفعل ذهب الناقد بناء على دعوة صاحب الفرقة ومؤلف ومخرج وممثل المسرحية «حافظ نجيب»، وكتب مقالة قصيرة جدا، نشرها في عدد المجلة بتاريخ 3 / 4 / 1927، قال فيها: «حافظ نجيب محاط بالعجائب والغرائب دائما، وأعجب ما شهدناه أننا دعينا منه لحضور رواية «الهوسة»، التي سيمثلها على مسرح سميراميس. ولكن ما كان أعظم دهشتنا، إذ ذهبنا في الموعد المحدد، فإذا بالتياترو موصد الأبواب! فسألنا، فقال أحدهم: إنه يستريح الليلة ليستعد لتمثيل رواية «بم بم»! وقال آخر: إنه لم يجد إقبالا عليه فعطل التمثيل! وقال ثالث: إنه أراد أن يضحك من الناس ويهزأ بهم! وعلى أية حال فقد ذهبنا فلم نجد لا حافظ نجيب، ولا فرقة حافظ نجيب ، والسلام!»
وكانت هذه الكلمات، آخر كلمات نشرت عن حافظ نجيب كمسرحي! فلم نسمع عنه كمسرحي بعد ذلك، ولم نجد أية إشارة تدل على تمثيل مسرحية «الهوسة»، ولم نجد أي خبر عن فرقته! وهكذا يسدل الستار على نشاط حافظ نجيب المسرحي، ذلك النشاط الذي كان مجهولا للجميع، قبل صدور هذا الكتاب، الذي نتوجه - في الصفحات التالية - بنشر مخطوطتين لمسرحيتي «الحب والحيلة» و«محور السياسة»، وهما من الآثار الأدبية النفيسة للأديب حافظ نجيب! حيث إنهما من تآليفه النادرة، التي لم تنشر منذ عام 1915!
رواية «الحب والحيلة»
بقلم حافظ نجيب
غلاف مخطوطة مسرحية «الحب والحيلة».
الشخصيات
1
الملك:
أحمد حافظ.
الملكة:
ماري إبراهيم.
دي توسكا:
محمد بهجت.
بنفيه:
حافظ نجيب.
المحافظ:
علي مرتضى.
مدير البوليس:
عبد المجيد شكري.
الدوق:
محمود حبيب.
الأميرال:
حسين حسني.
جاك:
أحمد ثابت.
ماري:
لبيبة.
الخادم:
أحمد فهمي.
حاجب:
فوزي الجزايرلي.
متكلم أول:
علي مرتضى.
متكلم ثان:
محمد يوسف.
جارسون:
فوزي الجزايرلي.
إحدى صفحات مخطوطة مسرحية «الحب والحيلة».
الفصل الأول
المنظر الأول (قصر الملكة)
الملكة (لنفسها)
2 :
ليس بين كل النساء من لا تحسدني على جاهي وجمالي، وأنا أحسد أشقى النساء على سعادتها وشقائي، ليس الهناء في الحياة بالجاه وألقاب العظمة ولا بوفرة المال وكثرة الرجال، إنما الهناء بطمأنينة القلب، وابتهاج النفس بتحقيق رغباتها، يا نساء العالمين ... أيتها الحاسدات ... لا تتركن أبصاركن يلهيها تلألؤ الجواهر؛ فتنخدع بالزينة والظواهر، فتعمى عما في نفسي من ألم الغيرة وذل الانكسار، وعما في قلبي من الحب والهياج.
يظنون أن الحب لهو ولذة
وأن هناء العيش في رفعة الجاه
فيا قلب هل هذا صحيح تحسه
وإلا غرور الناس بالظاهر الواهي (يدخل الكونت.)
هذا أنت يا كونت؟ ما وراءك من الأخبار؟
الكونت (بدهاء) :
كل ما يسر جلالة الملكة سماعه.
الملكة (بمكر) :
إذن ليس لديك ما تخبرني به؛ لأنك تعرف أني لا أسر من شيء، وما دام الذي تعرفه ليس فيه ما يضاعف آلامي ومزعجات نفسي ، فوفر عليك مشقة نقله إلي، فإنني لا أعنى بغير شخصي.
الكونت :
إذن أنت سعيدة يا مولاتي. الحمد لله الذي أوصلك من الفلسفة إلى حد اجتلاء حقيقة السعادة؛ فقد سمعت أحد الحكماء يقول بأن ارتباط الفرد بالجماعة، يكسبه شيئا من الفائدة الاجتماعية، ولكنه يدفع ثمنها من سعادته وهناء نفسه، وكلما قلت الرابطة، نقص الثمن وتوفر للإنسان جزء من غبطته وهنائه.
الملكة (بتعجب) :
ما هذا يا دي توسكا؟! أراك ماهرا في كل شيء حتى في الفلسفة، دعني بربك من الدلالة على مقدرتك واجلس إلى جانبي أقص عليك حادثا غريبا لست أدري أأنزعج منه وأتكدر؟! أم أضحك منه وأبتهج؟!
الكونت :
وهل تريد صاحبة الجلالة أن أهيئ نفسي للانزعاج معها أم للضحك والابتهاج؟!
الملكة (بضيق) :
اسمع الحديث أولا، ثم افعل ما يروقك بعد ذلك.
الكونت (بأدب جم) :
كلي أذان تسمع يا مولاتي.
الملكة :
عدت ليلة من حفلة ساهرة، فسمعت بعد اضطجاعي صوت رجل يوقع على قيثارة، ويغني في المرج، قريبا من نافذة حجرتي ... أعجبني ما سمعت! بل إن تأثير الصوت كان يبعث في نفسي، كل ما أراده المغني بتوقيعه، فقمت إلى النافذة بالرغم مني أسمع، ونفسي تنتقل من الشجن إلى الشجن، حتى بكيت من قوة الانفعال، ومن مشاركة عواطفي عواطف المغني أو الشاعر في قصيدته، وفي الصباح سألت عن الرجل، فلم أهتد إليه! فنزلت إلى المرج كعادتي، فلم أجد زهوري على شجيراتها، واستنتجت مما حولها من منتثر الزهر، أن يدا سبقتني إلى قطفها فاستأت، وقصدت إلى النهر عند المظلة حيث أجلس عادة، فراعني أن وجدت الزهور منسقة في شكل باقة، وإلى جانبها القصيدة التي سمعت صاحب القيثارة يتغنى بها، وعنوانها: تحت النافذة!
الكونت (بانزعاج) :
متى كان هذا يا مولاتي؟
الملكة :
منذ أسبوع. وقد تكرر هذا الحادث للمرة الثالثة، ولما لم أتمكن من الاهتداء إلى ذلك المنشد الفرار زاد شوقي لمعرفته! فبثثت العيون في الحديقة، عسى أن يقبضوا عليه، فأعرف من هو؟ وماذا يريد بغنائه؟ وبقطف الزهور وإهدائها إلي مع القصائد؟! ولكن لك أن تصدق أنني غير حانقة على الرجل، ولا أريد به إلا الخير، فهلا يريد ذلك المسكين أن يسمع مني عبارة الإعجاب به؟!
الكونت (بغضب شديد) :
يلوح لي أن مولاتي لا تعبأ بهذا الحادث! ولا تعنى منه بغير رخامة الصوت وجودة التوقيع. أما أنا، فالواجب والعقل يقضيان علي بالتفكير وتدبير المحافظة على الملكة من خصومها؛ فقد يكون المغني يرمي إلى غاية، لا قدر الله!
الملكة (بضيق) :
أية غاية تقصد؟!
الكونت (بخبث) :
أنا لا أعين غرضا بذاته، وإنما أقول: إن الذي يجيء بالليل ليغني قريبا من نافذة الملكة ثم يفر عند البحث عنه حقيق بمحبي الملكة والمخلصين إليها أن يفكروا في شأنه!
الملكة (بضيق أكثر) :
أنت تمثل دور العاشق يا كونت، وتظنني ساذجة، فأنت تتخذ من كل حادث أو حديث سببا للدلالة على إخلاصك لي، وعلى تفانيك في الغيرة علي ... وعلى ... وعلى ... ولست أدري ما الذي يجشمك مشقة التفكير وعناء الإجهاد في الاستنباط والتمثيل؟!
الكونت :
مولاتي ... لا تؤلميني بهذا التهكم، فما أنا بحاجة إلى الدلالة على صدق ما أشعر به نحو صاحبة الجلالة من الإخلاص والود، إن الحب القوي الصادق لا يحتاج للدلالة على وجوده بل تحسه الروح، وتفعل قوته في قلب المحبوب ما تفعل تموجات الكهرباء وسيالاتها.
الملكة (بتهكم) :
كلمات محفوظة يقولها كل شاب لكل حسناء.
الكونت :
مولاتي ... أنا لا أطمع بغير الذي اكتفيت به ... القناعة بالنظر إلى ذاتك البهية ... والشرف بخدمتك ... والشوق إلى تضحية حياتي بأمرك متى وكيف تريدين!
الملكة :
حبذا لو يصدق الرجل!
الكونت :
حبذا لو لم يكن قلب الحسناء قاسيا!
الملكة :
لا تتألم من مزاحي يا كونت، فإنني واثقة من إخلاصك لي ومن الود الذي تذكر.
الكونت :
ليس هو يا مولاتي ودا، ولكنه انفعال النفس بالقوة ال ...
الملكة :
دعنا من هذا الحديث الآن؛ فأنت لا تريد أن تنتهي منه، وليس هنا مكانه، ألا تريد أن تسمع شكري لك على الخادم الذي اخترته لي؟
الكونت :
تريدين بنفيه؟
الملكة :
كم أشكرك على هذه المنة، فالرجل عاقل رزين حريص على أسراري حرصه على حياته، وعلى مرضاتي لا كمولاته، وإنما كابنته ... كمخلوق عزيز عليه ... لا تغر منه يا كونت فإنه خادمي.
الكونت :
أنا أغار عليك من النسيم يمس جسمك ... ومن الهواء تستنشقينه ... ومن الماء تروين به ظمأك ... ومن كل ما تلمسين ويقع بصرك عليه ... وما اخترت لك بنفيه إلا لوثوقي مما عرفت من خصاله، وخلاله الطيبة، ومن أمانته في نقل الرسائل إلي وإلى مولاتي.
الملكة :
إذن ما عدت أرتعد عند الكتابة إليك (تتذكر)
آه يا كونت لو علمت كم جزعت عندما عرفت أن خادمي المرحوم، كان يخونني ويبقي رسائلي في حقيبته بدلا من أن يوصلها إليك! آه يا ربي كم تألمت وكم جزعت!
الكونت :
لقد لقي الخائن جزاءه العادل، فلا تخافي يا مولاتي، ولا تشكي في أمانة بنفيه فإنه من خيرة رجالي اللاصقين بي.
الملكة :
حسن جدا، فقد أزلت عني بعض همومي وثبت قلبي على الاطمئنان. فدعني الآن أسألك عن حفلة الرقص، هل غرم الملك على الرقص فيها مع ... مع بعض السيدات!
الكونت :
نظام الحفلة ذكر به الرقص، ولكن من يدري ... ماذا يفعل جلالته وهو الرجل المشهور بالتردد وبكثرة التقلب؟!
الملكة (تلتفت وتنظر إلى ملابسها) :
وكيف تراني في هذا الزي؟! هكذا كانت تلبس حنه دوتريش زوج لويس الثالث عشر
الكونت (ينظر إليها بإعجاب) :
كان ينقص تلك الملكة العاشقة هذا الحسن الباهر، وهذا القلب الحساس الطاهر.
الملكة (بدلال) :
كفاك مداهنة يا دي توسكا، إلى الملتقى بعد قليل، فإنني بحاجة إلى الخلوة بنفسي قبل أن تبدأ الحفلة، وما بقي عليها إلا دقائق (يخرجان ويدخل بنفيه الذي كان متواريا يستمع لحوارهما) .
بنفيه (لنفسه وكأنه يتحدث مع الملكة، مرددا إحدى العبارات التي جاءت على لسان الكونت) :
لا تشكي بأمانة بنفيه! نعم يا ناتالي يا مالكة فؤادي، لا تشكي بأمانة بنفيه، بنفيه يحبك من كل قلبه، يحبك بجميع قوى نفسه، يحبك ويعطف عليك، لا كابنته كما تقولين، ولكن كروحه كحياته كآماله (بغيط وكأنه يتوعد إنسانا أمامه)
دي توسكا ويل لك أيها المعشوق الخائن، ويل لك لأنك تخدع التي أحبها ، وتتخذ من ضعفها في حبك قوة للكيد بها وللانتقام لنفسك، ويل لك لأنها تحبك، وأنا أغار من هذا الحب، أنت عقبة في سبيلي إلى قلبها فويل لك، ظننت أيها الأبله أنني من رجالك واللاصقين بك، وأنك تستخدمني لتحقيق غايتك ولخدمة شهواتك السافلة، سترى من منا الذي يهنأ بقلب هذه الملكة المتيمة بحبك، الغافلة عني وعما وراء هذا المشيب من نضارة الشباب، ووراء هذا الضعف من قوة الحيلة، دي توسكا أيها المحبوب الخائن، سترى كيف أصرعك، فقد وقفت على كل أسرارك، وعلى أسرار القصر، وكل من يلوذ بك ... (بتهكم)
الملك يعشق كاترين ابنة دي توسكا، الملكة تحب دي توسكا وتغار على زوجها، دي توسكا ناقم على الملك، يريد الانتقام منه بواسطة تلويث عرض الملكة، ثم بأعظم من ذلك ... (بتأثر)
يا لله من شرور الإنسان، ويا لله مما تضمر الضمائر، إن صحيفة البحر تلوح ساكنة صافية، ولكن هل يصل النظر إلى ما وراء الجزء الظاهر! وهل يبصر ما في جوفه من المخوفات ...
إن رجلا داهية كالكونت لا يستهان به، ولا من السهل خذله ومصادمة آماله ومقاصده، فلكي أصل إلى تحقيق رغباتي يجب أن أنفذ هذه الخطة، أمنع الملك من الرقص مع كاترين، أمنع دي توسكا من مخالطة الملكة في هذه الحفلة، أفضح تنكر دي توسكا، وأدل الناس عليه حتى لا يتسنى له الدنو من الملكة ولا البقاء إلى جانبها، أخلو بالملكة وأحادثها ما دامت متنكرة بزي حنه دوتريش، وأنا بزي وزيرها الكاردينال ريشيليو، وأجعل هذه المناسبة واسطة للمحادثة، أهين دي توسكا أمامها، إذا بدرت منه بادرة غيظ أو صلف، وأغلبه على أمره لأحقره في نظر الجميع (بحزم)
هذا ما قررت تنفيذه في هذه الحفلة (بتحد)
دي توسكا، لقد تغلبت على قلب الملكة بالخداع والتظاهر بالحب، وسأنتزعه منك على الرغم من كل شيء ومن كل قوة بالحيلة، وسترى أية القوتين أضمن إلى تحقيق الرغبات.
المنظر الثاني (حفلة رقص - صالون - الجميع يدخلون متنكرين)
الكونت (بابتهاج إلى الملكة) :
هذه الليلة من أسعد الأوقات التي عرفتها في حياتي؛ لوجودي إلى جانب الملكة العظيمة حنه دوتريش.
الملكة (تنظر إلى الملك ولا تبالي بالكونت) :
ولكنها في نظري من أوقات الشقاء التي أحفظ ذكراها إلى أمد بعيد، فقد رأيت الملك يتهيأ للرقص مع عشيقته يا كونت، وأنا زوج كثيرة الغيرة على زوجها.
الكونت (بخبث) :
الغيرة لا تكون قوية إلا مع وجود الحب، فهل مولاتي لا تزال تحب زوجها، بعد الذي عرفته من أمره؟!
الملكة (بذكاء) :
هل نسيت يا سيدي أنني والدة أبنائه، وأنه أول رجل خفق له فؤادي ورقص من حبه قلبي. إن المرأة قد ترغمها ظروف مخصوصة فتنسى واجباتها، أو تكون مثلي ضعيفة الإرادة فتستسلم لعواطفها الطائشة فتخون زوجها، ولكنها لا تكرهه متى كانت قد أحبته، وترجع إليه لأول داع إلى الوئام، وأؤكد لك أنه لولا سوء تصرف الأزواج ما سقطت الزوجات، ومن لا يحرص على ما في حوزته يعرضه للتلف أو للضياع (يدخل بعض المدعوين) .
متكلم أول (يشير إلى الكونت) :
انظروا! انظروا هذا الواقف إلى جانب الملكة دوتريش، هو الكونت دي توسكا!
متكلم ثان (ينظر بتعجب) :
هو! هو بعينه الكونت دي توسكا.
الملكة (للكونت بانزعاج) :
لقد عرفوك يا كونت، فدعني أبتعد عنك.
الكونت (يذهب إلى من تحدث بغضب شديد) :
من الذي يذكر اسم دي توسكا؟!
متكلم أول (بحرج) :
أنا يا سيدي الكونت.
الكونت :
وهل بلغ بك السكر إلى حد التهكم علي وفضح تنكري في مثل هذه الحفلة؟!
متكلم ثان (بتحد) :
لا تحتد على رفيقي، فإنه لم يذكر اسمك قصدا، (يشير إلى ظهر الكونت)
وإنما قرأ ما هو مكتوب على ظهرك!
الكونت (يلتفت وراءه بانزعاج وحرج شديدين) :
على ظهري! (تمسك يده بورقة ملتصقة على ظهره، وينظر فيها بغضب)
من الشقي الذي كاد لي هذه المكيدة؟! الويل له إن عرفته! (يخرج ويثرثر في ثورة غاضبة شديدة) .
متكلم أول (في حذر) :
الكونت رجل جبار فما لكم وله؟! إنه لا بد أن ينتقم لنفسه منكم بسبب هذا التهكم (يضحك) .
متكلم ثان (بضيق) :
لا نظن الرجل على شيء من شرف النفس أو الشهامة، فلو كان من الذين ينتقمون ممن ينالون من كرامتهم، ما غض الطرف عن سلوك ابنته كاترين، وقد افتضح أمرها مع الملك.
متكلم أول (ينظر إلى القاعة) :
عجيب أمر هذه الحفلة، فكل ما حدث بها غريب، فقد أرغم الجميع على عدم الرقص في الشوط الأول بسبب ما حدث من انطفاء النور ومن سرقة نوتات الموسيقى!
متكلم ثان (بتعجب) :
حدث هذا في لحظة قصيرة جدا، ويغلب على ظني أنها مدبرة من قبل حدوثها!
متكلم أول :
لا بد أن تكون للملكة يد في هذه الحادثة؛ لأنها الإنسان الوحيد الذي يهمه تكدير صفاء الملك (يضحك)
وإرغامه على عدم الرقص مع خليلته كاترين!
متكلم ثان (كأنه يفكر) :
يلوح لي أن هذه الحادثة لها ارتباط بفضح تنكر الكونت دي توسكا والد كاترين، وأراهن من يشاء، على أن اليد التي سرقت نوتات الموسيقى وقلبت نظام الحفلة، هي التي وضعت هذه الورقة على ظهر دي توسكا (يضحك)
الكونت دي توسكا والد كاترين!
متكلم أول (يبتسم ابتسامة خبيثة) :
ما أكثر فكاهات هذه الحفلة الشائقة، تعالوا إلى ساحة الرقص؛ فلا بد أنه يحدث شيء غير هذا، تعالوا ننظر (يهم بالخروج من الجهة اليمنى) .
متكلم ثان :
بل تعالوا نشرب ونسكر (يخرج من الجهة اليسرى، بينما تدخل الملكة، وخلفها بنفيه متنكرا في زي الكاردينال) .
الملكة (باندهاش) :
لماذا كسرت الكأس التي شربت فيها يا سيدي الكاردينال؟
الكاردينال (ينظر إلى فمها) :
لأنني أعلم قيمة من لمستها بشفتيها ... وأضن بتلك الزجاجة وقد تقدست أن يلمسها فم آخر!
الملكة (تنظر إليه بإعجاب) :
يلوح لي يا سيدي أنك تمثل أطوار من تتزي بزيه، فإنه على ما ذكروا كان يحب الملكة حنه دوتريش!
الكاردينال :
ولكن ذلك العاشق ألم بغيرته من أحبها، وجعلها تقضي كل حياتها منغصة متعسة، (بصوت هامس)
أما أنا فإنني أبذل حياتي رخيصة لكي لا تسيل دمعة واحدة من عين من أحب بسبب هذا الحب، فثوبي هذا ثوب ريشيليو، ولكن قلبي عند ذلك القلب المتحجر.
الملكة (بخبث) :
هل تعرف شخصي يا سيدي؟! إن في حديثك ما يشير إلى كونك تعمدت التزيي على هذه الصورة لتسمعني حديثك، وأنا أشعر بأنك لا تلقيها جزافا، وأرجح أنها ليست تجيء صدفة؛ لأنك تسوقنا وتحول كل شيء إلى هذا الغرض الذي تريد أن تتكلم فيه!
الكاردينال (مبهوتا) :
صدقت يا مولاتي.
الملكة (بدهاء) :
إذن أنت تعرفني!
الكاردينال :
لا أنكر هذا.
الملكة :
من أنا؟!
الكاردينال (بصوت رقيق هامس) :
أنت التي قضيت الليالي تحت نافذتها أنشد قصائدي ... أنت التي كنت أنمق لها الباقات لتلمس يدها ما لمست يدي، صدقيني يا مولاتي إن روحي هي التي كانت تناجيك، لا صوتي الذي كان يشجيك.
الملكة (بفرح ممزوج بالتعجب) :
أنت ذلك المغني! بربك من أنت؟! لقد زدتني شوقا إلى معرفة شخصك، تكلم (يدخل دي توسكا ويبهت مما يرى) .
دي توسكا (بغضب وخبث) :
ما عهدنا ذات الجلالة الملكة تخلو بعدوها الآن ريشيليو؟! فلعل مرور الأزمان يبدل قلب الإنسان!
الكاردينال (بذكاء وتحد) :
ونحن ما عهدنا أن رجلا من النبلاء ينفضح سر تنكره في حفلة ويبقى فيها يروح ويجيء بدون خجل ولا حياء!
دي توسكا (في تحد كبير) :
كان الكاردينال العظيم أوسع صدرا منك يا سيدي، وأكثر دهاء وحكمة، وما عرفنا عنه أنه يتصدى لمثل ما تفعل من العداء جهارا؛ لأنه وإن كان قويا بفكره، إلا أنه كان ضعيف الجسم، ولا أظنك إلا مثله في الجسم، وإن كنت دونه في الدهاء والحزم!
الكاردينال (بلا مبالاة) :
أهذا الذي جرأك على مناوأتي؟!
دي توسكا (يتقدم نحوه في ثورة غاضبة) :
بل على تأديبك، حتى لا يدفعك التزيي بزي العظماء إلى الاغترار والاعتداء. (يشير إليه بأصبعه)
أنا أراهن على أنك أنت الذي وضع على ظهري ورقة كتبتها يد اللؤم والسفالة.
الملكة (بانزعاج من ثورة الكونت) :
ماذا تقول يا دي توسكا؟! هل تجرأ أمامي على النطق بهذه الألفاظ؟! (بتهديد)
إنك مندفع في سبيل قد يكون خطرا عليك!
دي توسكا (في انكسار) :
كأن مولاتي تشجع خصمي وتفل من عزمي.
الملكة (تخفض من غضبها) :
أنت مشاكس في هذه الليلة يا كونت، كأنك فقدت عقلك، ولست أرى خيرا إلا الابتعاد عنك (تخرج جهة المقصف) .
دي توسكا (إلى الكاردينال في تحد) :
أراهن على أنك أنت الذي سرقت نوتات الموسيقى!
الكاردينال (بتهكم وهدوء) :
ربما صح ما تدعي.
دي توسكا (في غضب متزايد) :
وأراهن على أنك الذي فضحت تنكري!
الكاردينال (في هدوء أكثر) :
قد تصدق فيما تظن!
دي توسكا (يصرخ) :
ما الذي تريد بما فعلت؟!
الكاردينال (يقف أمامه وجها لوجه في تحد صريح) :
إذا كنت مصيبا في الذي حذرت، وإذا كنت أنا الرجل الذي فعل ما تدعي أنني فعلت، وإذا كان للحادثتين ارتباط ببعضهما يكون جواب ما تسأل. إنني أردت أن أمنع الملك من الرقص مع خليلته ابنتك أمام الملكة (يبهت الكونت)
حتى لا تتألم من الغيرة، وحتى لا تتمكن أنت من اغتنام فرصة غيظ الملكة من زوجها لزيادة التفريق بين الزوجين (تبرق عين الكونت)
وأردت بفضح تنكرك أن لا تبقى في هذه الحفلة مجهولا تدس الدسائس وتنصب الشراك لتهيئة أسباب انتقامك ممن لم يسئ إليك ... من الذي نشأت في نعمته، وتحوطك رعايته، وتريد النكاية به وبزوجه، لا لسبب غير ما انطبعت عليه نفسك من الشر (يدفعه بعيدا)
هذا الذي أردت، وهذا جواب ما تسأل عنه فلعلك فهمت.
دي توسكا (في رعب داخلي، وجرأة كاذبة ظاهرة، شاهرا سيفه) :
أنت رجل قضى على نفسه بالموت (يفكر برهة، فيعيد السيف إلى غمده)
ولكني لا أبارز رجلا لا أعرفه، فقد تكون غير شريف!
الكاردينال (بتهكم وجرأة) :
هل تظن الشرف والنبل بالألقاب؟! كم بين النبلاء من ذوي النفوس الخبيثة والخصال السفيهة؟! وكم بين العامة من ذوي المحامد والمجد الصحيح؟! دعنا من المحاولات يا سيدي الكونت، فمثلك ليس بالرجل الأبله، ولا بالذي يعتد بالشرف، وإلا فلماذا سكت على سلوك ابنتك وأغمضت عينيك عن رؤيتها في أحضان خلي ...
دي توسكا (في ثورة) :
اسكت يا سفيه، (يشهر سيفه مرة أخرى)
فقد آن أن تسكت إلى الأبد (يحاول طعن الكاردينال) .
الكاردينال (يتفادى الطعنة بمهارة) :
حضرة الكونت الشريف أصبح قاتلا سفاكا (يخرج سيفه وتبدأ المبارزة)
هل هذا يا سيدي عمل النبلاء الذين يخشى أن لا أكون منهم (تشتد المبارزة، وتطيش جميع ضربات الكونت)
رويدا رويدا يا سيدي القائد ... فقد لا تملك نفسك وأنت متهيج بالغضب فتفلت يدك السيف.
دي توسكا (يسدد طعنة أخرى) :
مت يا لئيم وإلى جهنم.
الكاردينال (يتفادى الطعنة وبمهارة يضرب يد دي توسكا فيسقط سيفه) :
تناول سلاحك يا كونت، ألم أقل لك إن الغضب يجعلك لا تحسن استعمال السلاح (يدخل البعض ومنهم الملك والملكة) .
دي توسكا (في رعب) :
الملك، الملك (متوعدا)
سنلتقي يا سيدي مرة أخرى (يخرج) .
الملك (مبتهجا وسط مجموعة المدعوين) :
إلى المقصف فقد حان الوقت (يلتفت إلى امرأة جميلة، فيتعجب عندما تكشف وجهها حيث إنها زوجته)
الملكة، هذه أنت يا سيدتي، لقد كنت كثير الإعجاب برقصك البديع مع الكاردينال ريشيليو، يا ليتني لم أكن أجهل شخصك الكريم، ويا ليتني سألتك الرقص معك، لقد أحسنت وأبدعت.
الملكة (في فرح) :
أشكر الله على النعمة التي نلت بلفت نظر جلالتك إلي، وأشكرك كل الشكر على عبارات الإطراء والمديح التي أردت أن تتنازل لتسمعني إياها على غير استحقاق!
الملك (في استرحام) :
سامحيني يا مولاتي سامحيني، ولا تكوني قاسية القلب (يقترب مكنها أكثر)
لقد أسأت إليك وألمت قلبك، وها أنا أتقدم إليك معتذرا سائلا العفو، وعهدي بك محبة للتسامح، قوية الإشفاق، كثيرة الغفران.
الملكة (في دلال) :
مولاي يعرف ما في قلبي من الحب والاحترام، وأنا أبتهج كل الابتهاج برضى جلالته عني، ولا أذكر أبدا أنني كثيرة الحفيظة، نعم أعترف بكوني تألمت وبكيت، ولكن هذه اللحظة السعيدة تنسيني كل ما مر من ساعات الآلام ونكد العيش.
الملك (في حنان) :
أنت ملك كريم يا زوجي، أنت خير أم وأفضل زوج، يا ليت نساء العالمين مثالك في الصبر على نزق الأزواج، وفي التسامح والإشفاق، إنما الحكمة في إصلاح الأحوال بالرفق والعقل لا بالتعنت والعناد. (ستار)
الفصل الثاني (صالة قصر الملك، والأميرال جالسا منهمكا في أعمال كتابية)
دي توسكا (يدخل منزعجا) :
لقد حبطت كل أعمالنا ... وضاعت مجهوداتنا بدون ثمرة!
الأميرال (متعجبا في رعب ) :
ما هذا الخبر المزعج؟!
دي توسكا (في خوف وإصرار) :
الحقيقة أن تقال لا أن تكتم، فإذا أنا صرحت لك بما نالنا من الفشل والخيبة فثق بأنها الحقيقة المؤلمة!
الأميرال (يتصنع الهدوء) :
أنا لا أشك في قولك يا كونت، ولكنني بحاجة إلى معرفة سبب هذا الفشل! وكيف فسد ما دبرنا ورسمنا؟!
دي توسكا (يجلس) :
كان من خطتنا أن نوقع النفور والجفاء بين الملك والملكة، حتى لا يجتمع أصدقاء الفريقين حزبا واحدا فيكونوا قوة عظيمة تعترض نجاحنا.
الأميرال (يتذكر) :
وأذكر أننا قررنا أيضا أن نجعل الفريقين يتصادمان، فينالهما معا الضعف والوهن، ويشملهما جميعا الارتباك، فلا يعودون يوفقون للاتحاد، وإذا اتحدوا بعد هذا لا يعتد بهم، بسبب ما نالهم من الضعف.
دي توسكا (في غضب) :
نعم كان هذا رأينا (في يأس)
ولكنني لم أوفق إلى تحقيقه، ولم أنجح إلا في القسم الأول منه، (في تأثر بالغ)
بعد تضحية عظيمة (متذكرا)
رأيت الملك قليل الاهتمام بكل نساء القصر، وبكل ما يختلط به، ولحظت عليه نوعا من الميل المبهم إلى ابنتي كاترين، فأردت أن أجعلها هي الضحية التي أضحيها، والثمن الذي أدفعه لبلوغ غرضي.
الأميرال (في تأثر) :
ثمن باهظ، وضحية عظيمة.
دي توسكا (يقف غاضبا) :
نعم، ولكن مثلي لا يتردد لحظة في تضحية كل شيء للانتقام من الرجل، (يستعيد الذكريات)
رأيت أن الملكة تحب زوجها، وأن الزوج يبادلها هذا الحب، وكلاهما حريص على كرامة الزوجية، فرأيت أن أهدم البيت من أساسه قبل أن أضرب أفراده الضربة القاضية، وقد يسهل الإيقاع بالمخزون المذهول، فهيأت كاتريل ابنتي لهذا الغرض، ودربتها حتى صارت قادرة على العبث بعواطف الملك، ودفعتها إلى هذا السبيل فنجحت، إن الرجل بلغ سن الشيوخ، والقلب في هذا السن إذا عبثت به امرأة بحكمة ومهارة؛ لا يحبها صفقة واحدة، ولكن الحب يجيء ببطء، وبحركة لطيفة تتقوى بدون أن تحس، حتى يبلغ الحب أقصى درجاته، فينفجر القلب انفجارا، ولا يعود العقل والحكمة يقويان على مصادمة العواطف الثائرة.
الأميرال :
نهجت سبيلا قويما، ورسمت خطة مضمونة النجاح، ولكنني لا أزال أكرر أن الضحية كانت عظيمة، وأن الثمن الذي تدفع أعظم من الذي تريد أن تربح!
دي توسكا (في تأثر شديد) :
لا تذكرني دائما بهذا الخطب العظيم، ودعني أمر عليه عرضا في حديثي؛ لأنني أتألم وقلبي يتمزق لشرف ابنتي الذي ضحيت في سبيل مطامعي الوطنية وتحقيق رغباتي.
الأميرال (يربت على كتفيه) :
ثق بأنني أشاركك في مصابك هذا، وفي الألم العظيم الذي أحسه في قلبك.
دي توسكا (يتذكر) :
اسمع يا سيدي تتمة الحديث، أحب الملك كاترين بكل قوى نفسه، وعرفت الملكة الأمر فانزعجت واضطربت، وأرادت أن تعالج قلب زوجها، فراعها ما وجدت فيه من قوة الحب التي غلبته على أمره، وملأت قلبها يأسا أو حزنا، إن ظهور خيانة الزوج صدمة ينخلع لها قلب المرأة وتفقدها الصواب، ولو لم أكن إلى جانب هذه المرأة ربما كانت نجحت في الانتصار على زوجها بسبب ما عرف عنه من رقة العواطف، ومن حبه العظيم لأولاده وزوجته، ولكنني ضللت مساعي الملكة، فلم تشك في نصائحي؛ لأنها تعلم أن مصابي بضياع شرف ابنتي أعظم من مصابها بطيش زوجها، والملك قد يتحول عن حبه فيعود إليها، ولكن الشرف الملوث لا يطهر، والعرض المبتذل لا يصان ولا يعوض منه.
الأميرال (في تأثر) :
نعم يا دي توسكا، الشرف الملوث لا يطهر، والعرض المبتذل لا يعوض منه، صدقت يا أخي صدقت!
دي توسكا (مستكملا) :
فبواسطة المساعي التي سعيت، وبالنصائح المضللة، أمكن لي أن أفرق بين الزوجين، ففصلت بين أنصارهما، ولكن حكمة الملكة وقوة صبرها واحتمالها حالتا دون توفيقي إلى إيجاد العداء والمخاصمة بين الجماعتين، فانسحبت إلى عزلتها وتركت كل الشئون على غارب الملك؛ تركته يتصرف بقلبه وبشئون الملك كيف شاء، بدون معارضة منها ولا من أنصارها، ولو أنها نصحت له لعاداها، ولو هي أظهرت روح المعارضة لسحقها، ولكن سياسة اللين والمسالمة أطاشت السهم الذي سددت، وبددت شيئا من قوة الشرك الذي نصبت للكيد لهما.
الأميرال :
المرأة حكيمة.
دي توسكا (باستخفاف) :
لست أرى رأيك؛ لأنها سقطت في شراكي، ولو كانت حكيمة ما سقطت، إنما المرأة تمتاز بشيء من الوداعة ولطف المعاشرة، تظهران في صورة الحكمة. فلا تنخدع يا صاحبي بمظاهر المرأة، وابحث عن علل ما ترى فتدرك الحقيقة الصادقة.
الأميرال (في تردد) :
لست من علماء النفس يا دي توسكا، ومهنتي تجعلني دائما في معزل عن الناس، فبصفتي أميرال الأسطول تراني دائما على ظهر بارجتي في البحر، أدرس أحوال الكواكب في السماء والعواصف والأنواء والحديد والنار ... لا أكثر من هذا!
دي توسكا :
آه يا صديقي! خمسة أعوام طويلة قضيتها في درس نفس هذه المرأة، ... وفي تهيئة أسباب سقوطها حتى كدت أفوز، فإذا بقوة مجهولة تقاوم مجهوداتي، وتعرقل أعمالي ومشروعاتي (متذكرا)
يا ألله من هول ما أنتقم من هذا الفضولي إذا عرفته!
الأميرال (بدهشة) :
كيف اعترضك هذا الرجل؟ ومن هو؟ وهل هو بمفرده؟ أو واحد من جماعة؟
دي توسكا (مستنكرا) :
كل هذه أسئلة لا أستطيع الجواب عليها؛ لأنني لم أتوفق لمعرفة أي شيء عن هذا الرجل، وكل ما وصلت إلى الشعور به هو ما وضح من فشل تدبيري في حفلة الرقص (بضيق)
ففاز هذا الداهية كل الفوز؛ أطفأ النور وسرق - بمهارة وخفة - كل نوتات الموسيقى ... فتبدل برغم الجميع برنامج الموسيقى، فاستاء الملك ولم يرقص مع كاترين، فانهدم بهذا التغيير أساس حيلتي وطاش سهمي.
الأميرال (متعجبا) :
ما هي العلاقة بين سرقة النوتات وبين عملك؟!
دي توسكا :
الملكة قوية الغيرة على زوجها، ورقص الملك مع ابنتي أمامها كان يحرك في نفسها الغيظ والحقد، فأجد من هذه الحالة النفسية واسطة لحملها على الاتفاق معي للانتقام من زوجها ومن ابنتي (بغيظ شديد)
فظهر الرجل المتنكر بزي الكاردينال وفضح تنكري، فلم أستطع الرقص مع الملكة (بتألم)
ورقص هو معها فأمكنه أن يتغلب على إرادتها الضعيفة، فاستمالها إليه وأمكنه بالدهاء أن يجعلها تنحاز إليه ضدي، فعزمت على قتله؛ لأنه واقف على أسرارنا ووجوده خطر علينا، فحال دون هذا مجيء الملك والمدعوين، وهرب الرجل مني، فلم أتمكن من اللحاق به ولا من معرفة مكانه.
الأميرال :
وهل قابلت الملكة بعد تلك الليلة؟
دي توسكا :
نعم! وهي لا تزال مستسلمة لحبها ولعواطفها نحوي، ولكنها من جهة أخرى لا تزال تعنى بالرجل المتنكر وتعتمد عليه، مع كونها هي الأخرى لا زالت تجهل شخصه ولا تعرف من أمره شيئا.
الأميرال :
وهل يمكن لي أن أقابلها اليوم؟ لا بد أن أبرر مجيئي إلى القصر بمثل هذه الزيارة.
دي توسكا :
انتظر قليلا حتى أستأذن لك (يخرج) .
الأميرال (في خوف لنفسه) :
إن قلبي يكاد ينخلع من الرعب لمجرد ظننا بوجود رجل واحد واقف على نوايانا وأسرارنا، يا ألله من هول ما يصيبنا لو افتضح الأمر.
دي توسكا (داخلا في غضب) :
لقد خرجت اللعينة للتنزه منفردة، وهذه فرصة يجب أن أنتهزها للخلوة بها والتحدث معها في كثير من الشئون، ويجب أن أعجل للانتهاء من كل هذه الأمور صفقة واحدة، فما عدت أحتمل الصبر، وبت أخشى الخيبة والفشل (يهم بالخروج) .
الأميرال (لاحقا بالكونت) :
بادر إذن يا صاحبي للحاق بها، وكن حريصا في حديثك، فقد تكون تنبهت في أمرك.
دي توسكا :
اعتمد علي فما أنا بالرجل الساذج (يخرج) .
المنظر الثاني (بنفيه وسط الأشجار في الغابة)
بنفيه :
لا شيء في الوجود يتعذر على صاحب الإرادة القوية والعقل الناضج، وكل شيء يتحقق البلوغ إليه بالتفكير فيه أولا ثم برسم السبيل المؤدي إليه، ثم بتنفيذ ما قرر العقل، فإذا لم يصل الإنسان إلى مراده وحبط في عمله لا يكون هذا دليلا على التعذر، وإنما على خطأ الإنسان أو على الارتباك في تنفيذ ما رسم العقل، أنا أحب الملكة وأريد أن أصل إلى قلبها، وهو موصد في وجهي لأنها تحب دي توسكا، هذا هو كل موضوع البحث، فهل يمكن أن أبلغ إلى غرضي وأحققه؟! إنه لأمر ممكن لأنه لا شيء متعذر، ماذا يجب أن أعمل لأنجح؟! يجب أن أستأصل من نفسها حب دي توسكا ليتسع المجال لي، كيف يمكن هذا والحب والكراهة لا يكونان بإرادة الإنسان المطلقة؟! حيث إن الحب يجيء لاعتقاد المحب بوجود صفات وخلال في شخص من يحب يعجب بها وتجذبه إليه ، فالوصول إلى العكس يقتضي وجود صفات تضاد الأولى؛ تبغضه وتنفره، فإذا ثبت للملكة أن دي توسكا خائن، وأنه لا يحبها، وأنه ينافق ويسلم أسرارها وكتبها إلى خصومها لتكون سلاحا في أيديهم يفضحونها به عند الوقت المناسب، فإنها بدون شك تنفر منه، وينقلب حبها إياه بغضا وكراهة. وكيف أحول قلبها إلى حبي أنا؟! أخدمها بإخلاص لا أدل عليه وإنما أجعلها تحسه وتدركه، وألفت نظرها إلي بأحوال شاذة وسلوك غريب غير عادي ... أنقذها من أخطار أهيئها بنفسي لأنقذها منها فتكون مدينة لي بحياتها وبشرفها، ولا تتردد بعد ذلك في الاستسلام إلى عاطفة الحب، إن قلبي لا يقوى على رؤيتها في خطر ... ولكن ما حيلتي ما دمت لا لأضمن الاختصاص بقلبها إلا بعد إنقاذها من خطر داهم (تدخل الملكة، راكبة فرستها، تستغيث وتصرخ) .
الملكة (لفرستها) :
يا للمعونة! يا للمعونة! يا حارس الغابة ... ويلاه ماذا أصاب الفرس؟!
بنفيه (مختبئا) :
أرى المادة التي حقنت بها الفرس بدأ يظهر مفعولها!
الملكة (تستغيث) :
يا حارس الغابة، يا للمعونة! الفرس جنت، ألا من مغيث رباه! رباه إنها منطلقة إلى النهر!
بنفيه (يدخل) :
لقد آن أن أنقذها فقد بلغت إلى حال الخطر المحقق (يطلق النار على فرس الملكة، فيسقط ويسرع إلى الملكة الواقعة على الأرض)
لا تراعي يا مولاتي ولا تخافي فقد زال الخطر.
الملكة (تنظر إليه) :
الحمد لله، الحمد لله، فقد كدت أموت من الرعب، شكرا لك يا سيدي فقد أنقذت حياتي من الموت المحقق.
بنفيه :
لا تشكريني على واجب قمت به يا مولاتي، بل اشكري الله الذي جاء بي في طريقك في مثل هذا الوقت.
الملكة :
نعم أشكر الله (تتسمع لصوته متذكرة)
من أرى؟ ... أذكر أنني سمعت هذا الصوت قبل الآن!
بنفيه (في خجل مصطنع) :
نعم، حصلت على هذا الشرف في قصر الملك، في حفلة الرقص.
الملكة (تتذكر) :
آه يا سيدي، نعم، أنت الذي كنت متنكرا بزي الكاردينال، ما أضعف ذاكرتي! أنت صاحب القيثارة والقصائد، أنت دائما في طريقي، وأنا دائما أكون مدينة لك بالشكر.
بنفيه (برقة ) :
أنا من عبيد الملكة، وقلبي وحياتي وشرفي ... كلها أضحيها في خدمة ذات الجلالة.
الملكة :
هذه الرقة في الحديث لا تمنع أن أكون مدينة لك بحياتي، فاطلب مني ما تشاء. تعرف أنني لست ممن يجحدن المعروف.
بنفيه :
بل أطلب إلى الله أن يحفظ مولاتي من كل شر.
الملكة (في تأثر) :
نعم يا سيدي، سله كثيرا من أجلي؛ فإنني بحاجة إلى من يسأله عني.
بنفيه (متعجبا) :
ولم هذا؟! ألا تسألين بنفسك؟! ما أنت بحاجة إلي؟! إن الله يصغي لكل من يسأله بحرارة!
الملكة :
ولكنني غير حقيقة بالتضرع إليه؛ لأنني أشعر بتوبيخ ضميري على خطيئات لا ترضيه!
بنفيه :
تذكري يا مولاتي أنني أمثل دور الكاردينال تمثيلا، وما أنا بالكاهن الصادق الذي يصح الاعتراف له بالخطايا، اذكري هذا ولا تستسلمي للضعف الذي انتابك بعد هذا الاضطراب.
الملكة :
أنا ضعيفة حقيقة، ولكن الضعف الذي تظنه طرأ الآن إنما هو مستمر دائما أحسه في نفسي، فأنا بحاجة إلى قوة من الغير أستعين بها على مقاومة أحوال الحياة المتقلبة، ولكن هذا الذي أنشد تمنح لي منه بضاعة مزيفة تضر ولا تنفع!
بنفيه :
أنا أعلم من أحوال مولاتي ما لا تعلم هي عن نفسها! وإنني لواقف على أسرارها كلها، وعلى ما يخفون منها وما يريدون بها!
الملكة :
نعم. نعم أنت صادق؛ لأنك ذكرت لي شيئا من هذه الأسرار في حفلة الرقص، ولكنني كنت مرتابة في أمرك؛ خصوصا بعد أن رفضت أن تعرفني بحقيقة شخصك!
بنفيه :
لي العذر في هذا التنكر، فإنك ضعيفة الإرادة وواقعة تحت تأثير دي توسكا صديقك، وقد رأيت بنفسك كيف كان يشاكسني ويطلب مصادمتي بعد أن رآني إلى جانبك نتحدث؛ لهذا كنت أخشى أن يعرف منك حقيقة حالي واسمي في لحظة من لحظات الضعف، ولكن هل ما تزال مولاتي تشك في إخلاصي لها؟!
الملكة :
معاذ الله! هل تطمع مني بأكثر من حياتي، إنني مدينة لك بها وأدفع لك ثمنها ما تشاء!
بنفيه :
إن شعرة واحدة من رأس الملكة تفدى بكل الأرواح والمهج، فصدقي بأن تنكري عنك واجب، إذا خالفته كنت سببا في الإضرار بشخصك المبجل المحبوب، ولولا وثوقي من هذا لجثوت عند قدميك أذكر هذا الاسم الحقير.
الملكة (متعجبة) :
وكيف يكون تنكرك لفائدتي يا سيدي؟! أنا لا أدرك ما ترمي إليه!
بنفيه :
إن تنكري يمكنني من بقاء خصوم الملكة الذين يكيدون لها في غفلة عني وعن سهري على سلامتك، وعن اقتفائي خطواتهم في كل ما يقدمون عليه!
الملكة (فرحة) :
إذن أنت ساهر على سلامتي من خصومي!
بنفيه :
بل إنني ضنين بلحظة من حياتي، تضيع في غير هذا الأمر!
الملكة :
أشكر لك هذا الشعور يا سيدي.
بنفيه :
هل تسمح لي مولاتي بأن أسألها عن أمر تهمني معرفته.
الملكة :
نعم.
بنفيه (في خبث) :
أين يا مولاتي الخاتم، الذي أهداك الملك إياه، يوم عدت من سياحتك في الشرق؟!
الملكة (تتذكر) :
الخاتم (متعجبة)
وهل وصل إلى علمك أيضا أمر الخاتم؟!
بنفيه :
نعم. وبودي أن تكوني صريحة في الجواب؛ لأنني أريد أن أدفع عنك خطرا جسيما، ربما يصيبك بسبب هذا الخاتم!
الملكة (بلا مبالاة) :
فقد مني منذ شهور.
بنفيه (بمكر) :
إنك لا تزالين في شك من إخلاصي لك!
الملكة (في تردد) :
لا، لا. أنا واثقة منك كل الثقة، ولكن!
بنفيه (في جرأة) :
إذن دعيني أوفر عليك مشقة الإجابة على هذا السؤال الخطير، وأجيب عليه بدلا منك، الخاتم يا مولاتي أهدي إلى دي توسكا، وحين أدركت خطأك بإهداء الخاتم إليه عدت فطلبت استرداده فاعتذر لك بأنه فقد، وجاء بخاتم يشبهه كل الشبه ليحل في نظر الملك مكان الخاتم الأول!
الملكة (في خوف وتعجب) :
عجيب! إنك واقف على كل شيء من أسرارنا (في حزم)
يا سيدي إنك ترعبني بهذه المقدرة!
بنفيه :
والذي تجهلين من أمر الخاتم هو الجزء الأعظم خطرا في المسألة، الخاتم يا مولاتي أرسل إلى دوق هيس ويمر، ولا يزال موجودا عنده!
الملكة (في اندهاش) :
دوق هيس ويمر ... ويلاه ويلاه. ماذا أسمع!
بنفيه :
هل تعرفين ماذا يريد الدوق من الحصول على الخاتم؟!
الملكة (في رعب) :
رباه! أي سهم بقي في كنانة الدهر، ولم يصوبه إلى فؤادي؟!
بنفيه (في ثقة يخرج ورقة من جيبه) :
وهذه يا مولاتي صورة الخطاب الذي بعث به إلى دي توسكا تهدين إليه الخاتم، مأخوذة بالفوتوغراف عن الكتاب الأصلي. وهو بخطك وتوقيعك!
الملكة (تشيح بوجهها جانبا) :
رحمة رحمة يا سيدي!
بنفيه :
والدوق قد حصل على الصورة الأصلية وأبقاها عنده مع الخاتم ليقدمها إلى الملك في الوقت المناسب، أي إنه يريد أن يهديك بهذا السلاح الماضي، ليحصل منك على ما يطمع، فإن امتنعت ينتقم منك بلا شفقة، أي إنه يرغمك على الانتحار فرارا من العار!
الملكة (تخفي وجهها بيديها) :
رباه. رباه. ماذا فعلت وماذا أسمع؟!
بنفيه :
تسمعين الحقيقة المؤلمة، ولكنها حقيقة يا مولاتي.
الملكة (في استرحام) :
سيدي، رحماك رحماك، خذ بناصري، يلوح لي أنك إنسان لا كسائر الناس، وما رأيت من عملك إلى الآن إلا ما يدل على مقدرة فوق العادة، ولا أظنك تطلعني على هذه الأسرار لإزعاجي، أنت الذي أنقذت حياتي، أنت الرجل القوي لا تريد إزعاجي أنا المرأة الضعيفة، أنا الملكة التعسة الشقية، ولا تريد محاسبتي على ضعفي وعلى حب دي توسكا، فأنت تريد إذن إنقاذ شرفي كما أنقذت حياتي، أليس هذا صحيحا يا سيدي؟! طمئن قلبي بكلمة منك. رد إلي نفسي المسكينة والسلام!
بنفيه (مشفقا عليها) :
نعم يا مولاتي أردت أن أنقذك، (في حزم)
وإنما بشرط واحد لا مناص منه!
الملكة (في توسل) :
تكلم. إنني لا أرفض ما تسأل، ماذا تطلب؟! كل ثمن أدفعه ما دام في استطاعتي!
بنفيه :
أشترط عليك أن لا تعودي لمثل هذا الخطأ، حتى نصلح الماضي ونخفي عوراته، أشترط عليك أن لا تكتبي أبدا مثل هذه الخطابات. هل تعدين؟!
الملكة (فرحة) :
نعم يا سيدي بدون تردد!
بنفيه (في حزم) :
ولا لدي توسكا!
الملكة (في خوف) :
ولا لدي توسكا!
بنفيه :
إذن ثقي بأنني أرد لك هذا الخاتم، وكل رسائلك التي تخافين من ظهورها، فإياك أن تبوحي بهذا السر الخطير، فإن كلمة منك بخصوصه لأي إنسان تعرقل عملي وتدنيك من الانتحار.
الملكة :
ثق بوعدي ولا تخف!
بنفيه :
أخشى أن يعاودك الضعف؟!
الملكة :
إن تصوري ما يتهددني من الخطر يقويني على هذا الضعف.
بنفيه :
إذن عودي إلى قصرك، وإياك أن يعلم أحد بأمر هذه المقابلة.
الملكة :
متى ترد إلي الخاتم والرسائل؟!
بنفيه :
يوم أحصل عليها وأجيء بها من عند الدوق.
الملكة :
أنت عناية الله بعثها لإنقاذي، فشكرا لله، ولكن ما الذي يدفعك يا سيدي للمخاطرة بنفسك من أجلي؟! وأنت تعلم أن الدوق جبار من الجبابرة العظام، وتعلم أنني ملكة ضعيفة، لا حول لي ولا قوة!
بنفيه (في حنان) :
يدفعني إلى الأخذ بيدك وانتشالك من الهوة التي سقطت فيها دافع قوي لا أعرف كيف أسميه؛ فالأمر الذي يسبب ضعفك أمام دي توسكا هو بعينه السبب الذي يقويني لإنقاذك!
الملكة (فرحة) :
فهمت فهمت. أنت تحبني! (ستار)
الفصل الثالث (خمارة في لوكاندة، يظهر الدوق يحتسي الخمر بشراهة)
ماري :
جاك ... من هذا الرجل الذي لا يشفق على كئوس الخمر؟!
جاك (ناظرا إليه متعجبا) :
ألا تعرفينه يا ماري؟!
ماري (في استنكار) :
ما رأيته غير هذه الليلة (الدوق يشرب بكثرة مفرطة)
انظر انظر كيف يفرغ الخمر في جوفه؟ إنه يشرب بلا وعي ولا حذر، كأنه يريد أن ينتحر!
جاك (يلتفت يمينا ويسارا في حذر) :
هذا عظيم من أكبر عظماء أوروبا يا ماري!
ماري (مستنكرة) :
لعلك تمزح! وهل هكذا يفعل العظماء؟! يقتلون أنفسهم بالخمر؟!
جاك :
لكل إنسان عيوب خاصة، ومكان ضعف معين، فمن عيوب هذا الرجل الاستهانة بقيود الواجبات والعادات، والإدمان على الخمر، وحب النساء!
ماري (في غضب) :
وهل تعد حب النساء من العيوب يا جاك؟! سامحك الله، وماذا تفعل أنت؟ ألست تحبني؟!
جاك (مستدركا) :
أحبك يا ماري، ولكن حب هذا الدوق للمرأة لا يماثل حب سائر الرجال إياها!
ماري (في تعجب) :
وهل هو دوق؟!
جاك (في قوة) :
هو دوق، ومن أرفع البيوت عمادا وأعظمهم جاها!
ماري (تنظر في تعجيب) :
وكيف يحب هذا العظيم السكير؟!
جاك :
يحبها لأول لحظة يراها، وينساها لأول خطوة يبعد، ولا يفكر في النساء إلا وهو في حال السكر، ويندر جدا أن لا يكون إلا سكرانا ثملا!
ماري :
غريب أمر هذا الإنسان، وكيف ترضى عشيقته بهذه التصرفات؟! وكيف ترتبط به؟!
جاك :
أراك لم تدركي ما أريد؟! ليس الدوق من الذين يرتبطون مع امرأة معينة بحب ثابت أو بقيد دائم، ورأيه في المرأة لا يسرك أن تسمعيه، فالرجل يطلب الشراب يملأ به جوفه، ولا يكف إلا إذا فاضت الخمر من فمه، وطاش عقله ونظره، فيطلب المرأة - وكل امرأة يصادفها ترضيه - فيزعجها بأحواله الشاذة وسماجته، ولكنه يرضيها بسخائه، فإذا فارقها لا يعود يذكرها، أو يذكر أنه عرفها، وكل نساء الشوارع والحانات يعرفن له هذه الفضيلة، ويستفدن منها كل الفائدة، فإنه يحبهن جميعا، ولا يعرفهن أبدا، ولا يختار ولا يفكر في الاختيار، ولو صادفه دب في ثوب امرأة لرضي به وجلس إليه يغازله، ويردد ما حفظ من العبارات لملاطفة المرأة!
ماري (مستنكرة) :
كان الأولى بالدوق أن يشرب من دن الخمر رأسا، بدلا من أن يتعب نفسه في تحويل الدن إلى جوفه بواسطة الكئوس الصغيرة (تدخل سيدة جميلة، وتجلس على إحدى الموائد، فينظر إليها الدوق) .
جاك (يلحظ الموقف) :
انظري يا ماري كيف يحملق إلى السيدة التي جلست إلى تلك المائدة، أنا أراهن على أنها استلفتت نظره، وعلى أنه يفكر الآن في الانتقال إلى مائدتها!
ماري (ترقب المشهد باهتمام) :
السيدة جميلة جدا يا جاك (في تهديد)
هل تعرفها؟!
جاك (في تردد) :
ما رأيتها أبدا قبل هذه اللحظة، ولكن مظهرها وثيابها تشير إلى أنها نبيلة وشريفة، انظري، إن المقاعد التي حول المائدة محجوزة، إن المرأة على موعد مع خليل أو مع قريب!
ماري (في لهفة) :
انظر يا جاك، انظر إلى الدوق، ها هو يتقدم إلى ناحيتها، لعله يعرفها!
جاك :
أنا واثق كل الثقة من أنه لا يعرفها ولا رآها قبل الآن!
ماري (في استغراب) :
وكيف يتعرف إليها؟! وكيف يسمح لنفسه بالجلوس على مائدتها؟!
جاك :
الرجل سكران، وسيختلق عذرا أو حيلة للجلوس، (الدوق يتحرك ويصل إلى مائدة السيدة)
انظري. ها هو يجلس بدون تردد ولا تكلف، كأنه لا يشعر بوجودها!
السيدة (مستغربة من جرأة الدوق) :
تنبه يا سيدي. إن هذه المقاعد محجوزة لي ولمن معي، ولا يلبث أصحابها أن يجيئوا!
الدوق (بلا مبالاة) :
محجوزة يا سيدتي!
السيدة :
نعم محجوزة لنا من قبل!
الدوق (يترنح في جلسته) :
ولكنني في حالة تعب شديد، وقد اعتراني دوار في الرأس وألم في المعدة وارتخاء في المفاصل، فهلا تسمح لي السيدة بالراحة بضع دقائق حتى تهدأ آلامي!
السيدة :
إن اعتذارك يا سيدي يرغمني على قبول ما تبديه، فالإنسانية تقضي بهذا (يدخل الخادم) .
الدوق (للخادم) :
زجاجة شمبانيا
السيدة (في استغراب) :
ما هذا الفضول يا سيدي؟! إن تصرفك لا يتفق مع ما أبديت من العذر! وأنا لا أسمح لك بالبقاء!
الدوق (في جرأة) :
لنفرض أنك لا تريدين بقائي، فكيف ترغمينني على ترك هذا المقعد؟!
السيدة (في حزم) :
أطلب إليك الابتعاد حالا!
الدوق (في هدوء) :
وإذا فرض وكنت سمجا ولم أطع هذا الأمر الذي لا يتفق مع إرادتي وسروري!
السيدة :
أدعو الخادم فيطردك من هنا (بتودد وهدوء)
ولكنك لا تلجئني طبعا إلى هذه الغلظة!
الدوق (فرحا) :
طبعا طبعا؛ لأنني لا أريد أن أطرد، ولا أريد أن تتهم سيدة مثلك بالغلظة، خصوصا مع رجل مثلي يدعى دوق هيس ويمر!
السيدة (في اندهاش وفرح) :
دوق هيس ويمر!
الدوق (في غرور المنتصر) :
نعم يا سيدتي!
السيدة (تمد يدها بالسلام) :
لي الشرف التام بالتعرف إلى سموك الكريم، آه يا سيدي كم يكون زوجي سعيدا حين يراك، إنه مدين لصاحبة السمو الدوقة والدتكم بمنة عظيمة حفظت بها شرفه وحياته، وهو أبدا يذكر اسم هيس ويمر مشفوعا بالدعاء لأهل هذا البيت (يدخل الخادم بزجاجة الشمبانيا) .
جاك (يترقب المشهد) :
هل رأيت يا ماري كيف أنه تعرف إليها بلحظة، ها هما بدآ يشربان نخب بعضهما!
ماري (ترقب المشهد باهتمام) :
انظر، انظر. ها هو يضغط على يدها ويداعبها بقدمه!
الدوق (في غزل) :
إن جمالك فاتن جذاب!
السيدة (في رقة) :
بل إن لطف مولاي هو الذي يحمله على التنازل للنظر إلي!
الدوق (يقترب منها) :
بل إن هذا الحسن يجذب إليه عقلي وقلبي!
السيدة (تقترب هي أيضا) :
إنك تخجلني يا مولاي بهذا التعطف الذي لا أستحق!
الدوق (يقترب أكثر) :
أنت زهرة فاتنات باريس وعروس أحلام الشباب، بل أنت منيرفا إلهة الجمال ... (يقدم إليها الكأس)
الخمر تذهب إلى الرأس، ولكن الكأس التي أتناول من يدك تخطئ طريق الرأس وتذهب إلى القلب!
السيدة (في دلال) :
مولاي، إني سعيدة بهذه اللحظة التي أقضيها إلى جانبك ... وبودي لو تطول مدى الدهر!
الدوق (في خبث ودهاء) :
وإنني لأتوق إلى ما بعد هذه اللحظة ... وبودي لو يكون الاجتماع في غير هذا المكان المزدحم بالجماهير!
السيدة (تبتعد عنه فجأة) :
ها جاء زوجي (يدخل بنفيه متنكرا) .
بنفيه (معتذرا) :
لقد أبطأت عليك يا تيريز، أعذريني فإن ... (ينظر إلى الدوق مستغربا جلوسه على مائدة زوجته) .
السيدة (تقاطعه) :
اسمح لي أن أقدمك إلى السيد العظيم الذي غمرتك والدته بمنتها، والذي تذكر اسم عائلته دائما بالدعاء والحمد!
بنفيه (مقاطعا فرحا) :
لعله مولاي الدوق هيس ويمر!
السيدة (في سعادة) :
نعم. هو بعينه ذلك السيد العظيم!
بنفيه (مستبشرا) :
ليلة مباركة، وشرف ما كنت أؤمله، وسعادة ما حلمت بها، ما أسعدك يا زوجي بالمكث مع السيد العظيم (يدخل الخادم)
زجاجات من الشمبانيا وكأس لي.
الدوق (ينظر إلى الزوجة) :
سروري عظيم بمعرفة السيدة (يملأ الكأس) .
بنفيه (غير مهتم بنظرات الدوق لزوجته) :
أسيرة منتكم ... السيدة دي ترامبل!
الدوق (في نشوة) :
اسم سأذكره ما حييت، وأذكر هذه الليلة الحافلة.
بنفيه :
هي ليلة رأس السنة الجديدة يا مولاي، وهي فأل حسن يجعلني أومل بأن العام الجديد يكون عام خيرات وبركات لمناسبة حظوتنا بمعرفة شخصك الكريم ... (يحضر الخادم)
مولاي. بقيت دقيقة واحدة تودع أثرها العام الحاضر ونستقبل العام الجديد (تدق الساعة الثانية عشرة)
فاسمح لنا أن نشرب نخب سموكم في هذه اللحظة ليكون عامنا الجديد مباركا.
الدوق (ينظر إلى المرأة وهو يترنح) :
وأنا أقترح أن نشرب الكأس الثانية ... نخب زوجتك الجميلة السيدة ... (يترنح أكثر من السكر) .
بنفيه :
دي ترامبل (يتظاهر بالسكر أيضا) .
الدوق (متذكرا) :
نعم السيدة دي ... دي ترامبل (يكاد أن يسقط) .
بنفيه (يترنح أكثر ) :
يلوح لي أنني ثملت من الخمر، وما عدت أستطيع الوقوف (يكاد أن يسقط) .
السيدة (تتظاهر بالشعور بالإغماء) :
وأنا أشعر بدوار شديد في رأسي، وأحس المكان يرقص بمن فيه (تتظاهر بالسقوط) .
الدوق (يسندها فرحا) :
استندي على ذراعي يا سيدتي العزيزة، فأنا لا أشعر بشيء!
بنفيه (يمسك بالدوق) :
وأنا أستند على ذراعك الآخر يا مولاي، فإن الأرض تضطرب تحت قدمي (يخرجون جميعا مستندين بعضهم على بعض) .
المنظر الثاني (منزل)
خادم (غاضبا) :
ما هذه الحياة؟! أقضي كل نهاري، والشطر الأعظم من ليلي في الخدمة، بدون أن أجد لحظة قصيرة للتخلص من هذه الأعمال المتعبة، حتى في ليالي الأعياد، وفي ليلة رأس السنة الجديدة، إن سيدتي ستجيء كعادتها متأخرة وثملة من الخمر، فلا أستطيع مبارحة المنزل إلا بعد انقضاء أوقات النزهة، وا أسفاه! كنت أريد أن أسر ببدلتي الجديدة، لقد دفعت ثمنها غاليا، وأعددتها لهذه الليلة لأتنزه بها وأنا مستند على ذراع حبيبتي كلايا، ويلاه ليت هذه السيدة تجيء فأنصرف إلى موعد كلايا (طرق بالباب)
يا ترى من الطارق؟ (يذهب ويفتح الباب، فيدخل الدوق والمرأة ممسكين ببنفيه ثملا، فيأخذ مكان المرأة) .
السيدة (داخلة) :
من هنا يا مولاي، رويدا رويدا، فإن جسمه ثقيل (يدخل الدوق والخادم يحملان بنفيه) .
الدوق (فرحا بعد أن وضع بنفيه) :
لقد خلا لنا الجو!
السيدة (بدلال) :
انتظر يا مولاي حتى أصرف الخادم، فقد ينقل لزوجي ما يرى ويسمع (للخادم)
هل انتهيت من عملك (يشير برأسه نعم)
لقد جئت مسرعة حتى لا أحرمك من النزهة والرياضة في هذه الليلة الزاهرة (تخرج مالا وتعطيه إياه)
خذ هذا الريال أنفقه على سهرتك ... عام سعيد.
الخادم (في فرح) :
أعاده الله على مولاتي بالخير، هل تأذنين لي بالانصراف؟!
السيدة :
نعم عن طيب خاطر، اذهب وكن عاقلا ولا تشرب كثيرا، واحترس من السكارى ومن طيش المخمورين!
الخادم :
سأعمل بنصيحة سيدتي (يخرج) .
السيدة (تغلق الباب وراء الخادم وتخلع ثيابها وهي تقترب من الدوق) :
لقد شرفت منزلنا يا سيدي الدوق، كم أنا سعيدة بهذه الخلوة، كم أسر يا مولاي من الرجال الأقوياء، فإن الخمر لا تزيدهم إلا ثباتا وتعقلا ولطفا!
الدوق (ناظرا إلى جسدها) :
أنا أراهن من يشاء على شرب عشرين زجاجة من الشمبانيا بعد الذي شربت.
السيدة :
ولكن زوجي ضعيف، يسكر من لا شيء، والقدر القليل من الخمر يذهب بصوابه، فلا أهنأ معه في حفلة ولا في عيد (تقترب منه بدلال ممسكة معطفه)
هل يريد مولاي الدوق أن يخلع معطفه؟!
الدوق (يساعدها على خلع المعطف) :
نعم، وأريد أن أخلع ثيابي أيضا.
السيدة (تملأ له الكأس وتضع فيه شيئا) :
ما هذه الرأس التي لا تفقد صوابها (لنفسها)
لا أظنه يقوى على هذا المخدر (للدوق)
ليشرب مولاي هذه الكأس نخب ليلتنا الزاهرة بوجوده.
الدوق (يأخذ منها الكأس ويصبه في جوفه صبا) :
سيبقى ذكر هذه الليلة في ذاكرتي إلى الأبد (ينظر إلى جسدها)
فإن جمالك الفتان ليس مما يزول تأثيره من القلب ... (يبدأ في الترنح)
ولا صورته من الذهن، أنا أحبك يا سيدة ... يا سيدة! (يكاد أن يسقط من تأثير المخدر) .
السيدة :
ترامبلان.
الدوق :
ترامبلان (يشعر بدوار ويتلعثم في الكلام) ... ترام ... بلان ... اسم لطيف ... أين أن ... ت ... أنا ما عدت ... أراك ... ما هذا الدوار؟ رأسي! رأس ... ي (يسقط على الأرض) .
بنفيه (يفيق من إغمائه المصطنع) :
أحسنت يا جوزيفين في تمثيل هذا الدور!
السيدة :
كنت أخشى يا سيدي أن لا يؤثر فيه المخدر كما لم يؤثر فيه السكر!
بنفيه (يتفحص الدوق ويتأكد من إغمائه) :
الرجل قوي الجسم ومعتاد الشراب، أحسنت في إعطائه المخدر وإلا لأفلت من يدي، أحضري السلة الكبيرة (تذهب لإحضار السلة فيقول لنفسه)
المرأة لا تؤتمن على السر، ولو كانت عاشقة فمن الحكمة أن يكتفى بها كآلة، وأن يتقى بجهلها شر الوشاية والخيانة، المرأة ضعيفة، وأضعف منها من يركن إليها، (تدخل جوزيفين ومعها السلة)
جوزيفين. تعالي إلى جانبي، فإنني بحاجة إلى محادثة قصيرة، تعالي أيتها الجميلة.
السيدة :
كل الناس يعجبون بهذا الجمال ويؤثر فيهم إلا أنت يا بنفيه ، فإن قلبك كالصخرة، لا يحس ولا يشفق على المرأة إذا أحبتك!
بنفيه (بصوت رقيق) :
وهل تحبينني حقيقة يا جوزيفين؟!
السيدة (في حنان) :
هل أنت في شك من هذا؟! أبعد كل الذي رأيت تشك في حبي إياك؟! جربني يا بنفيه لتتحقق من صدق قولي، فإن قوة الحب الذي أشعر به تجعلني أضحي حياتي إطاعة لك، حيث تشاء وكيف تريد!
بنفيه (بخبث) :
أنت جميلة أيتها الفتاة (يبتعد عنها قليلا)
ولكن الذي أحبه في المرأة ليس هو الجمال المغري، ولا المحاسن الجذابة، أحب فيها قلبها إذا كان لها قلب، وأحب في القلب الإخلاص، فهل أنت مخلصة لي؟!
السيدة (بعتاب) :
ماذا يفيد القول؟! وهل مثلك يقنع من مثلي بالكلام والوعود والعهود، دع الحوادث تظهر لك ما تسأل عنه!
بنفيه :
يا جوزيفين. لقد شاركتك في أمر أضن على الرجال بمشاركتي فيه، وأطلعتك على سر أخشى أن تبوحي به، نعم أنت تحبينني، ولكن المرأة ضعيفة وغير حريصة، فأخشى أن يهتدي البوليس بواسطتك إلى سر هذه الحادثة فينتصر علي ويعرقل أعمالي، ولقد كنت إلى هذه اللحظة أمزح معه وأسخر به، فأنا لا أشك في إخلاصك وأمانتك، ولكنني لا أركن إلى المرأة ولا أثق بها للأسباب التي ذكرت ... ضعفها ... وعدم حرصها ... وإليك الدليل؛ ما اشترك رجل وامرأة في حادثة، إلا وكانت المرأة سببا يرشد العدالة إلى شريكها.
السيدة (في صدق) :
صدقني يا بنفيه، إنني أوثر الموت على أن يصل إليك مكروه!
بنفيه (في حنان) :
قد يصدق ما تقولين، ولكن ذلك رأيي ولا أحيد عنه!
السيدة (متعجبة) :
وماذا تريد أن تعمل؟! ولماذا أشركتني في الأمر ما دمت لا تثق بي؟!
بنفيه :
أشركتك في الأمر لأن المرأة هي الشرك الذي أصيد به هذا الدوق الفاجر، وأما منع الخطر فإنني سأعتمد فيه على إخلاصك وعلى حبك إن كنت تحبينن!
السيدة (في إصرار) :
بنفيه، لا تتردد فيما تريد أن تفعل بي، ها أنا ذا بين يديك، مرني أطعك، أو اقتلني إذا شئت، فإن القبر يضمن لك كتماني هذا السر!
بنفيه (في ود وحنان) :
لا حاجة لي بقتلك يا جوزيفين الجميلة؛ فإنني لم أتمتع بعد بهذا الحسن النادر، وكل ما أريده منك أن تثبتي لي إخلاصك بتضحية أيام من حياتك تقضينها في السجن الذي أختاره لك!
السيدة (مندهشة) :
في السجن ... في السجن! هل تريد أن تلقيني في السجن؟! ماذا تطلب إلي يا بنفيه!
بنفيه :
أطلب إليك أن تتذكري أنني أحبك، وأن هذا الحبيب يريد منك أن تطيعيه، يريد منك أن تغادري هذا المنزل، وأن تسجني نفسك في المكان الذي يختاره لك، إلى أن يضلل البوليس ويغتنم ما يطمع به، ثم يعود إليك ليختطفك من باريس ويذهب بك إلى حيث تنعمين بالحب.
السيدة (في خوف وتردد) :
ألست تخدعني يا بنفيه؟!
بنفيه (في ثقة) :
هبي أنني أخدعك، هل ترفضين أن أخدعك؟! ألا تريدين أن تطيعي إرادتي؟! أنا لا أرضى إلا أن تكون المرأة التي أحب طوع إشارتي، مجردة من كل إرادة، لا تفكر إلا برأسي، ولا تنطق إلا بلساني، ولا تعمل إلا ما أريد وأقضي، أريد أن تفني ذاتية المرأة في حبها، وأن يكون معنى الحب الإخلاص، هنالك أصدق أن المرأة تحب، وربما أسمح لقلبي بحبها، فهل تريدين أن تكوني تلك المرأة؟! هل تريدين أن أحبك؟!
السيدة (كالحالمة) :
نعم ...
بنفيه :
وهل تريدين أن تضحي كل شيء في سبيل مرضاتي؟!
السيدة :
نعم ...
بنفيه (يناولها كأس الدوق الذي به المخدر) :
إذن خذي شيئا من المخدر الذي شرب منه الدوق، ودعيني أفعل بك ما أشاء.
السيدة (مستسلمة) :
لا بد إذن من هذه التضحية!
بنفيه (بإصرار) :
نعم ...
السيدة :
هل تثق بإخلاصي لك بعد هذه التجربة؟!
بنفيه :
ربما ...
السيدة :
إذن أفعل عن طيب خاطر (تشرب المخدر) .
بنفيه :
أشكر لك الثقة بي يا جوزيفين، ستنامين نوما عميقا، ثم تستيقظين في غرفة أعددتها لإقامتك إلى أن يزول الخطر، يومين أو أكثر، فكوني مطمئنة واعتمدي علي كل الاعتماد
السيدة :
أنا أحبك وكفى، نعم أحبك يا بنفيه كل الحب ... أين أنت (يغشى عليها) .
بنفيه (ينظر إلى جسد الدوق النائم) :
بارك الله في العلم، فقد هذبت به وسائل الانتقام والكيد واللصوصية، فالعلم يمكن أن يؤدي إلى الخير ، كما يمكن أن يكون عدة للشر (يخرج إبرة طبية ويوغز بها جسد الدوق)
هذه الإبرة الحقيرة ستؤثر في كل هذا الجسم القوي، وتجعله في حالة شلل وقتي يزول بزوال تأثير هذه المادة، فبهذه الإبرة الحقيرة أصل إلى أوراق الملكة وأنقذها من الخطر ومن حب دي توسكا، وأفتح بابا إلى قلبها (يفيق الدوق) .
الدوق (ينظر حوله) :
ما هذا؟! أين أنا؟! ما لجسمي لا يطاوعني على الحركة؟! (يرى بنفيه) .
بنفيه (يربت على كتفه) :
تنبه يا سيدي الدوق، فإن لي معك حديثا.
الدوق (يحاول أن يتذكر) :
من أنت؟! وما لجسمي لا يتحرك؟!
بنفيه :
أنا خليل المرأة التي كنت تغازلها، وجسمك لا يتحرك لأنني أردت أن أوقف هذه الحركة، إلى أن نتفق على إعادتها، أو على إيقاف حركة الرأس أيضا!
الدوق (ينظر حوله) :
وأين هي السيدة؟!
بنفيه (مبتسما) :
لا تزال تذكر السيدة، انظر، ها هي إلى جانبك لا حركة بها!
الدوق (ينظر إليها في رعب) :
هل قتلتها؟!
بنفيه (في إصرار وحزم) :
هذا لا يعنيك، تنبه جيدا وأجبني على ما أسأل عنه، واحذر أن تخونك الذاكرة، فإن خانتك أو إذا حاولت أن تكذب فإنني أقتلك لا محالة!
الدوق (يزداد رعبا) :
تقتلني! ما هذه الرؤيا المزعجة؟ أفي يقظة أنا؟! لا شك أنني أحلم (يضربه بنفيه على رأسه)
مهلا مهلا لقد ألمتني.
بنفيه :
تيقظ لسؤالي وأجب بسرعة، أين وضعت خطابات الملكة ناتالي، وأين خبأت خاتمها؟
الدوق (مبهوتا) :
الملكة ناتالي! (يتذكر)
خطاباتها ... خاتمها ... ما شأنك أنت بالذي تذكر؟!
بنفيه :
شأني أنني وعدت الملكة برد هذه الأشياء إليها، وأريد أن أفي بهذا الوعد، فأين خبأتها؟ تكلم، واعلم أن حياتك مرهونة على الصدق، وعلى استرداد هذه الأشياء منك.
الدوق :
لا أعرف الذي تقول، ولا أريد أن أجيب
بنفيه :
أنا لا أعارضك فيما تختار لنفسك (مهددا)
فإن لك كل الخيار في إيثار الموت على الحياة!
الدوق (مرعوبا) :
تقتلني!
بنفيه (بثبات) :
لم لا، لقد اشترطت علي الملكة أن أجيء إليها بما حصلت عليه من الخطابات والخاتم، وإذا تعذر الأمر آتيها برأسك، حتى تأمن شرك، وتأمن الانتقام والفضيحة، وليس أيسر علي من إنجاز ما وعدت، ولا يكلفني أخذ رأسك سوى قطعها، إن موتك لا يترك سبيلا للانتقام منها، ولو فرض وظهرت الخطابات بعد موتك فلا يوجد من يرغب في الانتفاع بها من طريق الانتقام.
الدوق (يزداد رعبا) :
كيف يطاوعك قلبك على ارتكاب جريمة القتل؟!
بنفيه (يزداد تهديدا) :
وكيف يطاوعك قلبك أنت الآخر على الانتقام من امرأة ضعيفة، الموت أفضل جزاء لمثلك لتلحق روحك روح دي توسكا في جهنم!
الدوق (فزعا) :
دي توسكا! هل مات دي توسكا؟!
بنفيه (يستل خنجره) :
سل روحه هذا الخنجر!
الدوق (ينظر برعب إلى الخنجر) :
ويلاه قتلت دي توسكا، لقد كان عدتي للانتقام من العاهرة العنيدة، ويلاه كيف قتل؟!
بنفيه :
سله في جهنم ينبئك بما تسأل عنه، وأقرئه هناك تحية الشيطان (يستعد لطعن الدوق)
ناتالي أيتها الملكة المحترمة، هكذا أنتقم لك من الأشرار الخائنين.
الدوق (يتراجع متوسلا) :
مهلا، مهلا يا صاحبي. ماذا تربح من قتلي؟!
بنفيه (في إصرار) :
أنا لا أبحث عن الربح، وإنما أريد منع الأضرار عن مولاتي الملكة.
الدوق :
رحماك يا هذا، أصفح عني ارحمني.
بنفيه (مهددا) :
دلني على الخطابات وعلى الخاتم.
الدوق (بمكر) :
قد تقتلني إذا أرشدتك إلى مخبئها.
بنفيه :
ماذا أخاف من الثعبان بعد خلع أسنانه.
الدوق (منهارا) :
اذهب إلى حجرة نومي، فالخطابات والخاتم في أكرة السرير السفلي ليمينك بعد أن تصعد الدرج، هل ترد لي العافية والحرية؟!
بنفيه (يسحب الخنجر من وجه الدوق) :
نعم إذا كنت صادقا، وسأبقيك في هذا الطابق، لا يشعر بك الشيطان، ولا تهتدي لمقرك الجان، حتى أثبت من صدقك وأحصل على هذه الأشياء، فإن كنت كاذبا كان هنا قبرك! (ستار)
الفصل الرابع (غرفة مكتب محافظ باريز)
محافظ باريز (يقرأ في أوراق أمامه) :
ما هذه المزعجات، لم يبق أمامنا من الأعمال غير دوق هيس ديمر؛ مجيء الدوق إلى باريز ... وسفره من باريز ... وحراسته في باريز ... ما هذه الأحوال المرتبكة؟! وما هذه العناية التي لا مكان لها مع سكير فاجر؟! الدوق ... الدوق ... جاء الدوق ... غاب الدوق ... أين الدوق ... أنا أوثر الاستغناء من منصبي ... على احتمال هذه الأمور الصبيانية (يدخل جندي) .
جندي (بعد أداء التحية العسكرية) :
حضر يا مولاي مدير إدارة البوليس السري بناء على أمركم.
المحافظ :
دعه يدخل (لنفسه)
أنا لا أجد ما ألوم به هذا الرجل القدير، ولكن ما الحيلة ووزارة الداخلية تزعجني دائما بشأن الدوق ... وغرام الدوق ... وسكر الدوق ... (يدخل هافار مدير إدارة البوليس السري فيقول له)
هل تعرف لماذا استدعيتك الآن يا هافار؟!
المدير :
كلا يا سيدي، فهل حصل شيء هام؟!
المحافظ (باستخفاف) :
هل حدث شيء هام! تسألني عن الذي حدث! إذن ماذا تصنع في المدينة؟! وماذا يصنع جيشك الجرار من رجال البوليس السري؟! إنني لا أشعر بوجود هذا العدد العظيم إلا يوم يجيئون لقبض المرتبات!
المدير (بحماس) :
سيدي، العدل وحب الدفاع عن الحقيقة يسمحان لي بالدفاع عن أولئك الأبطال، أنت لا ترى أولئك العمال المجدين؛ لأن لهم أعمالا تقضي عليهم بالتنكر والاختفاء عن الإنظار، فإذا كنت لا تراهم فليس هذا جريمة ولا تقصيرا منهم، فإذا كان لسيدي الرئيس شكوى من عامل بخصوصه، أو منا جميعا بسبب حادث أو شأن واضح تقصيرنا فيه، فليذكره سيدي المحافظ لنعرف موضع الخطأ فلا نعود إليه، أو نعرف قصورنا فنترك وظائفنا لمن هو أكثر جدارة وكفاءة!
المحافظ (بتهكم يعطيه بعض الأوراق) :
خذ يا هافار، اقرأ ما يكتبه إلي الوزير، وانظر ما بعثت به إليه وزارة الخارجية، (يأخذ المدير الأوراق ويقرأها)
أنا لا أريد أبدا أن ينسب إلينا التقصير في أعمالنا، وأمثال هذه الملاحظات من وزيري الداخلية والخارجية تفقدني الصواب!
المدير (ينتهي من القراءة) :
دائما بخصوص دوق هيس ويمر! لعن الله الساعة التي عرف فيها طريق باريز، إن دوائر البوليس يا سيدي ما عاد يشغلها غير هذا السكير، وروحاته وغدواته وسهراته وسكره وغرامه ... ومطاردة لص محنك أو مجنون خطر أيسر علينا من المحافظة على مثل هذا الأحمق!
المحافظ (بعصبية) :
أنا لا أسأل الآن عن صعوبة أو سهولة المحافظة عليه أو مراقبته ... وإنما أسأل عن الرجل أين هو؟! وماذا أصابه؟! من الثابت أن الرجل في باريس، وها هو اختفى فجأة، بدون أن يدري رجاله مكانه، وها هي حكومة بلاده مهتمة بأمره، فأين الرجل؟! لقد كررت عليكم أن لا تفارقه عيونكم لحظة واحدة، فكيف غاب عنكم؟!
المدير (يعيد الأسئلة متعجبا) :
أين الرجل؟! (باستخفاف)
وهل يكون الدوق إلا في ماخوره مع بعض النساء (يكرر السؤال)
كيف لا تفارق عيوننا شخصه؟! (بتهكم)
وهل يريد سيدي أن يدخل رجالي معه إلى سرير المرأة التي يضاجعها؟! يكون مكان لهذه الملاحظات وللتأنيب الذي أسمع إذا كان غياب الدوق بغير اختياره ولجريمة وقعت، أما إذا كان يغيب لإرضاء شهواته وملذاته فليس من قوة في العالم تستطيع أن تقيد حريته ولا أن تمنعه من التغيب!
المحافظ (ينظر إلى الأوراق التي أمامه) :
بماذا أجيب على هذه الأوراق؟! أين الرجل؟! (بعصبية)
أبحث عنه عين لي مكان وجوده، ودعني أزعج حكومته وقنصل بلاده ووزير الداخلية، وأذهب معهم إلى ذلك المكان لأريهم الدوق في ملذاته ... في منكراته ... حتى يكفوا عن مثل هذه المزعجات.
المدير :
سأكلف رجالي بمعرفة مكانه إذا كان هذا يضع الحد الأخير بيننا وبين تصرفات الدوق الشخصية وبين حكومة بلاده، لقد كان آخر عهدنا بأخباره ليلة رأس السنة؛ فإنه خرج مع سيدة كانت في حالة سكر مع رجل سكران أيضا، وقد اشتبه أحد رجالي في أمر الرجل، وبعد غياب الدوق اقتفى البوليس أثر الرجل، وربما كشفنا سر هذه الحوادث في أقل من يوم واحد.
المحافظ (بارتياح) :
هذا الذي أريد.
المدير (يهم بالخروج) :
هل يسمح لي سيدي بالانصراف.
المحافظ :
كلا يا هافار، بل أريد أن تجيء معي إلى وزير الداخلية لتعيد على مسمعه هذه الأقوال.
المنظر الثاني (غرفة الدوق هيس ويمر وبها سرير نومه)
بنفيه (يدخل متلصصا) :
إذا لم يكن الدوق كاذبا ووجدت الأوراق والخاتم في المكان الذي دلني عليه أكون قد هدمت كل ما بنى دي توسكا من وسائل الانتقام، وأكون واثقا من البلوغ إلى قلب الملكة التي أحب، آه يا ناتالي يا ليت عينيك تبصران ما أعمل، والخطر الذي أعرض حياتي ونفسي له، ليتك تعلمين أيتها المحبوبة ما أقاسي في سبيل إنقاذك، وبدافع الحب المتسلط على عقلي ونفسي (ينبش بعض الأشياء في الغرفة)
هنا لا أجد شيئا (منزعجا)
أفيكون الدوق قد كذب علي وعرض نفسه لانتقامي (يزيد في البحث)
أو أجد الأوراق فأجد الراحة والهناء والغبطة، وتتحقق كل أماني، إن قلبي يختلج في صدري وما عرفت نفسي ضعيفا أبدا ولا جبانا ولا جزوعا، يا ألله إنني أسمع ضربات القلب بأذني (يتسمع)
ما من أحد هنا، ومن هذا الذي يدري بمكان وجودي أو بعزمي على إتيان هذا المكان، أنا لست خائفا من الناس، وإنما أخاف الفشل، (يصعد درجات سرير نوم الدوق)
أخاف أن لا أجد ما تجشمت من أجله كل هذه المتاعب (يحرك أكره السرير)
الويل لك يا دوق إن كنت خدعتني (تفتح الأكره)
الحمد لله، هذه خطاباتها بعينها، الويل لك يا دي توسكا، لقد قبضت عليك، إن متاعب الأخطار تزول عند الشعور بلذة الانتصار (يدخل رجل البوليس شاهرا مسدسه) .
رجل البوليس (يطلق رصاصة بجوار بنفيه) :
يا بنفيه باسم القانون ألقي القبض عليك.
بنفيه (يقف مبهوتا وظهره لرجل البوليس) :
لو أراد الرجل قتلي بالرصاص ما أخطأ إصابتي، إذن هو يريد بإطلاق النار استدعاء الخدم وأهل القصر للاستعانة بهم في القبض علي (يفكر سريعا)
كيف النجاة! ماذا أفعل؟ يا قوتي لا تخونيني، يا عقلي تنبه، ما الحيلة ... كيف الخلاص؟ (تسمع أقدام تقترب، فيقوم بنفيه بإخراج فلفلا أسود من جيبه ويلتفت سريعا إلى رجل البوليس، ويرشه على عينيه، فيصرخ ويسقط المسدس من يده، ويأخذه بنفيه ويطلق الرصاص في الهواء، وقت وصول الخدم وسكان القصر، فيظنون أن الذي يصرخ هو اللص، فيقول لهم بنفيه)
إلي، ساعدوني على القبض عليه (فيقبض الخدم على رجل البوليس) .
رجل البوليس :
عيناي ... عيناي ... اللص ... اللص ... ابحثوا عنه، حذار أن يهرب منكم ... عيني ... عيني ... عيني.
بنفيه (إلى الخدم الممسكين برجل البوليس، وهو ينصرف هاربا) :
إياكم أن يهرب منكم، احرصوا عليه حتى أستدعي الجنود (ينصرف وهو يصيح)
يا رجال البوليس، يا رجال البوليس ... إلى قصر الدوق ... المعونة ... إلينا ... إلينا ... إلى قصر الدوق. (ستار)
الفصل الخامس (حديقة بها أشجار كثيفة ودي توسكا وحيدا بها، وبنفيه مقنعا يراقبه متخفيا وسط الأشجار)
دي توسكا :
عجيب أمر هذه المرأة، فبينما هي ضعيفة الإرادة تفعل ما يوحى إليها به بدون تردد ولا فكر، تطاوع كل قوة دافعة، وتلين لكل قوة جاذبة، إذا بها تظهر فيها قوة الإرادة فجأة وتتحول من الضعف إلى نقيضه، ومن المطاوعة المطلقة إلى التفكير والفحص وصدق الحكم، هل تحولت عن حبي؟! محال أن يكون هذا؛ لأنها لا زالت معي كما كانت عواطفها وإحساساتها وشعورها وحنوها واضحة تفضح سر الحب المملوء به قلبها. إذن ما هو سر هذا التعقل الذي منعها من التورط ومن مطاوعتي في الطريق التي رسمتها لهلاكها، لقد ضاق صدري ولم يعد بنفيه من باريز لينفذ الخطة الأخيرة للتعجيل بها، أنا ما عدت أستطيع الصبر على رؤية هذه المرأة وزوجها رأسين متوجين، ولا عدت أحتمل تدنيس الملك عرض ابنتي، هذا العرض الملوث لا يطهره إلا الدم (إلى طيف الملكة)
مولاتي هل آن أن تذكري عبدك الواله المعذب؟ هل آن لك أن تجيئي (تدخل الملكة) .
الملكة :
تأخرت عنك بالرغم عني يا دي توسكا.
دي توسكا :
ليس لي أن أحاسب مولاتي الملكة على الذي تفعل، ألست عبدها؟! ألست الرجل الوحيد الذي تستطيعين أن تقولي: إنني ملكت قلبه وعقله وجسمه وحياته!
الملكة (بدلال) :
ألا تزال تناديني بالملكة! دع هذا لغيرك يا دي توسكا، نادني باسمي، واذكرني باسمي، ألا تزال تجهل أن لك قلبي وفؤادي وعقلي؟! أنا أحبك يا دي توسكا بكل قوة نفسي، حبا لا تبلغ إليه عواطف المرأة، ولا يدركه عقل الرجل.
دي توسكا (يتصنع الحب) :
من هذا أتألم يا مولاتي، ولو استطعت أن أنتزع هذا الحب من فؤادك ما ترددت لحظة (تبتعد خائفة)
لا تجزعي، لا تجزعي، إنني أحبك أكثر من حبي للحياة، ولست أعيش إلا بقوة هذا الحب، ولكنني لا أرضى أبدا أن أكون سببا في إيلام قلبك يوما ما، فإذا كنت صادقا في الحب يجب أن أضحي هنائي لتحقيق هنائك، أريد يا ناتالي أن تكبحي عواطفك، وأن ترتدي عن حب دي توسكا!
الملكة (في اندهاش) :
ماذا تقول يا كونت؟! ماذا أصاب عقلك؟! هل تظن القلوب طوع الرغبة؟! نقول لها أحبي فتحب، أو أرجعي عن الحب فترجع؟!
دي توسكا (يتصنع التأثر) :
مولاتي، يشق علي أن تذرفي دمعة واحدة بسببي، ويحزنني ويؤلمني أن أضيف إلى أسباب انزعاجك من أحوال الحياة سببا جديدا أو باعثا على الاستياء والكدر!
الملكة (في حيرة) :
دي توسكا، ماذا تريد أن تقول؟! ألمثل هذا الحديث طلبت هذه المقابلة!
دي توسكا :
مولاتي، أريد أن أكون صادقا في الحب إلى اللحظة الأخيرة من حياتي، وها قد دنت هذه اللحظة!
الملكة (كأنها تنتظر صدمة كبرى) :
دنت اللحظة الأخيرة من حياتك! رباه ماذا تقول؟! دي توسكا، أوضح ما تضمر! لا تكلمني بالألغاز والمبهمات، كن صريحا في قولك، ماذا تريد مما تذكر؟!
دي توسكا (بجدية وحزم) :
مولاتي، لكل امرئ غاية، ولكل شيء نهاية وقيمة، الإنسان في الحياة بسيرته وبقدر ما يقدر له من القيمة الأدبية والشرف، وقد لوث زوجك عرضي فقضى على سمعتي وعلى شرفي، فأمامي أحد أمور ثلاثة؛ إما أن أضحي الشرف وأقبل العيش مع العار، أو أطهر هذا العرض بالدم، بدم من لوثه وهذا لا أفكر فيه، لأنه ملكي ولأنه زوجك ووالد أبنائك، أو أختار سبيل الضعفاء وذوي الجبن فأنتحر، وعلى الأخير عولت؛ لأنني أضن بحياة زوجك إكراما للملكة التي أحترمها وأحبها، سأنتحر يا ناتالي العزيزة بعد أن أقتل ابنتي وأزيحها من طريقك إلى الملك، سأرد لك زوجك ... سأرد لك الهناء وراحة البال بثمن قليل، بتضحية حبي أنا، بنسيان ما كان بيننا، بإغفال الماضي وأي حادث لا ينسى مع كرور الزمان، بل أي حادث يضمن لي الخلود في فكر الإنسان!
الملكة :
دي توسكا، هل تحبني حقيقة؟! وهل هذا الحب قوي إلى الدرجة التي أطمع بها؟!
دي توسكا :
ويلاه! تسألني إن كنت أحبها؟!
الملكة :
هل يعصى الحبيب التي يحب؟ ألست تطيع الملكة، بل المرأة التي تحبك؟!
دي توسكا :
هل أنت في شك من أن حياتي كلها لك؟!
الملكة :
إذن لا تبدد ما هو لي واحرص عليه.
دي توسكا (يمثل التأثر والبكاء) :
مولاتي، العار العار ... إن زوجك الملك يمزق قلبي بكل نظرة يوجهها إلى كاترين، ويهدم شرفي بكل كلمة يسمعها إياها!
الملكة (متشككة) :
وهل أنت غير مدين للملك بمثل ما تشكو منه؟! ما للناس ينظرون إلى عيوب غيرهم ويتغافلون عما بهم! يا دي توسكا عرض بعرض وشرف بشرف!
دي توسكا (في تودد مصطنع) :
ولكن غرامنا يا مولاتي سر غير معلن؛ فشرف الملك وعرضه مصونان في نظر الناس!
الملكة (في تعجب) :
ما هذا يا دي توسكا؟! هل أنت من الذين يقدرون الأشياء والأحوال بقيمتها في نظر الناس لا بقدر نسبتها إلى الحقيقة ودنوها منها أو بعدها عنها؟! لو أرادت ابنتك يا دي توسكا أن يكون غرامها مع الملك سرا مجهولا من الناس ما عرفه أحد، ولكنها هي التي فضحت هذا الأمر، فلماذا تنسب الخطأ إلى الملك؟!
دي توسكا (في تحد) :
هل تنكرين أنه أغرى ابنتي وأغواها؟! أليس لعرضي قيمة عند مولاتي؟!
الملكة :
أنا أغار على زوجي أن ينظر لامرأة غيري، طبيعة الزوجين لا تتغير ولا تزول، ولكنني لا أنكر الحقيقة التي تعرفها المرأة أكثر من الرجل، لا يستطيع الرجل أن يغري المرأة أو يستغويها إلا إذا رأى منها تشجيعا على الذي يطمع به، وهي لا تفعل إلا إذا كان في نفسها استعداد غريزي للانزلاق والسقوط، فما لك يا دي توسكا أن تظلم الملك والذنب كله لنزق ابنتك وطيشها!
دي توسكا (في شك) :
مولاتي، إنك تدافعين عن زوجك كأنه لا جريمة له في تلويث عرضي، أنت تحبين زوجك أكثر مني يا ناتالي.
الملكة (بثبات) :
إن عقلي يعترف بهذه الحقيقة إذا أردت أن أجيبك من طريق العقل، ولكنني أطيع قلبي، وقلب المرأة ضعيف، فأنا أحبك بقلبي، وأحب زوجي بمقتضى الحال وبالعقل.
دي توسكا (يحاول استمالتها) :
أواه يا ناتالي! أنت قاسية ، ليتك لم تكوني متزوجة؛ بل ليتك لم تكوني ملكة، أنا أحبك كامرأة ... ملكت كل عواطفي وسكنت قلبي، ولا أريد إلا أن تكوني لي ... بعقلك وبقلبك ... فويلاه! ويلاه من هذا الزوج!
الملكة (تندفع إليه منهارة) :
أنا لك يا دي توسكا ... بعقلي وبقلبي ... رباه ما أعظم لذة الحب وأقواها! إنها تسلب المرأة عقلها، وتقلب إرادتها إن كانت لها إرادة.
دي توسكا (في لذة المنتصر) :
ماذا تقولين؟! أنت لي بقلبك وعقلك؟! وزوجك الملك ... هذا الذي تدافعين عنه!
الملكة (تقاطعه) :
أحبك أنت يا دي توسكا؛ لأنك تحبني، وماذا يرضي المرأة غير الحب المتبادل؟!
دي توسكا :
لك أن تختاري بين زوجك وبيني، أحدنا لا أكثر!
الملكة (تنهار أكثر) :
لقد فقدت كل قوتي، أنا ضعيفة جدا بين ذراعيك يا دي توسكا، يا ألله من لذة الغرام!
دي توسكا :
لك أن تختاري ... بين هذا الرجل الذي يحبك، ولا يخفق قلبه إلا بذكرك ... وبين ذاك الذي يخونك، ويكون عقبة في طريق هذا الحب
الملكة :
دي توسكا، ارحمني، ولا تجعلني أضطرب وأخجل أمام هذا التصريح.
دي توسكا (يخرج مسدسه ويصوبه إلى قلبه) :
دعيني إذن أنتحر، فليس لي أمل في الحياة.
الملكة (فزعة) :
دي توسكا، حبيبي.
دي توسكا :
كنت أعيش بهذا الحب، وكنت أطمع أن تكوني لي وحدي، تتخلصين من كل قيد ... من كل رابطة ... من كل إنسان، وتكونين لهذا المخلص الذي أحبك لذاتك لا لشيء آخر، اتركيني يا ناتالي، فما عاد لي أمل في الحياة، تلوث عرضي ... ضاع شرفي ... وخاب ظني في المرأة التي أحبها، فلماذا أعيش؟
الملكة :
دي توسكا، أنا أحبك.
دي توسكا :
ولكنك تؤثرين زوجك، علي أنا كثير الغيرة!
الملكة :
أوثرك أنت على زوجي.
دي توسكا :
محاولة وتغرير.
الملكة :
بل هذه هي الحقيقة يا كونت أدركتها في هذه اللحظة، إن قلامة ظفر منك ... تساوي حياة زوجي وكل العالم، إن قلبي ينخلع لمجرد رؤية المسدس في يدك، آه يا قاسي! إن حياتك لي وليست لك.
دي توسكا :
أنا لا أطيق رؤية زوجك، هو مزاحمي فيك وفي عرض ابنتي ، دعيني أموت فرارا من العار، ومن الحب، ويلاه! دعيني أموت يا ناتالي.
الملكة :
أشفق علي يا كونت، ألا ترى أنني أكاد أجن.
دي توسكا :
إن قوة الغيرة عليك ربما تحملني على قتل هذا الزوج، إن دفاعك عنه جعلني أمقته وأخشاه، ويلاه! إن الغيرة تدفعني لقتل هذا الرجل ... لا ... لا ... هو زوجك ... دعيني أموت، فلست أنا الذي يحزنك موته.
الملكة :
دي توسكا حبيبي، هل تريد أن تقتلني حزنا وقهرا؟! دي توسكا، ارحمني، أشفق على هذا القلب الضعيف الذي يحيا بك ولك.
دي توسكا :
زوجك الملك، زوجك، أنا لا أطيق النظر إلى هذا الرجل، بعد أن رأيتك تدافعين عنه، أنت تحبينه يا ناتالي، والمرأة لا تحب رجلين.
الملكة :
أحبك أنت، أنت الذي تسكن هذا القلب، وتبعث فيه الحرارة والحياة.
دي توسكا :
أنت تكذبين.
الملكة (متعجبة) :
ويلاه! إنه يهينني، دي توسكا، صدق الملكة، إنها تحبك وتقسم لك بأنها تحبك.
دي توسكا :
دعيني أموت يا ناتالي، وإلا فإنني أقتل الملك.
الملكة (فزعة) :
لا لا ... لا أتركك تجني على نفسك.
دي توسكا :
إنك تقتلين الملك بإبقائي على قيد الحياة، هل تؤثرين حياتي على حياة زوجك.
الملكة :
آه، ما أضعف المرأة بالحب! نعم يا دي توسكا أوثرك أنت على زوجي.
دي توسكا :
هذا لا يكفيني.
الملكة :
ماذا تريد؟! ماذا تقضي به علي؟! لقد سلبتني كل قوتي ... الإرادة والعقل ... ها أنا بين يديك، ماذا تريد للدلالة على صدق حبي؟!
دي توسكا (بجدية) :
اقتلي زوجك لتكوني لي كلك!
الملكة (بتفكير عميق) :
أقتل زوجي؟! جريمة ... زوجة تقتل! آه دي توسكا، أنا أحبك، ولكنني لا أحب الجريمة، إن أذني لا تسمع، وقلبي يختلج، ورأسي لا تدرك، ويلاه ماذا سمعت؟!
دي توسكا (يركع) :
إذن أنت لا تحبينني (يظهر بنفيه) .
بنفيه :
بل بالعكس، إنها تحبك يا دي توسكا، وأنت واثق من قوة هذا الحب، ولولا هذه الثقة ما أقدمت على تحريضها على جريمة القتل!
دي توسكا (فزعا) :
من أرى؟! العدو المتنكر! أنت دائما في طريقي تتجسس علي؟! تبحث على أسراري، لقد جئت لتموت، وما عادت الشياطين تنقذك (يمسك بمقبض مسدسه) .
الملكة (تعود إلى رشدها فرحة) :
هل عدت يا سيدي؟ هل نجحت؟ إنك تظهر دائما في ظروف خطيرة وأوقات حرجة!
بنفيه :
لقد عدت يا مولاتي لأدفع عنك الخطر ولأرد لهذا القلب الطمأنينة والسلام (إلى دي توسكا)
لقد احتلت على هذه السيدة الكريمة، وخدعتها بمظاهر الحب الكاذب، فعبثت بقلبها وعواطفها، أنا أعرف آمالك، وأعرف أمانيك، وأكبر دهاءك، وأعجب باقتدارك، ولو بعدت عن الملكة ما تعرضت لك ولا وقفت في طريقك ولا أفسدت عملك!
دي توسكا (بغيظ شديد) :
ستموت أيها النذل الجبان فالويل لك مني.
بنفيه :
مولاتي، لقد خدعك هذا الرجل الداهية، دي توسكا لا يحبك، وليس في قلبه إلا البغض والحقد عليك وعلى زوجك الملك.
دي توسكا :
محتال كاذب، وأثر الوقيعة والفتنة في عملك وفي أقوالك.
الملكة (متعجبة) :
أنا لا أصدق ما أسمع، سيدي لقد بدأت أشك في أمرك.
بنفيه :
مولاتي، لو كان هذا الرجل يحبك ما كان يحرضك على قتل زوجك!
الملكة (في تباه) :
الغيرة!
بنفيه :
الغيرة تدفع الرجل إلى ارتكاب الجريمة بنفسه لا على تحريض المرأة بجبنه، لك ألا تميزي بين الغيرة والمكيدة!
دي توسكا (حانقا) :
الموت ... الموت ... مولاتي ابعدي عن هذا المكان، دعيني أقتل هذا الدساس.
بنفيه (بهدوء) :
تمهل يا سيدي ريثما أرد للملكة ما وعدتها بالحصول عليه.
الملكة (فرحة) :
هل نجحت؟! هل أحضرت الأوراق؟! أين هي يا سيدي؟!
بنفيه (يعطيها ورقة) :
هذا واحد من تلك الخطابات يا مولاتي، انظري توقيعك وطالعي بإمعان ما ذيل به الخطاب بالمداد الأحمر!
الملكة (متعجبة) :
نعم هذا خطاب، وهذا توقيعي ما هذا؟ وهذا توقيع دي توسكا (يحاول دي توسكا خطف الخطاب فيبعده بنفيه) .
بنفيه :
دعها يا سيدي العاشق تعرف صدقك في الحب وإخلاصك في الغرام وأمانتك في الاحتفاظ على أسرارها وعلى عرضها!
الملكة (تنظر بعيون لامعة في الخطاب) :
ويلاه! ماذا أقرأ؟! دي توسكا يرسل خطاباتي للدوق عدوي؟! دي توسكا يكيد لي؟! هل أصدق نظري؟! رباه عطفا علي ... رحمة بي، فقد كدت أجن!
بنفيه :
مولاتي، لقد غرس هذا الرجل بالدهاء والحكمة حبه الكاذب في قلبك هذا الطاهر، وألقى بك في أعماق الهوة، ويدي هذه الضعيفة تمتد إلى هذا القلب فتنتزع منه هذا الحب بالرغم منك ومن العاشق المخادع، هذه اليد تمتد إلى أعماق الهوة فتنتشل الفريسة من براثن الوحش لتردها إلى الأرج الذي سقطت منه، وترد لها شرفها وإلى قلبها السلام والهناء، (يعطيها الخطابات)
خذي، هذه أسلحة خصومك، هذه شراكهم وحبائلهم التي أعدوها لسقوطك، خذيها ... مزقيها ... أحرقيها بالنار ... دعي النار تلاشي كل آثار تلك الجريمة ... جريمة الرجل الخائن ... على المرأة الضعيفة!
دي توسكا (يشهر مسدسه في وجه بنفيه) :
لقد قتلت نفسك وقتلت هذه المرأة أيها المعتوه، الويل لك، هل تظنني أتركك تنتصر علي وتقضي على آمالي (يطلق رصاصة عليه، ولكن بنفيه لا يصاب) .
بنفيه (مبتسما) :
إن رصاص الخائن يخجل من الانطلاق، وفر عليك عناء هذه الجريمة؛ فإن الرصاص يطيعني ولا يخرج من مسدسك بغير إرادتي (يطلق دي توسكا الرصاص)
اثنين ... ثلاثة ... أربعة ... خمسة ... انتهت الرصاصات يا سيدي الكونت! ولو أطعتني لوفرت على نفسك الخجل ومرارة الاندحار!
دي توسكا (في إصرار) :
إذن تموت بالسيف أيها النذل الجبان (يحاول إشهار سيفه فلا يخرج السيف من غمده) !
بنفيه (ضاحكا) :
وسيفك الآخر يعلم سفالة ما عملت فلا يطاوعك على قتل من فضح مكيدتك، ومنعك من تنفيذ عملك السافل!
دي توسكا (متعجبا) :
هل أفل نجمي ... صفقة واحدة يا للشياطين (يحاول إخراج السيف فيفشل)
ما لسيفي لا يطاوعني ورصاصي عصاني! (يمسك بمقبض خنجره)
مت بالخنجر كما يموت اللصوص (يحاول إخراج الخنجر فلا يطاوعه على الخروج) !
بنفيه (مقهقها) :
ولا الخنجر يطاوعك، ألا ترى أنني جردتك من كل قواك ومن حيلتك ومن سلاحك، فلم تعد تستطيع الانتفاع به، هكذا تفعل قوة الحيلة، وبهذا تقضي الحكمة، هل تريد أيها الأبله أن أتعرض لرصاصة من مسدسك أو لطعنة من خنجرك في وقت الانتصار عليك وفضح أسرارك، فلا أعود أغنم ثمرة الانتصار، ولا أنعم بلذة التغلب، لو كنت حريصا على نفسك يا سيدي الكونت ما تمكن مثلي من الوصول إلى سلاحك والعبث به، ومن يقدم على ما أنت قادم عليه من الأعمال الخطيرة واجب عليه أن يستعين بالحرص مع الحيلة، إن رصاص مسدسك نزع منه البارود، ونصل سيفك ملتحم بقرابه ... وكذلك الخنجر، فهل فهمت الآن ماذا تعمل الحيلة والحرص؟ اخرج مدحورا أيها العاشق السافل الخائن، إن جزاءك الموت، ولكنني أعفو عنك لتتعلم من هذه التجربة وتنتفع من الدرس القهري، دع الأعمال للرجال؛ فإنك لا تزال طفلا، لست من رجال هذا المضمار، اهرب فهذا طريق المدحورين!
دي توسكا (في رعب وفزع) :
هل في بلادي كلها رجل يقدم على الخيانة بمثل ما أقدمت؟ أنا لا أصدق أنك من هذا البلد وإلا ما خنت (يهجم عليه محاولا نزع قناعه)
دعني أعرف وجه خصمي ... وجه الخائن النذل (يسقط القناع ويظهر وجه بنفيه)
بنفيه! من كان يظن هذا؟!
الملكة (في ذهول) :
بنفيه! بنفيه خادمي! هل هذه يقظة؟! هذا جنون!
بنفيه (لدي توسكا) :
نعم بنفيه، الذي ظننت أنه من رجالك، وجئت به لخدمة أغراضك عند الملكة، انظر إلى وجهي، هل عرفتني؟! أنا هو بنفيه. (يجري دي توسكا هاربا)
هربا هربا ... وإلا علمتك كيف ينتقم الخادم الأمين من خصوم مولاته المخدوعة.
دي توسكا (وهو يفر) :
سنلتقي يا بنفيه، وسنرى لمن يكون النصر الأخير.
بنفيه (للملكة) :
مولاتي، لقد أزعجتك كل الانزعاج، وأنا أشفق على هذا القلب الرقيق أن يتألم، ولكنني عرفت ما يرمي إليه هذا الخائن مع أعوانه وعصابته، ووقفت على سر المؤامرة المدبرة ضد جلالة الملك وضد مولاتي، فدفعني إخلاصي للملكة وإشفاقي عليها إلى الذي رأيت من خذل الطاغية، وإفساد كل ما دبر، ها خطاباتك ردت إليك، فلم يعد في أيدي أعدائك ما ينالون به منك، فلا تمكنيهم من هذا السلاح!
الملكة :
شكرا لك يا بنفيه، فأنا مدينة لك بحياتي أولا، ثم بشرفي ثانيا.
بنفيه (يأخذ يدها) :
إن شفتي لا تلمس هذه اليد الكريمة لئلا تحرقها، ولكنني أضع فيها الخاتم الذي أهدته لدي توسكا ... الرجل الذي كانت تحبه.
الملكة (في مكر) :
بنفيه، بنفيه، ما عدت أشك أبدا في إخلاصك.
بنفيه :
هل شفيت يا مولاتي من حب دي توسكا، إنه الحرير إذا لصق بالشوك يتمزق عند اقتلاعه منه.
الملكة :
وقد شعرت بقلبي يتمزق وأنت ترفع الستار عن خديعة دي توسكا.
بنفيه :
أنا أحسد ذلك الرجل؛ لأنك كنت تحبينه، هل تعرفين يا مولاتي حقيقة بنفيه؟!
الملكة :
لا أعرف عنك إلا الذي أردت أن تعرف.
بنفيه :
هل تذكرين يا مولاتي المترجم الذي كان يرافقك في سفرك من القاهرة إلى الأقصر ... ومنها إلى بورسعيد ... في سياحتك في القطر المصري.
الملكة :
حافظ، نعم أذكره، لقد ترك ذلك الشاب أثرا في نفسي لوداعته وكياسته.
بنفيه :
هل تذكرين صورة ذلك الشاب؟!
الملكة :
أذكرها نعم.
بنفيه (يزيل تنكره ويظهر بصورته الحقيقة) :
هل تعرفين الآن من هو بنفيه؟!
الملكة (متعجبة) :
حافظ! حافظ! ما هذه المضحكات؟! ما الذي جاء بك؟! ولم عرضت نفسك لكل هذه المخاطرة؟!
بنفيه (في وداعة) :
لأنني أحبك!
الملكة (بدلال) :
وأنا حذرتك من قبل هذا الحب! (ستار)
رواية «محور السياسة»
تأليف حافظ أفندي نجيب بالفرقة المصرية
1
غلاف مخطوطة مسرحية «محور السياسة» عام 1920.
الصفحة الأولى من الفصل الأول لمخطوطة مسرحية «محور السياسة».
المقدمة (غرفة نوم في منزل) (تدخل سيدة متنكرة تتجسس، ثم تعود وتدعو سيدة أخرى فتدخلان معا، وترتمي الثانية على مقعد منهوكة القوى، وتقول للأولى.)
أسما :
لقد تبعتك يا بنيتي حرصا على سلامتك أكثر من إطاعتي لرغبتك؛ لأنني كنت أخشى إذا منعتك أن تفعلي في خفاء عني ما أقدمت على فعله الليلة في حراستي، وقد وعدت أن تكشفي لي سر هذه الأعمال الغريبة؛ خصوصا دخولنا المنزل دخول اللصوص، ها أنا مصغية إليك.
إحسان (تتقدم إلى أمها وتقبلها) :
أشكر لك يا أمي هذا الحرص، وما كنت لأقدم على دخول هذا المنزل مع أي مخلوق غيرك، فما دخلته أنثى إلا وخلفت فيه أثمن ما تحرص عليه المصونة العفيفة، وما وطئته قدم حسناء إلا ووقعت في أعمق هوات السقوط الأدبي!
أسما :
إذن ... لماذا جئت بنا إلى هذا الجحيم؟! وكيف تطوع لك الجرأة أن تطرقي هذا المكان؟!
إحسان :
فعلت بدون وجل؛ لأنني جئت في حراسة ملاك الوقاية والصون، فهل تظنين أن شيطان الغواية يحاول شيئا أمرا في وجودك؟ أو يبلغ إلى وطره وأنا في كنفك؟ لو علمت أن له هذه القوة، أو عرفت أن لي ذلك الضعف النسائي، لنزعت قلبي من صدري بيدي وطرحته للكلاب!
أسما :
كل هذا لم يشرح لي سر مجيئك الليلة إلى هذا البيت متلصصة!
إحسان :
السر المريع الذي تنتظرين مني الإباحة به هو سر كل فتاة في طور الشباب، وأول ربيع الحياة، أنا أحب يا والدتي، وهذا البيت هو للشاب الذي علقه قلبي، وعقدت العزم على اختياره رفيقا لحياتي!
أسما :
ما هذا الجنون يا بنية، وهل بلغ بك الطيش إلى المجيء بي إلى موعد غرامك؟ رباه! إنني أكاد أفقد صوابي من الروع والكيد!
إحسان :
معاذ الله يا أمي أن أهوى إلى مثل هذا السفه، إن الشاب لا يزال يجهل أمري، ولو بحت له بحبي قبل أن تغريني عليه ما كنت جديرة بعطفك ولا بكرامة البيت الذي أنتسب إليه!
أسما :
إذن ماذا أردت بالحضور إلى منزل رجل لم يأذن لك بدخول منزله! وليست بينكما أية علاقة؟! وكيف وصلت إلى معرفة هذه الدار؟! وحصلت على مفاتيح الأبواب! وأنت لا تفارقين دارنا إلا برفقتي!
إحسان :
عهدت إلى خادمنا، فتجسس أحوال الشاب أكثر من ثلاثة شهور، ثم اصطنع مفاتيح الأبواب بعد أن أخذت أنا طبعتها من المفاتيح الأصلية!
أسما :
وما عسى أن تفعلي هنا!
إحسان :
جئت لأمرين؛ الأول: أن أقف على شيء من أسرار قلب الفتى، والثاني: لأحمل إليه أول رسالة من رسائلي إليه.
أسما :
ويلاه مما يغري به طيش الصبا ونزق الشباب! هل تظنين يا ابنتي أنني أقرك على هذا التصرف المستهجن؟ أنا لا أجد غرابة في تطرق الحب إلى قلبك، فإنك كسائر المخلوقات، لك عواطف وشعور، ولا بد لك من الخضوع لناموس الطبيعة ... اليوم أو غدا، إنما الغرابة في كونك تقصدين إلى غرضك في الخفاء وعلى غير السبيل المشروع!
إحسان :
لو كان الذي أحببته يا أمي على مثال غيره من الشبان لمددت يدي إليه في جهر بعد العزم على الاقتران به، أما وهو في شذوذ مريب فإنه يعوقني عن خطب يده، وعن القطع باختياره زوجا لي، فربما أتحول عن عزمي وأرجع عن اختياره لنفسي!
أسما :
أنا في حيرة تضاعف غرابتي وارتباكي! فبينما أنت يدفعك الحب الجائر إلى جرأة الاقتحام والمجازفة، إذا بك تخافين العاقبة لريبة في نفسك من أطوار من علق به قلبك، فمن هذا الذي عبث بك كل هذا العبث!
إحسان :
هو الساحر بوداعته، الخلاب بعذوبته، الفنان بسكونه، المغرى بوجومه، هو ذلك الشاب الذي تتجاذبه كل فاتنات باريس، وترتمي عليه العقيلات كما ترتمي على النور الفراشات، آه يا أمي! أنا أعترف لك بكل صراحة؛ لأنني في خطر عظيم من الحب، فإذا وقع نظري على ذلك الشاب ينجذب إليه فؤادي كما ينجذب الحديد إلى المغناطيس، ويدفعني الهوى فأكاد أرتمي على صدره ... أبوح له بأمري ... أو أقع عند قدميه ... أتذلل له أن يرحمني لولا حزم ورثته عنك، يردني إلى ثبات الكبر وحياء العفة، ويعصمني عن التبذل والصغار!
أسما (تضم إحسان إلى صدرها) :
أراك في عذاب عظيم من مغالبة النفس والقلب الضعيف؛ فكم لك في هذا العناء يا ابنتي!
إحسان :
عام طويل يا أمي، بدأ الحب يتسرب إلى نفسي بباعث الغيرة في حفلة الرقص التي شهدناها في قصر السيدة دي لامول، ألا تذكرين؛ إنني طلبت إليك الرجوع إلى البيت قبل انتهاء الحفلة!
أسما :
أتذكر تلك الحادثة ... ولكن لم أخفيت عني أمرك إلى الآن؛ فربما كنت أتمكن من معالجة الداء قبل تمكنه من نفسك.
إحسان :
منعني الحياء، وظننت لنفسي قوة من الجلد والحكمة أدفع بها الطارئ المزعج فخاب ظني. آه يا أماه لو تعلمين ما قاسيت وما عانيت من وقر الآلام البارحة ولوعة الوجد المضني! إذن لرثيت لحالي ولرق قلبك لي.
أسما :
لا باعث أبدا للألم والشقاء إذا كان الذي علقه فؤادك حقيقة بيدك ؛ فأنت في حسن تحسدك عليه أجمل فاتنات هذه المدينة ... وفي أدب وعلم لا يقل عن مثل ما بلغت إليه أرقى متعلمة في المتحضرين ... ولك ثروة تأمنين معها الفقر ويطمع بها كل شاب، فما الذي يبعثك إذن على خشية الفشل والخيبة؟
إحسان :
الشاب على جانب عظيم من كرم الأخلاق وأدب النفس؛ بل إن له من المبادئ والصفات ما يندر وجوده في السواد الأعظم من النبلاء، ولو أنه أحس بما في نفسي أو عرف شيئا من سر هذا الحب لانطرح عند قدمي يطلب يدي، ولكن الذي أخشاه هو المغامرة والمجازفة؛ فإن اندفاع الفتاة في الحب واستسلامها لأول فزة من فزات النفس قد تندم عليها كل أيام حياتها!
أسما :
يسرني أن تكوني حكيمة إلى هذا الحد يا ابنتي ... حريصة على هناء الحياة حرصك على كرامة بيتك وشرف نفسك، ولكنني في حيرة من أمرك؛ فبينما أنت تذكرين محاسن الفتى وصفاته إذا بك تنكمشين ريبة وحذرا! فهل تعرفين له صغارا ينفر منه وعيبا تتعذر معالجته؟!
إحسان :
إن التعليم والتربية وكل وسائل التهذيب النظرية لا تحول بين النفس وهواها إذا ألفت أمرا أو اعتادت سبيلا؛ فكم من كرام الكتاب من تسمم جسمه بالأفيون ... أو المورفين ... أو الكوكايين ... أو الخمر ... ولم نر أن قوة العلم أو وفرة الأدب منعته عما ألف من المخدرات مع علمه بأضرارها، فكذلك يا أمي كل هوى تشبعت به النفس وتسرب إليها ميكروب الاعتياد يتأصل فيها ويتعذر إقلاعها عنه، وأنا أعرف للفتى الذي أحبه شيئا من هذا الضعف!
أسما :
إذن هو من المدمنين المتسممين بالخمر أو المخدرات! معاذ الله يا ابنتي أن تكوني زوجا لذلك الشاب.
إحسان (تضحك) : ... لا تتسرعي يا والدتي؛ فإن عيب الفتى غير تلك العيوب؛ هو لا يشرب الخمر، ولا يتعاطى المخدرات، وإنما نشأ بين الفاتنات، وتقلب بين صنوف الهوى، وتنقل بين أذرع العاشقات، فهو يخلع مع كل ثوب هوى قديما، ويعرف مع كل ليلة قمرا جديدا، ويترك في كل قلب أثرا؛ هو يحب يا أمي كل الجميلات، وإنما غرامه لحظة، وثباته لمحة؛ فهو كالنحلة تحب الزهور الناضرة، إنما لا تقع عليها إلا لمحة فتمتص عصارتها، ثم تطلب غيرها ... فغيرها ... ففي هذا البيت يمثل الحب السفيه في كل ليلة رواية غرامية جديدة، وتحت هذا السقف تزهق أشرف الأعراض من أجمل وأكرم الفاتنات، فيحق يا أمي بهذه الغرفة أن تسمى لحد الفضيلة (تخرج من ثوبها قطعة خشب سوداء، كتب عليها بالحبر الأبيض «لحد الفضيلة» وتضعها على السرير، ثم تشير إلى خطاب مزخرف بالورد، ملقى على المائدة)
انظري يا أمي! هذه رسالة غرام من حسناء يدفعها الحب إلى السقوط، منعها الحياء أن تصرح بوجدها مشافهة، فوكلت بذلك يدها فأودعت أسرارها في قصاصة من الورق، ويعلم الله كم كانت مضطربة وهي ترسم بقلمها هوة سقوطها، ولكن الرعونة والهوس آتيا كل الاتيان على قوة إرادتها ... وعلى عفافها، فجازفت بكرامتها ... تدفنها في هذه البؤرة بثمن حقير ... بساعة أنس وتمتع بين ذراعي هذا الشيطان الظريف.
أسما (تقبلها بحرارة) :
زادك الله عقلا وحكمة يا بنيتي، وحماك من رعونة أولئك الطائشات.
إحسان :
انظري يا أمي! هذه أربع زهرات من البنفسج ألصقت في ورق الغلاف، هذه زهرات أخذت مما كانت تحمله تلك الحسناء في صدرها كل النهار، سول لها جنون الحب وحرارة الوجد أن هذه الزهور التي كانت قريبة من قلبها أحست بما في ذلك القلب من نار الصبابة، فهي تنقل إلى الحبيب ما لا يستطيع قلبها التعبير عنه بفصاحة. مسكينة هذه المرأة! فلو علمت كيف يكون حظ خطابها عند ذلك الشيطان لبترت أناملها قبل أن تكتب، ولأزهقت روحها قبل أن يزهق الطيش فضيلتها ويذهب بكرامتها وهي سكرى من القبل الحارة ... مستسلمة للذة العناق والحنو ... هي ساعة من فجوة الليل ... تتبدد لذتها مع وجه النهار ... كما تتبدد لذة الأحلام بالرجوع إلى اليقظة، ولكن هيهات بين الحصرتين، فالحلم يأسف في ابتسام الهازي بالوهم، وأما المرأة المنكودة فتبكي بتألم بارح عرضا ضاع ... وسقطة لا رفعة معها ... ولذة لم تدم ولن تتجدد ... ثم تطلب السلوى والعزاء بين ذراعي عاشق جديد ... فآخر ... فآخر ... فآخر ...
أسما :
رباه! رباه! ما أفظع ما أسمع؟! كيف عرفت كل هذا يا ابنتي؟
إحسان :
هكذا يا أمي تسقط النساء، وهكذا يا أمي تكون نتيجة كل حب غير شريف ... وكل ارتباط يغري به طلب اللذة الحمقاء ... وتحدو إليه فزة العواطف الطائشة (تقول هذا وتلقي الخطاب باحتقار على المائدة) .
أسما :
أراك يا ابنتي في حكمة أرقى الحكماء عقلا ... وأصالة رأي الشيوخ، ولم أكن أعرف لك شيئا من هذه الخبرة؛ خصوصا في أمثال هذه الأبحاث. فكيف وصلت إلى هذا الحد من حكمة الاختبار؟!
إحسان :
لم يكن العالم في زمانك يا أماه في سفه وخبث، أهل هذا العصر ... وكل يوم يجيء ... يضاعف منحدر الشطط والزيغ ... ويبعد عن الفضيلة والمبادئ السامية، وقد لاحظت هذا منذ وصلنا إلى باريز؛ لما شاهدته في هذه المدينة من أحوال الجنسين ... النشيط واللطيف ... في تجاذبهما بباعث الشهوة ... وانحدارهما إلى بؤر السقوط الأدبي ... على مزالق الدعارة ... يخفي شناعتها وفظاعة السقوط حجاب كاذب من عناوين المدنية الخلابة والتحضر الكاذب.
أسما :
ولكنني لم أر شيئا مما تشيرين إليه يا ابنتي، فكيف رأيت كل هذا ونحن لا يفارق بعضنا بعضا خطوة واحدة.
إحسان :
لقد نشأت يا أمي في حجاب الصون وسذاجة الطهر وسلامة التنبه ... في حرز من خبث الغواة وتغرير البغاة ... كنت بمعزل عن الشر والأشرار وراء حجابك المصون، لهذا فأنت تمرين بهذه الجماعات وأنت في طور الشيخوخة بباصرة الأجهر وأنف المزكوم، أما أنا، فإنني تنبهت لمجرد وجود التقارير بين من أعرف من أهلي وأفراد هذا المجتمع المبتذل، تنبهت مع الحذر.
أسما :
نعم يا ابنتي، إن المرأة التي يتطرق إلى نفسها الظن السيئ ترى ما لا يرى العاقل، وتدرك ما لا يعني بإدراكه اللاهي المتكاسل.
إحسان :
ما أصعب الدرس العملي لأول الأمر، أما الآن فإنني بفضل المقارنات المستمرة أصبحت قادرة على تحليل الألفاظ والإشارات والعبرات ... وإشارات التحية ... ونظرات العيون وذبولها ... والابتسامات ... وكل ما يبدو على الوجه والفم والعين ... ماذا تفهمين من الابتسامة يا أماه؟ لقد اعتدت أن تبتسمي عند انشراح النفس، أليس كذلك ! ولكن ابتسامات المرأة في هذا العصر يا أماه قد تكون من ألم الغيرة ... وهكذا العين خلقت للنظر، ولكنها الآن تؤدي وظيفة اللسان، فترسل نظرات للسخط أو الرضا ... للهزأ أو الإجلال ... للميل أو للنفور ... للعتاب أو للاستبشار ... للوعد أو للوعيد ... للمطارحة والمجاذبة أو للمكارهة والمجانبة ... وهكذا، كل حركات اليد والرأس والفم وسائر أعضاء الجسد، يستخدمها الإنسان المتمدين للغواية ... للعبث بعقل وقلب المرأة!
أسما :
لقد ملأت قلبي ذعرا يا ابنتي لأول دخولنا هذا المنزل، أما الآن وأنت عالمة كل العلم بمواطن النقص الأدبي من أحوال الناس ... ومن النظر إلى الأمور بعين التمحيص والنقد، فقد صرت في طمأنينة عليك، ولكن يدهشني أن الزمن الذي قضيناه في باريز لم يكن كافيا لبلوغك هذا الحد من الفهم والإدراك.
إحسان :
صدقت يا أماه، لم يكن الزمن كافيا للتعليم الدقيق، فإن هذه العمليات المنطقية من أسمى ما يبلغ إليه العقل البشري عند تمام نضجه بالتعليم وكماله بالتمرين العملي، ولكن الصدفة خدمتني ... أوجدت في نفسي هذا الحب ... ثم الغيرة ... وهما قوتان لا يستهان بهما، ألا تذكرين يا أماه شيئا من جرائم النساء بباعث الغيرة والحب؟!
أسما :
أذكر كثيرا يا ابنتي، فإن الغيرة إذا تسربت إلى نفس المرأة دفعتها إلى عمل المدهشات ... وحتى إلى ارتكاب الجرائم (إحسان تفتح درج مكتب، وتخرج منه عدة صور فوتوغرافية، ثم تأخذ تتفرس فيها واحدة واحدة) .
إحسان :
لقد صدقت كل ظنوني، ووجود هذه الصور في الدرج جاء آخر دليل على صدق نظري وصحة استنتاجي
أسما :
وما شأن هذه الصور يا ابنتي!
إحسان (تضحك) :
هذه صور فاتنات باريز، ونخبة من كرام العقيلات؛ سقطن جميعا في شراك الهوى، وساقهن السفه إلى هذه البؤرة واحدة بعد الأخرى، فبقي فيها ظلهن كما ترين، فما من واحدة من هؤلاء إلا ولها في الهيئة الاجتماعية لقب ضخم وجاه وعظمة، وما منهن إلا من ظنت أنها امتلكت عنان ذلك الشيطان بفتنة حسنها وندرة جمالها ... وبما امتازت به من الكياسة والظرف، والحال أنها في ضلال الغرور ... وسفه الغرام الأحول، كل هؤلاء عرفت أسرارهن، كل واحدة بدورها من بدء قصة الغرام إلى آخر صفحة منها ، وكلما رأيت انكماش العاشقة بعد اندفاعها، وكآبتها بعد انشراحها، وكلما توهمت دمعة الحسرة والأسف ترقرق بين جفنيها لأول تنبهها بعد الكبوة؛ كلما تيقنت أن المأساة في فصلها الأخير، وأن تلك الدمعة مثال ما يضعه الكاتب في ختام القصة.
أسما :
وهل أحب الفتى كل هؤلاء؟! وهل وسع قلبه كل هذه الصور؟
إحسان :
وسعها يا أمي كما وسعها هذا الدرج. انظري! هذه صورة كونتس ... وهذه دوقة ... وهذه بارونة ... وهذه راقصة ... وهذه عاملة في محل تجاري ... وهذه برنسيس ... وهذه مغنية ... حشرهن جميعا في درج واحد، بدون عناية وبدون تمييز بينهن، مع اختلافهن في المراتب الاجتماعية.
أسما :
ربما فعل ذلك بسبب الاستخفاف أو الإهمال.
إحسان :
إن صاحبات الصور متفاوتات في درجات الحسن ومظاهر العظمة؛ شأن كل طبقات الهيئة الاجتماعية، فمنهن الماركيزة ... والبارونة ... والأميرة ... واللادي والكونتس ... وبينهن الأرملة ... والمتزوجة ... والآنسة ... والمغنية ... والممثلة ... ولكن الفتى لم يحفل بمراتب الاجتماع المزيفة، وزجهن جميعا في لحد واحد، هل تعرفين لماذا؟
أسما :
لا يا ابنتي!
إحسان :
لأنهن تساوين جميعا في عمل واحد؛ هو السقوط الأدبي وفقدان العفة والكرامة.
أسما (تقبلها) :
ليت أولئك النسوة يسمعن ما ترسلين من آيات الحكمة يا بنية؛ إذن لكفرن عن الخطيئة والسقوط بالأسف الطويل، والتوبة مع الرغبة في النهوض.
إحسان :
هل تظنين هذا ممكنا يا أمي، إن الحجر الذي يسقط من قمة الجبل لا بد أن يهوي في سقوطه على المنحدر حتى يبلغ آخر الأعماق ... فكذلك الإنسان ... إذا زلقت نفسه واختل مركز توازنه الأدبي بضياع العفة والاعتصام بالطهر، فإنه لا يزال في انحداره حتى يبلغ أبعد درجات السقوط، فالمخمور تحلو له الخمر وهو يبتسم لها ويفقد إنسانيته، والباغي ينساق مع هوى النفس الساقطة حتى يبلغ أسفل الدرجات.
أسما :
ولكن الضمير يتنبه فيبعث على الندم.
إحسان :
إن تنبه الوجدان بعد الكبوة الأولى يبعث حقيقة إلى الندم ويفيض دموع الأسف والتحسر، ولكنه تنبه شبيه بتنبه الميت قبل الاحتضار، فإنه نشاط تعقبه ضجعة الموت التام والسكون الأبدي، فكذلك تبكيت ضمير المرأة الساقطة ... لا يطول أمره ... يزول سريعا بإغراء شيطان الفجر ... تطلب المرأة الغواء في ذهول الغرام الكاذب ونشاط الشهوة العمياء.
أسما :
صدقت ... صدقت يا ابنتي، ولكن من أين لك كل هذه الأفكار الناضجة السامية.
إحسان (تتناول وردة من الأرض) :
هذه الوردة كانت يانعة في الصباح، ناضرة على غصنها قبل أن تقطف، فكانت محاسنها واتساق شكلها بواعث أغرت الفتى لقطفها، كانت لهذه الزهرة قيمة في نظره ومعزة في نفسه، فلما تمتع بها قاطفها وملكتها يده زالت تلك القيمة وطرحت الوردة في مواطئ النعال، فهكذا يا أمي شكل المرأة الحسناء في نظر العاشق الفاسق ... تزول قيمتها من نظره بعد البلوغ إليها ... والتمتع بها (تخرج خطابا من جيبها وتعطيه لأمها)
اقرئي يا أماه هذا الخطاب، هو أول رسائلي إلى هذا الشيطان (تأخذ الأم الخطاب وتقرأه بينما تقوم إحسان بوضع اللوحة المكتوب عليها لحد الفضيلة إلى جانب السرير) .
أسما :
ما دام الشاب غير ثابت على حب واحد، وغير حريص على مودة من تشتري حبه بعرضها وكرامتها، وتضحي من أجله الشرف وعزة النفس، فإنه غير حقيق بالعناية به ولا الالتفات إليه.
إحسان :
هذا صحيح يا أمي، لو كان الفتى يحب المرأة ثم يتحول عنها، ولكني واثقة من أن قلبه لم يخفق إلى هذه اللحظة بعاطفة حب صحيح، وهو يحتقر المرأة التي تسقط، فكيف تريدين منه أن يحفظ عهدها مع تحققه من خيانتها.
أسما :
صدقت، ولكني إلى الآن لم أعرف اسم ذلك الشيطان الذي عبث بقلبك وأزعج راحة بالك؟!
إحسان :
هو أعز الناس لديك يا أمي، هو معلمي حافظ!
أسما (تضرب صدرها بيدها) :
تصفين حافظ الوديع الساكن بكل ما نسبت إليه من الطيش والانهماك على اللذات؟! ألا تكونين ظالمة يا ابنتي؟!
إحسان (تضحك) :
إن الوداعة والظرف ... وعذوبة اللفظ ... والكلمات الرقيقة ... والمعاني السامية ... هي الوسائل الفعالة في سحر العقول وجذب القلوب.
أسما :
إذن أنا التي عرضتك لأعظم الأخطار باختيار الفتى لتعليمك، آه يا ابنتي! لقد خلعت قلبي من صدري.
إحسان :
معاذ الله أن أتهمه بفرية يا أمي، إنه يراني بعين الاستخفاف ... ويعاملني معاملة طفلة ... فسحق قلبي ونال من كبريائي، فأضمرت له حربا ضروسا تطرحه عند قدمي ذليلا باكيا في قلبه أحر نيران الوجد، وفي نفسه أبرح آلام الحب واليأس.
أسما :
إذن تريدين غوايته؟!
إحسان :
سأحاول فتنته والعبث بعقله وعواطفه، عبثا يشفيه ويجعله يحس الآلام التي أوجدها بقسوته في قلب كل امرأة عرفته، سأنتقم لبنات جنسي بقهر السلطان الجائر، سأجعل صدره موقد العواطف المتأججة ... والآلام المتعاظمة ... لا تفرج عنها الزفرات ... ولا تلطفها العبرات (تأخذ الخطاب من أمها، فتضعه في الغلاف، وتضعه في كتاب، ثم تضع الكتاب في مكانه. ثم تسمع دق جرس الباب) .
إحسان :
تعالي، تعالي يا والدتي بسرعة، فقد جاء الشيطان (تأخذها وتخرج) . (يدخل حافظ شاب متفرنج، فيلقي القبعة ويخلع جاكيته، ويعمل تواليت، ويجلس للمطالعة فيجد الجواب الأول.)
حافظ :
ما شاء الله! خطاب حمله البريد إلي ... غرام ليلة ... امرأة تريد أن تسقط ... (يلقيه على المائدة)
لا تتعجلي، غدا أطالع رسالتك؛ فإنني منهوك القوى في هذه الليلة، وقد سئمت النساء (يجلس ويأخذ الرواية للمطالعة فيقع الخطاب)
ما هذا؟ (يتناول الخطاب من الأرض)
خطاب بعنواني، هذا كتاب لم يحمله البريد! كيف وصل إلى هنا؟! كيف وضع في الكتاب الذي أطالعه قبل النوم؟! طبعا أدخله خادمي، ويل لهذا الأحمق، كيف استطاع أن يؤدي هذه الخدمة مع أني منعته من ذلك! (يدق الجرس بعنف ... يدخل الخادم) (بغضب)
كيف وصل هذا الخطاب إلى غرفتي؟! وكيف وضع في كتابي؟!
الخادم :
لا أدري يا سيدي!
حافظ (يقبض عليه بفظاعة) :
لا أدري يا سيدي؟ ومن يدري إذن؟ أنا! (يدفعه بقسوة)
قل ... تكلم ... من الذي جاء بهذا الخطاب ... تكلم ... تكلم ... اعترف أيها الشيطان، ألم أمنعك من أمثال هذه الخدمات الصبيانية ... تكلم أو أقتلك، من جاءك بهذا الخطاب؟
الخادم :
سيدي ... عنقي ... دعني ... أكاد أموت.
حافظ :
الخطاب من جاء به؟ لماذا وضعته في كتابي؟
الخادم :
سيدي ... صدقني ... أنا لم أره ولم أضعه (يفلت من يده فيجري ويقع حافظ وراءه حتى يخرج من الباب ثم يعود غاضبا) .
حافظ :
الويل لهذا الشيطان، سأطرده من بيتي شر طردة، أنا لا أريد أن يتدخل الخادم في شئوني ... أبدا ... أبدا ... من هي صاحبة هذا الخطاب ... أغوت خادمي ... أغرته على وضع الخطاب في كتابي ... سأنتقم منها ... سأهمل هذا الكتاب ولا أطالعه أبدا (يلقيه تحت قدميه) .
الخادم (يطل برأسه من الباب) :
صدقني يا سيدي أنني لم ...
حافظ (يجري وراءه) :
اذهب من أمامي أيها الأحمق الكذاب (ثم يخلع ثيابه)
ولكن ... لماذا لا أطالع الخطاب وأعرف كاتبته لأسحق قلبها فأنتقم منها على هذه القحة (يأخذ الخطاب ويفتحه ويبحث عن الإمضاء)
ولكن الخطاب بغير إمضاء (يقرأ الخطاب ويضحك)
هذه مداعبة فظيعة، هل تظنين أيتها الحمقاء أن إنكار الإمضاء يخفيك عني؟! أنت ساذجة، أنت بلهاء، عواطفك المتفززة دفعتك إلى الكتابة وإلى الاتفاق مع خادمي، وتلك العواطف هي التي تفضح الأمر، وتجيء بك ذليلة متلمسة إلى هذه الغرفة ... إلى هذا السرير (يشير إلى السرير فيجد اللوحة)
لحد الفضيلة ... ما هذه القحة ... ما هذه الجرأة ... تهينني في مكاني ... في بيتي ... في غرفتي ... تبا لتلك المرأة ... ويل لهذا الخادم (يدق الجرس فيدخل الخادم)
أنت لا تدري من وضع الخطاب في كتابي؟ وهذه اللوحة من وضعها على سريري؟
الخادم :
أي لوحة يا سيدي؟
حافظ :
هذه يا نسل الشيطان ... يا ابن الأبالسة ... هذه ... هذه ... هذه (يضربه بها)
ألا تراها هذه ... هذه ... هذه! (ستار)
الفصل الأول
المنظر الأول (غرفة في منزل إحسان ... والوقت عصر)
خالد :
يجب أن تذعن لإرادتي ... يتحتم عليها أن تطيعني ... أن تعمل بمشيئتي.
أسما :
سيدي البيه يعلم أنها عصبية المزاج، وأنها متعلمة تعليما راقيا لم تصل إليه فتاة مصرية، تربت في الأستانة وتعلمت في باريس، فمثلها لا تكره على قبول زوج يختاره لها أهلها.
خالد :
وهل التربية والتعليم يمنعان الابنة من إطاعة والدها؟ ... ما أحسن ما تصفين به العلم والتربية!
أسما :
ربما لم أحسن التعبير عن غرضي، أردت أن أقول: إن الفتاة المتعلمة لا تكره إكراها على الإذعان، تذعن بسهولة إذا اقتنعت بفائدة ما يطلب منها وبلزومه.
خالد :
كأنك تشجعين إحسان على رفضها التزوج برمزي بك.
أسما :
أبدا، أنا لا أشجعها، ولا أخاطبها بمثل هذه اللهجة، إنما اختصصتك بها حتى لا تعمد إلى الوسائل القهرية كما فعلت أمس؛ فإن الإكراه يثير نفسها ثورة حمق وتعنت فترفض بتاتا وتعاند.
خالد :
أسحق رأسها بقدمي إذا لم تذعن.
أسما :
إن سحق رأسها بقدمك لا يتمم الزواج؛ بل يمنعه، وأنت في أشد حالات الارتباك، وبحاجة ماسة إلى المال.
خالد :
لهذا أريد أن أتمم الزواج ... أريد أن يتم العقد وأقبض المال الذي وعدني به رمزي بك ... أريد أن أسدد بعض الديون ... وأمنع تردد المداينين على بيتي ... أريد أن أحفظ كرامتي في نظر الناس.
أسما :
أنا واثقة من أنك لم تجد وسيلة للحصول على المال إلا اتفاقك مع رمزي بك على إعطائه ابنتك، وإحسان لا تحب رمزي ولا تعرفه، وأنت تتعجل وتريد إكراهها على القبول، ففطنت إلى غرضك وعرفت أنك تبيعها بالمال لذئب من ذئاب البشرية، دعك من وسائل الإكراه، وعد إلى الملاينة، أقنع ابنتك تذعن لإرادتك.
خالد :
لم يعد لنا من متاع غير هذا البيت، وهو مرهون أكثر من مرة، وإذا لم ينقذني رمزي بك من المداينين انتزعوه منا وألقونا في الشارع.
أسما :
أنا لا أجهل ظروفك المحرجة ... ولهذا ألح عليك بملاينة إحسان ... بدلا من إكراهها وقهرها (يدخل الخادم) .
الخادم :
حضر يا سيدي المعلم حسنين الجزار ... وكاتب المخبز ... وحضر البقال.
خالد :
قل لهم إنني غائب في العزبة.
الخادم :
قلت ذلك لفريق منهم فذهبوا، ولكن البقال سمع صوتك وهو يلح في طلب مقابلتك.
خالد :
قل له يعود إلي غدا فإنني مريض اليوم.
الخادم :
سمعوا هذه الأعذار مئات من المرات، وعرفوا أنها غير صحيحة، فهي لا تقنعهم ولا ترضيهم.
خالد :
اصرف الرجل الآن بما شئت من الوسائل.
الخادم :
والله يا سيدي أنا غلبت في توزيع الناس، وكل ما وزع واحد يجي بدله أربعة.
خالد :
لكل شيء آخر، وسأدفع قريبا كل ما علي من الديون.
الخادم :
ربنا يسمع منك، لأن المداينين ما يعرفوش حد غيري، سعادتك بتهرب وتسيبني لهم ياكلوا في وشي ويسمعوني كلام زي السم.
خالد :
ربنا يخلصنا منهم يا حسن.
الخادم (وهو خارج) :
آمين يا بيه.
خالد :
هل رأيت يا أسما ما وصلت إليه الحال؟
أسما :
رأيت يا عزيزي، ولكن هذا خطؤك وحدك؛ لأنني منعتك عن المقامرة فلم تصغ إلي ... وعن الإسراف فلم تحفل بقولي ... لقد بعت كل شيء، وها أنت تبيع آخر ما تظنه ملكا لك ... تبيع ابنتك.
خالد :
أنا لا أبيعها، وإنما أزوجها من رجل غني وجيه متعلم.
أسما :
أنت ترغمها على قبول الزواج للحصول على المال، ترغمها على معاشرة رجل لا تحبه ولا تعرفه، وتسمع عنه أنه مبذر ... سفيه ... مدمن على الخمر ... لا يفارق غرف المقامرة ... ولا بيوت الفساد.
خالد :
ألا تريد تلك الشريرة أن تنقذني من هذه المآزق المحرجة؟ ألا تريد أن تضحي شيئا من أجل أبيها؟ أنا واثق من أن رمزي بك يحبها إلى حد الجنون، فإذا صارت زوجا له تستطيع أن تتحكم في قلبه وفي ماله.
أسما :
رمزي بك يحبها حقيقة، وإنما حب الرجل الفاسق للصبية الحسناء، اندفاع الرغبة القوية بباعث الاشتهاء وحب التمتع حب لا يدوم إلا لمحة ... حب يتلاشى بعد الفزة البهيمية الأولى.
خالد :
إن خراب بيتنا متوقف على رفض هذا الزواج.
أسما :
هذا صحيح، ولكنك تنظر إلى مصلحتك المفردة، وتضحي في سبيلها سعادة ابنتك وهناءها، تلقيها بين ذراعي فاسق فاسد الأخلاق ... وارث ثروة ... يبددها إسرافا وسفها في كل موارد الفسق والفساد.
خالد :
أنت واهمة يا عزيزتي، والوهم يبعد بك في المغالاة ومضاعفة وجوه السوء.
أسما :
إحسان في منزلة ابنتي، ولوالدتها المرحومة أفضال علي ... وعلى بيتي ... فمن المروءة ألا أغفل عن تنبيهك إلى وجوه الخطأ فيما أنت عازم عليه ... أشير عليك ... ثم أترك لك حرية العمل.
خالد :
أنا واثق من إخلاصك يا عزيزتي أسما.
أسما :
وهذا الذي يشجعني على مصادمة أفكارك؛ لأنك لا تنسب عملي لغاية ولا لغرض.
خالد :
معاذ الله أن يتطرق إلي هذا الظن.
أسما :
فاحذر إذن نتيجة ما أنت قاطع بإتمامه، وأؤكد لك أن إحسان لن ترضى به زوجا مهما كانت الظروف والأحوال، ومهما أغضبك امتناعها ورفضها.
خالد :
يجب أن ترجع عن هذا الرفض وإلا أثارت غضبي، وأرغمتني على القسوة والإرهاق.
أسما :
احذر يا خالد بك أن تمد يدك إليها بغلظة؛ فإن إحسان تدافع عن مستقبلها بحكمة وجرأة، وقد استدعت إليها رمزي بك أمس لتباحثه في هذا الأمر.
خالد :
رمزي بك شاب ظريف، وأنا الذي أكرهتها على مقابلته، عسى أن يؤثر في نفسها جمال الشاب وكياسته، فعهدي به عظيم التأثير في النساء؛ ينتصر بسرعة وفوزه محقق.
أسما :
لرمزي بك مجال محدود، فتأثيره في بيئات الفساد على ساقطات مبتذلات راجع إلى تماثل في الأخلاق، وإلى إسرافه المشهور عنه، فلا تتوهم له مثل هذا الفوز مع فتاة حكيمة رشيدة كإحسان.
خالد :
أؤكد لك أنه سيفوز عليها ويجذب قلبها إليه.
أسما :
وأنا أؤكد لك أنه أخفق، وأنها ملأت نفسه يأسا وأقصته حتى لا يعود.
خالد :
يا للشقية! هذا الذي منع رمزي بك من إرسال النقود إلي في هذا اليوم، يا لتلك الجرأة والقحة! ستدفع إحسان ثمن هذه المنغصات (يدق الجرس فيدخل الخادم) .
خالد :
علي بإحسان (يخرج الخادم) .
أسما :
أنا لا أسمح لك أبدا بالاعتداء على هذه الفتاة، إنها ملاك يا خالد بك، وأنت في حال من الجنون لا تعرف معها ما الذي تعمل.
خالد :
إن ملائكة السماء وشياطين الأرض لا ينجونها من العقاب، سترضخ طوعا أو كرها لمشيئتي، ستذعن لإرادتي، ستكون زوجة لرمزي بك رضيت أم لم ترض (تدخل إحسان بعد أن سمعت العبارة الأخيرة) .
إحسان :
أبدا يا والدي، خير لي أن أكون عاملة تربح خبزها بالكد والجهد من أن أكون زوجا لفاسق مقامر.
خالد :
برغم أنفك ستكونين.
إحسان :
مهما كنت قاسيا يا والدي ... ومهما كنت مستبدا ... ومهما كانت أحوالك سيئة ... فإن لك إنسانية الآدمي ورحمة الوالدين، فإذا ركعت عند قدميك بتذلل واسترحام أتوسل إليك ألا تلقيني في بؤرة ذلك الذئب فإنك ترحمني ولا تفعل.
خالد :
ماذا قلت لرمزي بك؟
إحسان :
قلت له إنني لا أحبه ، قلت له إن صفاته لا ترضيني، وإن ماله لا يغويني.
خالد :
أرغمك على قبول هذا الزواج.
إحسان :
أتوسل إليك ألا تفعل، لا تهدم أماني في المستقبل، لا تهدم سعادتي وهنائي، واتق الله في ضعفي فإنك والدي.
خالد :
في هذه الليلة سيعقد عليك رمزي بك، لا جدال ولا مناقشة، هذه إرادتي وكفى.
إحسان :
ترغمني يا والدي على العصيان، لا تدفعني إلى العقوق، لقد بلغت رشدي، وأمري في يدي.
خالد :
بلغت بك القحة إلى هذا الحد أيتها الشريرة الحمقاء ... تغالبي إرادتي ... تمنعين مشيئتي ... ويل لك أيتها الشقية (يرفع عصاه ويجري وراءها) .
المنظر الثاني (الوقت نهار ... منزل)
بكر :
لا تلمني يا صديقي على هذا الضعف؛ فالحب قوة دونها كل قوى الإنسان حتى الحازم الجلود.
خليل :
كلمات عقيمة، تقال للدفاع عن نفس ناكبة فارغة.
بكر :
بل حقيقة يحسها كل الناس، تدركها العقول الرشيدة، إنما ينكرها من لم يجرب الحب، ومن يتصدى للإرشاد اعتباطا.
خليل :
العقل الحكيم! ماذا تدلي إلي حكمة العقل؟ هل تقول بأن سلطان العقل مسيطر على العواطف؟ هل تدعي أن قوة الإرادة تدفع قوة الحب وتصادم تأثير الغرام في القلب؟ نظرية قديمة طال فيها البحث والجدل، ولا قيمة للنظريات حيال الواقع المحس الملموس.
بكر :
من الذي ينكر أن العواطف هي القوة المفردة ذات النفوذ على العقل والإرادة؟ قوة الإرادة يا عزيزي واحدة من قوي النفس؛ فإذا كانت هذه خاضعة لقوة الحب الغاشمة فجزئياتها - ومنها العقل والإرادة - خاضعة ضمنا، وبطبيعة الحال لا يكون لها حول ولا نفوذ، والمرء بغير عقله وإرادته ضعيف مذعن للقوة ذات السلطان المهيمنة على كل مشاعره ووجدانه.
خليل :
ما شاء الله! فلسفة ... اسمع يا شيخ بكر، أنا لا فيلسوف أناقشك ... ولا عالم أخلاقي أباحثك، ماشي على المثل البلدي: على أد لحافك مد رجليك، فأنا على أد عقلي أفهم، أنا بأقول لك: الرجل الذي يضعف للحب رجل ضعيف الإرادة ... طائش أرعن ... منحوس الطالع.
بكر :
وهل تظن الحب عارا على الرجل.
خليل :
مجرد الحب ليس هو العار، وإنما العار ما يغري به الحب ... ما يسوق إليه ... العار ذلات الرجل في سبيل الحب، وباعث تأثيره في نفس المرء وأطاشئها.
بكر :
إذن أنت لا تنكر الحب، وإنما تنكر على المحبين نزعات الطيش والزلل بباعث الحب. الحمد لله، لقد كدت أن أربح الدعوى منك.
خليل :
تربح الدعوى مني؟! عشمك عشم إبليس في الجنة.
بكر :
ولم يا أخي.
خليل :
لأنك في هذه اللحظة ستسخط على الحب ... وعلى المحبين ... وتقلع عن حبك ... وتلعن الحب والحبيب ... وتهدم كل ما بنيت من نظريات الحب ... وتنظر إلى المرأة نظرك إلى العقرب ... والحوى الأفعى.
بكر :
لم أفعل كل هذا يا عزيزي؟ أنا راض بحالي ... قانع به ... متلذذ بالحب، فإن آلامه أشهى وأطيب على نفسي من هنائه ونعيمه.
خليل :
وهل تثبت على هذا الرأي ولا تتحول عنه.
بكر :
نعم.
خليل :
مهما حدث.
بكر :
نعم، مهما حدث.
خليل :
أنت مخطئ، انظر! هذه ورقة صغيرة، فيها طلسم عجيب، إذا قرأته انتزع الحب من قلبك، وبغضك فيمن تحب كل البغض.
بكر (يضحك) :
يا لك من أبله! هل أنت ممن يؤمنون بالطلاسم والسحر وخرافات المخرفين؟! ما شاء الله.
خليل :
قالوا: الجمل طلع النخلة ... قال آدي الجمل وآدي النخلة. خذ هذه الورقة واقرأ ما فيها من الطلاسم، فإذا لم تؤثر فيك وتنتزع الحب من قلبك وتبدل كل أحوالك في هذه الدقيقة أكون رجلا أبله كذابا ... سخيف العقل ... خذ ... خذ يا عزيزي ... جرب فربما تؤمن (يعطيه الورقة ... يأخذها بكر بتهكم) .
بكر :
بعد التعليم العالي ... وبعد الدرس والتجاريب ... لا زلت تؤمن بالخرافة!
خليل :
يا سيدي اقرأ وكذبني.
بكر (يفتح الورقة ويقرأ) : «رمزي بك المحترم، رأيت أن أقابلك للبحث في موضوع زواجنا بعد أن أذن أبي بهذه المقابلة، لهذا أنتظرك في منزلي في الساعة الرابعة بعد ظهر الغد، وتقبل يا سيدي الاحترام ... إحسان» ... ماذا قرأت! رباه ... هذا خطها ... هذا توقيعها ... هذا تاريخ أمس ... من هو رمزي الذي تكتب إليه إحسان؟ إحسان ... إحسان حبيبتي تكتب إلى رجل آخر؟! إحسان خطيبتي تباحث خطيبا جديدا في أمر الزواج؟! إحسان أملي في الحياة ... نصيبي من نعيم العالم ... إحسان حبيبتي روحي وقوتي واغتباطي ولذتي ... تكتب لرجل تباحثه في أمر الزواج؟! رباه ماذا قرأت؟! ماذا رأيت؟! دليلا على عدم الوفاء ... برهانا على الخيانة ... آه ما أشد آلامي! (يرتمي على المقعد)
لا، أنا لا أريد أن أصدق. لا ... ابدا ... حاشا للملاك أن يكون شيطانا ... حاشا لتلك الروح السامية والأخلاق الوديعة أن تكون إلا أفعى قاتلة بخيانتها (يلقي الورقة)
سحقا ليد كتبتك ... لقلم زور هذه السطور ... حاشاك يا إحسان أن تكوني صاحبة هذا التوقيع ... ولكن لا ... هذا خطها لا ريبة ولا شك ... ورقة وصلت ليدي ... أم صاعقة قذفتها علي السماء ... رباه ... قصاصة من الورق ... قطرة من الحبر ... سطور سوداء تنتزع قلبي من صدري انتزاع الحرير من الشوك ... ما أضعف المرء حيال الطوارئ! ما أظلم النفس باطمئنانها للهناء! ما أتعس الرجل باستسلامه بعواطفه وسكونه لمظاهر الحسناء! خدعتني إحسان ... سلبت قلبي ... عبثت بعقلي ... أضاعت رشادي ... أضعفت قوتي ... أوهنت جلدي (يقول لقلبه)
لا تختلج أيها الخفاق النزق ... أيها الأعمى المغرور ... كفاك خفقانا بين جوانحي ... كفاك اضطرابا وجزعا وإلا انتزعتك من صدري بيدي وطرحتك للكلاب.
خليل :
لو كنت أثق يا أخي بالمرأة ... لو كنت أومن بوفائها وثباتها ... ما نغصت عليك هناءك الوهمي واغتباطك بعزة النفس وانتعاشها بالحب.
بكر :
لقد صدمتني صدمة! زعزعت قوتي يا خليل، وخلعت قلبي خلعا عنيفا.
خليل :
من هذا كنت أخشى، إلا أنني لم أحجم عن ردك عن شطط، ما دام البرهان المقنع قد وصل إلي.
بكر :
وكيف وصل هذا الكتاب ليدك؟
خليل :
رمزي بك رجل من معارفي ولي دلال عليه، قابلته اليوم في حديقة الأزبكية جالسا يطالع الصحيفة الأخيرة من رواية، ولشدة إعجابه بها أهداها إلي لأطالعها، وبعد رجوعي إلى البيت بدأت المطالعة، ولسوء حظك ... أو لحسن حظك ... وجدت هذه الورقة في الكتاب، فعرفت خط إحسان ودهشت لأول الأمر.
بكر :
ربما كان الخط لغيرها، وربما كان الإمضاء لإحسان غير التي أحبها.
خليل :
كان هذا أول خاطر لي يا أخي؛ خصوصا وأن الفتاة تربت تربية عالية، وتهذبت تهذيبا صحيحا، وتعلمت علما راقيا، فكان من الصعب علي جدا ... أن أصدق أنها غير وفية ... بعد التضحيات التي ضحتها من أجلك ... وبعد كل ما كتبت إليك.
بكر :
وما الذي جعلك تعدل عن الشك وتتحول إلى التصديق.
خليل :
لم أحتمل أبدا البقاء على الشك، وأردت معرفة الحقيقة؛ خصوصا وأنني أجهل أن رمزي يعرف إحسان، فقصدت شبرا وانتظرت قريبا، إلى أن دنا الموعد المحدد في الخطاب، فرأيت رمزي بك بعيني يدخل بيتها متهللا فرحا.
بكر :
آه ما أقساك يا خليل! إنك ترسل إلى قلبي الطعنة أثر الطعنة ... تمزق صدري ... وتأتي على صبري ... آه ... آه.
خليل :
عهدي بك رجلا يا صديقي، وليست هذه الصدمة أول الصدمات، ولا آخر المزعجات، الألم يتلطف بمرور الأيام حتى يزول، وحب تردك عنه خيانة المرأة يندثر ويزول.
بكر :
هل رأيت الرجل بعينيك؟
خليل :
نعم بعيني، على خطوات مني.
بكر :
ربما خدعك النظر يا خليل.
خليل :
ربما تحاول أن تتظاهر بالغباوة لضعف إرادتك وقلة نخوتك، قلت لك هذا خطها، ورمزي صديقي رأيته في الموعد يدخل بيتها، هذا ما رأيت وعرفت، حملتني الصداقة على إطلاعك عليه؛ حتى لا تبقى مخدوعا، فتصرف بعد هذا كيف شئت، وافعل ما توحيه إليك رجولتك (يخرج) .
بكر :
أليس بينهن وفية؟! علم وتأديب تربية وتهذيب. تحول الشيطان لطهر الملائكة وبراءتهم! فكيف لم تمنع إحسان عن عمل الشياطين؟! لماذا أغرتني ... لماذا أغوتني ... عاهدتني ... فلم خانتني ... أحيت نفسي بالأمل ... قتلتها باليأس ... المرأة ... المرأة ... ملاك إذا أخلصت ... وأنى لها الوفاء والإخلاص ... بنانها الناعم أخشن من أصبع الشيطان وأقوى من اليأس، وعينها الذابلة أحد من السيف وأفتك من السحر ... الشمس ترسل شعاعها النير لكل ذي بصيرة، والحسناء تبتسم لكل رجل حفاز، تخلع مع كل حذاء هوى قديما، وتلبس مع كل ثوب حبا جديدا، آه من المرأة! خدعتني تلك الساذجة ... قتلتني تلك الضعيفة، يا لقلبي من الألم! (يرتمي على مقعد يبكي ... تدخل إحسان) .
إحسان :
أسعد الله مساءك أيها العزيز. لماذا لا تجيبني يا حافظ؟ أنائم أنت؟!
بكر :
من أسمع؟! من أرى؟! رباه الآن!
إحسان :
تنام مبكرا هكذا قبل الغروب؟! يا لك من كسلان! ألا تسرع إلي لتقبلني؟
بكر :
أقبلك؟
إحسان :
ما لك يا حبيبي! أراك مضطربا، أراك في غير حالك المألوفة!
بكر :
صدقت، ألمي أعظم وأقوى من أن يخفيه التصبر.
إحسان :
ماذا ألم بك، مم تتألم؟
بكر :
بي ألم بارح هنا موضعه (يشير إلى قلبه) .
إحسان :
عافاك الله من كل ألم يا حبيبي، ليته في قلبي أنا (تجلس إلى جانبه وتجذبه إليها) .
بكر (يدفعها عنه) :
لا تضاعفي الألم، دعيني. ما الذي جاء بك الآن؟
إحسان :
جاءت بي فزة الشوق ... والحنين لمرآك ... انبعاث الروح إليك.
بكر :
انبعاث الروح إلي؟! ما أكثر انبعاث المرأة لصور الرجال، عني أيتها الخائنة، عني أيها الشيطان.
إحسان :
عنك ... خائنة ... شيطان ... لإحسان توجه هذه العبارات؟! رباه ماذا أصابك؟! (تقترب منه فيدفعها بضعف) .
بكر :
عني أيها الرجس، عني أيتها الأفعى، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.
إحسان :
أنا الرجس؟ أنا الأفعى يا حافظ؟ رباه ماذا أسمع؟! أنا يقذفني حبيبي بهذه السهام؟ أنا لا أصدق أن حافظا يتعمدني بهذه المؤلمات، لا يمكن أن يلفظ هذه الألفاظ وهو في رشده وصوابه، ماذا أصابه؟ حافظ حبيبي، ماذا بك؟!
بكر :
رشاش من سفالة ... أثر من خيانة ... عبث من ماكرة ... إليك عني يا خائنة (يدفعها حتى يخرجها من الباب)
رباه تقتحم غرفتي ... تتمثل أمامي ... يا لجرأة المرأة! يا لتلك الوقاحة!
إحسان (ترتمي عليه) :
حافظ حبيبي ... روحي ... أملي في الحياة ... ماذا أصابك؟! هل جننت؟! لا يمكن إلا أن تكون جننت، أنا إحسان حبيبتك يا حافظ، انظر إلي ... ألا تعرفني؟! ألا تتذكرني؟!
بكر :
إحسان ... إحسان ... تلك التي كانت في وداعة الملائكة وطهر الأبرار ... إحسان الحبيبة الوفية ... إحسان التي سلبت عقلي بحسنها ... وقلبي بلطفها ... واحتلت سويداء فؤادي بآدابها ... أنت إحسان؟ معاذ الله! أنت الشيطان.
إحسان :
حبيبي حافظ، ألا ترى أنك لا زلت تذكر إحسان؟ أنا هي يا حبيبي، انظر إلي ... دع بصرك يقع على وجهي ... دع يدك تلمس قلبي ... انظر إلي ... أنا هي إحسان ... رباه هل جن حبيبي ؟!
بكر :
لا ... لا ... إنما ارتفع الحجاب عن ريائك ... ظهر الدليل على عدم وفائك ... قام البرهان على خيانتك ... فطردا أطردك من هذا البيت.
إحسان :
قام البرهان على خيانتي؟! أنا يا حافظ؟! في ذمة الله حبي ... وما قاسيت من أجلك ... في ذمة الله إخلاصي ... وما عانيت بسببك (ترتمي وتبكي) .
بكر :
دموع كاذبة ... إيمان سفيهة ... مظاهر خداعة ... ليست لها قوة حيال الحق الواضح (يأخذ الخطاب من الأرض)
خذي اقرئي ما كتبت يدك الأثيمة إلى عاشقك الجديد، أينا الخطيب؟ أينا الحبيب؟ ذاك الذي دعي لموعد في بيتك؟! أم أنا الذي تجيئين إلى بيتي؟ هذه اليد كتبت هذا الخطاب ... ضربت ذلك الموعد ... صافحت ذلك المعشوق، هذه اليد نزعت من قلبي الهوى ... ومن صدري الرحمة ببني الإنسان، من هذه اليد أنتزع خاتمي - خاتم الخطوبة - لن يبقى في يدك أيتها الخائنة.
إحسان :
حافظ ... تمهل ... تمهل ... بربك لا تفعل ... لا تأخذ الخاتم ... لا تقتلني يا حبيبي.
بكر (يأخذ الخاتم بالقوة) :
زالت الصلة ... انقطع الأمل ... إلى غيري يا خائنة (تصرخ من الألم ويغمى عليها) . (ستار)
الفصل الثاني
خليل :
وهل تظن أن ادعاءك المرض يؤثر في الحسناء؟! مغرور أنت؟ إن جمالها شرك تصطاد به العشرات أمثالك؟
بكر :
لم أتمارض للتأثير بمرضي في نفسها، وإنما لغرض آخر ستكشفه لك الحوادث.
خليل :
ولماذا تخفيه حتى الآن ما دامت الحوادث ستكشفه لي.
بكر :
لتكون له في نظرك لطف الفكاهة وطلاوة الجديد.
خليل :
وهل أنت واثق من الطبيب وكتم الأمر؟
بكر :
أثق به ثقتي بك وأعظم.
خليل :
في كل حادث جديد ... يظهر لك أصدقاء لم أكن أعرفهم من قبل، فإنك تخفي عني أسرار كثيرة.
بكر :
أنت لا تعرف من أسراري إلا النزر اليسير الذي يحتمله عقلك، وكذلك كل واحد من أصدقائي.
خليل :
إذن هي عدم الثقة بنا!
بكر :
بل هو الحرص يا أخي، فلو أنك عرفت كل شيء؛ استلمت قيادي وعشت تحت رحمتك، أما التكتم وإدارتي شئوني بحكمة وحرص فإنها السبيل الوحيد الذي يضمن لي السلامة، ويجعل الجميع تحت رحمتي.
خليل :
وهل يعرف الطبيب أمر حبك لإحسان.
بكر :
نعم؛ لأن لعمله مماسا بالفتاة.
خليل :
وهل تقلع عن حب تلك الحسناء رحمة بنفسك؟
بكر :
الحب يا خليل بغير إرادة الإنسان واختياره، وكذلك الكراهة.
خليل :
ولكنها تبحث عن زوج غيرك، فماذا تؤمل من حبك؟
بكر :
لا أؤمل غير النسيان والترك وشفاء القلب من علته؛ فأمام كتابها إلى رمزي بك ... أمام الدليل المحس يتحتم علي إغفالها، أما عواطفي ... وفؤادي ... وضميري ... فلها غير هذا الشأن.
خليل :
ألا زلت في شك من أمرها.
بكر :
كثيرا ما ينخدع العقل بالظواهر الكاذبة، أما الأدلة العقلية فإنها أقوى الحجج وأدمغ البراهين. (الخادم يدخل خادم أخرس ويشير إشارات يفهم منها حضور مبرقعة.)
خليل :
شذوذ حتى في اختيار الخدم! يا ألله! ما هي الفائدة من اختيارك الخادم الأخرس؟! لو كان ناطقا لوفر عليك عناء الانتقال لفهم ما يشير إليه.
بكر :
خرس الخادم نأمن معه فلتات لسانه في الطريق، وصممه يبعد عنه سماع ما يحكى هنا وما يقال، اذهب أيها الأحمق وانظر من الزائرة (يخرج خليل ويقول وهو خارج) .
خليل :
لعنك الله لعنة أبدية، ولعن كل زائريك وخدمك، والشياطين التي تمر ببيتك.
بكر :
من يدعي المرض عليه التمارض، وعليه أن يحسن آهات الألم وأنات العليل، وإلا نمت عليه العافية، وفضح سره الجهل (يرقد على السرير) .
خليل (من الخارج) :
هذه خطيبتك الآنسة إحسان هانم، شق عليها أن تكون مريضا ولا تزورك (يدخل ومعه إحسان) .
إحسان :
حافظ ... أمريض أنت؟! إن مقاطعتك لا تمنعني من زيارتك وأنت مريض، فإن عهد حبنا أبدي لا تلاشيه إرادتك.
خليل :
المريض في شدة العلة وبارح الألم، والانفعالات النفسية تؤذيه، فاتركي العتاب يا سيدتي لوقت آخر.
إحسان :
صدقت يا أخي، إنما لم أتمالك عواطفي أمام هذا المشهد المؤلم (تقترب من السرير)
حافظ حبيبي ألا تسمعني؟ ألا تراني؟
خليل :
إنه لا يسمع ... ولا يفهم ... ولا يدرك ... ولا يرى ... فهو فاقد الصواب في هذيان الحمى، ودنوك منه خطر عليك، تعالي ... تعالي بعيدا عن خطر العدوى.
إحسان :
رباه؟! هل هو مريض إلى هذا الحد المزعج؟
خليل :
طحنه المرض، وإنه لتكاد تودي به الحمى.
إحسان :
وماذا أصابه يا سيدي ؟
خليل :
لا أدري يا سيدتي سوى كونه مريضا وكون الطبيب يعالجه. هذا مبلغ علمي.
إحسان (تقترب من السرير) :
ومتى يجيء الطبيب؟
خليل :
قلت لك لا تقتربي من فراشه؛ فإن الطبيب يمنع ذلك.
إحسان :
إذن هو لا يشعر بوجودي الآن.
خليل :
ولا بوجودي أنا الآخر (يدير حافظ أنظاره في نواحي المكان بدون أن يرى أو يعرف إحسان) .
إحسان :
رفقا به يا رب ... يا إله السماء ... بل رفقا بي أنا ... رفقا بقلبي المعذب ... هذا كل أملي في الحياة ... ونشدتي من العالم ... فلا تفجعني به ... وارث لآلامي وللذي تعرفه من أمري (تبكي ... يدخل الطبيب) .
الطبيب :
كيف حال الشيخ بكر اليوم يا خليل (يفحص المريض) .
خليل :
حاله كما ترى يا سيدي الدكتور، يئن بغير إدراك.
الطبيب :
والدواء.
خليل :
أعطيه له في المواقيت المعينة بكل دقة.
الطبيب (يكشف على القلب بالسماعة) :
ومن هذه السيدة؟ ولم دخلت هذه الغرفة؟ ألم أقل لك إن الحمى معدية.
خليل :
هذه خطيبته إحسان هانم، ولم أجد مناصا من السماح لها بالدخول حذرا من أن ترتاب في قصدي إذا منعتها.
الطبيب :
إحسان هانم التي يهزي بها المريض في بحران الحمى؟! يلوح لي يا سيدتي أن لشأنه معك سببا في المرض الذي يكاد يقتله.
إحسان :
صدقت يا سيدي، فإنه طردني وأهانني لخاطر غير صحيح.
الطبيب :
إن وجودك في غرفته الآن خطر عليه، فإذا تنبه وعرفك بعد ما كان بينكما من الشقاق يؤثر مرآك في نفسه تأثيرا سيئا يقتله في الحال، فالضرورة تحتم يا سيدتي أن تغيبي عن عينيه.
إحسان :
سأفعل يا سيدي الطبيب مكرهة، فإني أفديه بحياتي، إنما بربك طمئني عليه.
الطبيب :
لا أكتمك الحقيقة، الرجل أصيب فجأة بمرض في القلب، ولم يكن هنالك أمل محقق بشفائه، أما وقد حدثت بعض المضاعفات وجاءت الحمى أيضا فإنه تحت رحمة الله، ولا شأن للطب معه.
إحسان :
إذن أنت ترجح وفاته.
الطبيب :
بل أؤكد يا سيدتي الوفاة إذا لم يتداركه الله بعنايته.
إحسان :
يا ألله ... ماذا أسمع ... يموت ... أبدا ... أبدا ... أنا لا أريد أن يموت (ترتمي على حافظ في السرير والطبيب يمنعها بالقوة) .
الطبيب :
لا ... لا تقتربي من المحموم، إنك ترتمين في أحضان الموت.
إحسان (تتملص منه) :
دعني يا سيدي أموت بين ذراعيه، دع الموت ينتزع روحين معا تآلفا في الحياة (ترتمي على المريض)
حبيبي ... روحي ... حياتي ... لا يطيب لي العيش بعدك.
الطبيب (يدفعها) :
لست مجردا من العواطف يا سيدتي، ولكن الرجل الحازم من يدوس عواطفه في سبيل الواجب؛ لهذا أحتم عليك الخروج من هذه الغرفة؛ رحمة بك وحرصا على حياتك.
إحسان :
دعني يا سيدي أموت إلى جانبه.
الطبيب :
عافاك الله من الموت، فإنك في زهرة الصبا وريعان الشباب، والأسف لا يدوم، والحزن لا يقتل. (لخليل)
لا تدعها تدخل ثانيا.
إحسان :
دعوني إلى جانبه، دعوني أؤدي واجبي.
الطبيب :
لا يا عزيزتي ... لا ... لا ... قلت لك لا.
إحسان (تدفع الطبيب) :
دعوني أودعه.
الطبيب :
خطر عليك الاقتراب منه، اخرجي يا سيدتي (يخرجها ويخرج معها خليل) .
الطبيب :
لا تأذن لها بالدخول هنا أبدا، (لحافظ)
أظن أن الفتاة تحبك جد الحب يا حافظ.
بكر :
إذا كانت هذه الظواهر هي التي تحملك على الاعتقاد بأنها تحبني؛ فإن الخطاب الذي اطلعت عليه تدعو فيه رجلا آخر لمفاوضته في أمر الزواج دليل على أنها تحب أكثر من رجل.
الطبيب :
ألا يكون الخطاب مزورا عليها.
بكر :
ثبت أن الخطاب بخطها، وأنها قابلت الرجل في بيتها.
الطبيب :
أما إذا كانت تمثل الحب الكاذب بمثل هذه المهارة فإنها أقدر ممثلة!
بكر :
كل امرأة تمثل العواطف الكاذبة متى شاءت بأعظم من هذه المهارة، فإن الرياء من خصائص المرأة إذا خبثت.
الطبيب :
وهل أنت على رأيك الأول في تمثيل الوفاة والدفن؟
بكر :
نعم. هل جئت بالمخدر؟
الطبيب :
ها هو يا أخي، فأنا لا أضني عليك بنفيس أو عزيز، إنما أتوسل إليك أن لا تكل نفسك إلا لصديق حميم، فالأمر حياة أو موت.
بكر :
شكرا لك يا عزيزي، وسأحتاط لنفسي بقدر ما تسمح به الظروف، فادع لي خليل إذا كانت إحسان خرجت (يخرج الطبيب)
رباه؟! كيف أوفق بين هذه المظاهر التي تتظاهر بها أمامي وبين خيانتها بدلالة الخطاب؟ إنني لفي حيرة وارتياب لأعرف كيف أميز بين وجوه الحق والباطل. (يدخل خليل)
هل خرجت إحسان يا خليل؟
خليل :
نعم يا أخي خرجت في حال يرثى لها، حتى يرجح عندي أنها تحبك!
بكر :
هل غيرت رأيك في تلك الخائنة.
خليل :
أمام هذا الحزن ومظاهر الألم، لا أريد إلا أن أصدق أنها تحبك!
بكر :
والخطاب؟ ورؤيتك الخطيب في بيتها؟
خليل :
هذا الذي لا أفهمه، ولا أعرف كيف يؤول؟!
بكر :
دعنا من الفتاة واجلس لنتفاوض معا في أمر هام (للطبيب)
اجلس يا عزيزي.
خليل :
والله يا أخي ما دعوتني مرة للمفاوضة في أمر هام إلا وكان وراء هذه المفاوضة بلاوي ودواهي ما لها آخر، احكي يا عم احكي ... قول اللي يخلصك من ربنا.
بكر :
سأموت الليلة يا خليل.
خليل :
يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم، طيب قولنا إن المرض نقدر عليه ... ونعمل عيانين! ولكن الموت ... نعمل ميتين إزاي؟!
بكر :
الأمر بسيط جدا، وما دمت أنا الذي سأعمل الميت فالمقدرة وعدمها منوطة بي وحدي، إنما المهم أن نتساءل عن مقدرتك أنت في الذي يطلب منك عمله.
خليل :
وعاوز مني إيه؟! هو أنا عزرائيل حقوم أقبض روحك ... عاوز تموت ... اتفضل موت ... وأنا أتفرج عليك ... وإن قلت لي صوت ... أصوت عليك ... وأملأ الدنيا صوات!
بكر :
دعك من الهزل يا خليل، فإن الأمر هام جدا. هل يمكنك أن تنفذ ما أدلك على عمله ... حتى تتم عملية الدفن.
خليل :
قول لي وأنا أشوف رأيي بعد ذلك.
بكر :
سأشرب هذه الزجاجة فتظهر علي أعراض الموت الكاذب، إنما أفقد وعيي وكل صوابي، فتتصرف أنت مكاني، فأول الواجبات أن تبلغ الأمر لأهلي لكي يملئوا البيت بالندب والصراخ!
خليل :
شيء سهل ... والثاني.
بكر :
أن تبلغ البوليس بالتليفون أن المدعو حافظ نجيب المطلوب القبض عليه توفي في المنزل نمرة كذا بشارع كذا متنكرا باسم الشيخ بكر!
خليل :
وده كمان شيء سهل ... والثالث.
بكر :
عند عملية الغسل لا تترك أحدا من أهلي يدخل معك، وتظهر لهم هذا الخطاب، وفيه الكفاية لمنعهم من حضور الغسل.
خليل :
وصية الميت لا بد أن تنفذ ... وده سهل كمان ... وبعدين.
بكر :
مسألة الكفن تتولاه أنت مع رجل سيحضره حضرة الطبيب خصيصا لهذه العملية ... فيغسل ويكفن، إنما عليك أن تلاحظ تنفيذ تعليمات حضرة الطبيب.
خليل :
عال ... لغاية هنا عال ... ولا أرى صعوبة ... وبعد كده.
بكر :
لي حوش بقرافة المجاورين، وفيه تربتان؛ واحدة تمت وهي مهيأة للدفن. والأخرى لم تتم، فبلغ التربي لكي يحضر المدفن، ثم تباشر الجنازة لغاية المدفن.
خليل :
سهل جدا.
بكر :
وعند الدفن تبكي بحرارة، وتنزل القبر معي، وتضع داخل الكفن، في يدي اليمنى هذا الفانوس، وتضع في يدي اليسرى هذه الزجاجة، واحذر أن تضيع منك أو تكسر، فإن فيها حياتي.
خليل :
وده كمان سهل ... وبعدين.
بكر :
بعد ذلك تخرج من التربة من غير شر وتروح لشغلك ... وأنا علي البقية.
خليل :
يا خبر أسود! يجي لك قلب تتخدر وتنزل التربة وتندفن؟! يا ليلة زي الزفت ... على ناكر ونكير ... يا مسلمين على دي حيلة ... والله يا أخي إبليس ما يعمل دي العملة (للطبيب)
شفت يا حضرة الدكتور عمايل صاحبك.
الطبيب :
معذور، رجل محكوم عليه بعشرات من السنين يريد أن يتمتع بالحرية، فهو يطلبها من طريق القبر.
خليل :
حرية؟! حرية إيه يا خوي! وهو إللي عاوز الحرية يموت علشان الحرية؟!
الطبيب :
نعم يموت، ويثبت رسميا أنه مات ودفن، فيصدر الأمر من الحكومة بكف البحث عنه بسبب الوفاة؛ لأن الموت يلاشي كل القضايا.
خليل :
ولما يخرج ويمشي في الطريق ... يعرفوه ويمسكوه ... كأن يا بدر لا رحنا ولا جينا!
بكر :
بالعكس يا أبله. أمرح في البلاد كيف أشاء، فلا يتوهمن أحد أبدا أنني حافظ نجيب، وإنما يؤكدون أنني شبيه به.
خليل :
يا حفيظ ... بريه ... بريه ... بريه ... دا أنت مصيبة ... إياك يا رب تموت بحق وحقيق ... عشان نستريح منك ... يا باي.
بكر :
هل يمكنك تنفيذ ما ذكرته لك بدون خوف أو اضطراب.
خليل :
شيء أسهل بكثير من غيره.
بكر :
إذا أهملت أموت يا خليل.
خليل :
تبقى صحت، ويدعيلي ألف ألف واحد.
بكر :
هل تتذكر أنك وضعت اليوم صندوقا في بنك الكريدليونيه أمانة ومعها خطاب مني؟
خليل :
نعم أتذكر، إيه يعني؟! حضرتك خايف على الفلوس تتركها في البيت أودعتها في البنك!
بكر :
هل تتذكر أن لك جرائم حكم فيها عليك بعقوبات فظيعة جدا؟
خليل :
أما شيء بارد، وده لزومه إيه دلوقت؟! بتعرف الدكتور أني زيك هربان!
بكر :
أعلم أن الصندوق يحتوي على ما يثبت تلك الجرائم، وما يدل على طرق القبض عليك إذا خطر لك ألا تنفذ الوصايا التي سمعتها مني وتركتني أموت في القبر، فإذا لم أخرج من القبر بعد غد صباحا واسترد الصندوق من البنك يسلمه للنيابة فتقبض عليك!
خليل :
اهرب يا سيدي بعد دفنك!
بكر :
لا تستطيع؛ لأنك مكلف من الآن بأن لا تمشي إلا على قدميك ... لا تركب بسكليت ... ولا أوتومبيل ... ولا ترام ... ولا عربة ... ولا حمار ... ولا أي داهية. فإذا خطر لك أن تخالف هذا الأمر فأصدقائي الذين يقتفون أثرك يدعون البوليس للقبض عليك في الحال!
خليل :
عال ... عال ... بقى روحك بتسلمها لي بضمانة حياتي!
بكر :
نعم هو كذلك. ليس أعز على الإنسان من حياته، ولهذا فرضت عليك هذه الضمانة.
خليل :
ترازي حتى وأنت في التربة ... الله لا يطلعك منها يا بعيد.
الطبيب :
إذا لم يخرج تموت أنت الآخر.
خليل :
والله يا سيدي الموت ولا عشرة اللئيم ده، ما تياله تموت يا سيدي ... مستني إيه.
بكر (يمسك الزجاجة) :
أعطني كأسا يا خليل.
خليل :
كاس الموت إن شاء الله (يعطيه الكأس ... يملأه حافظ) .
بكر :
هل أنت مستعد بتنفيذ الوصايا يا خليل.
خليل :
كل الاستعداد ... الفانوس في إيدك اليمين ... والزجاجة في إيدك الشمال ... إتوكل على الله ... روحة بغير راجعة إن شاء الله.
بكر (يشرب الكأس) :
أستودعكما الله يا صديقي.
الطبيب :
استلق على ظهرك ولا تتحرك حتى يسري الدواء ويظهر مفعوله، إلى الملتقى يا عزيزي (لخليل)
هذه جرأة لا يقدم عليها رجل غير هذا الرجل الجريء، وهذه الجرأة النادرة هي التي تجعلني أحترمه وأقدره.
خليل :
وهل أنت واثق من نجاته من القبر.
الطبيب :
كل الثقة إذا نفذت ما سمعت بأمانة.
خليل :
حافظ صديقي، بل هو أعز علي من أخي، وأنا أفديه بحياتي، كن مطمئنا من هذه الوجهة، ولكن كيف يتصرف البوليس عند وصول الخبر إليه.
الطبيب :
سيجيء ويجدني هنا، فيكتفي بمعلوماتي وشهادتي وينتهي الأمر!
خليل :
وهل أنت خارج الآن؟
الطبيب :
نعم لكي يموت بعد خروجي، وأحضر في الصباح مبكرا جدا قبل أن تبلغ الأمر إلى البوليس.
خليل :
وفقنا الله لإنقاذ هذا الصديق، فإنه رجل.
الطبيب :
إلى الملتقى. كن جريئا حازما يا خليل.
خليل :
إلى الملتقى يا سيدي. (تظهر على حافظ أعراض الألم ... فيخرج خليل ويدعو الخادم والخادمة ... وعندما يدخل الخادم يصرخ بإشارات الخرس ... أما الخادمة فتصاب بالوجم.)
الخادمة :
سلامتك يا سيدي، سلامتك (يقوم خليل بنضح الماء البارد على حافظ ويبكي، وحافظ يتألم حتى يموت) .
الخادمة :
يا دهوتي عليك يا سيدي.
الخادم :
أو ... أو ... (الصراخ يعلو) . (ستار)
الفصل الثالث (إحسان في ثياب سوداء جالسة تبكي)
إحسان :
رباه! كيف أتحمل هذه الصدمة؟ كيف أقوى على هذه النكبة؟ مات حافظ فمات معه الأمل في طيب العيش. دفنوه اليوم فدفنوا معه قلبي وفؤادي ... في جوف القبر جسد ذلك الفتى ... وروح إحسان ترف حواليه ... تؤنسه في الوحشة ... وتناجيه في السكون الأبدي، لم يعشق حافظ جمال الجسم البديع، وإنما آداب النفس وكمالها، لم يرفه من حسن الوجه الصبوح، وإنما سمو المبدأ وجمال الروح، لم تفزه نضارة الصبا المغري، وإنما استفزه إللي عرفه من أمري سوى سري وجهري. أين ذلك النبيل؟ من الذي يطلبون من الزوجة؟! الحسن والدلال والجمال والمال! آه ما أعظم نكبتي فيك يا حافظ! (تبكي ... وتدخل أسما) .
أسما :
تبكين أيتها العزيزة، تقضين كل أوقاتك في البكاء والنوب، إن هذه العيون النجلاء لم تخلق للبكاء والشقاء، خففي عنك أيتها الحبيبة (تحتضنها وتقبلها) .
إحسان :
أشكر لك هذا العطف يا أمي، فإنك القلب المفرد الذي أحس منه الحنو والإشفاق.
أسما :
لوالدتك المرحومة فضل علي لا ينسى ، فأنا أعطف عليك كابنتي وأشفق عليك كل الإشفاق؛ لهذا يجب أن تعتمدي علي كوالدتك، وأن تذعني لرأيي فيما جئت إليك من أجله الآن.
إحسان :
أنا مصغية إليك كل الإصغاء.
أسما :
أنت عاقلة متعلمة، ولك مبدأ طبعا، ونبل عائلتك وسمو تربيتك يقضيان عليك بتضحية بعض مصالحك للحفاظ على شرف البيت، وعلى شرف والدك خالد بك.
إحسان :
ونوع التضحية هو أن أبيع نفسي بالمال لرجل قاس فاسد التربية ليسدد والدي ما عليه من الديون ويحفظ كرامته شهورا محدودة؛ بينما أكون أنا قد بعت شرفي وضحيت آمالي ومستقبلي!
أسما :
أنت لا تبيعين شرفك يا ابنتي؛ لأنك تتزوجين زواجا شرعيا رجلا لا أنكر أنك لا تحبيه، ولكن يجيء عادة بالمعاشرة ثم الموافقة!
إحسان :
قبولي التزوج من رجل لا أحبه - بل أحتقره - طمعا بماله، لصوصية يا سيدتي، فضلا عن أن الزواج على هذه الصورة غير صحيح شرعا؛ لأن القبول الصحيح غير متوفر فيه، والفتاة التي تقبل مثل هذا الزواج تبيع نفسها وعرضها.
أسما :
ولكن أباك سيشهر إفلاسه ... سيباع آخر شيء يمتلكه ... سيخرج من هذا البيت.
إحسان :
هذا جزاء السفه والابتذال، فليتألم كما يتألم غيره، فلو اعتبر بمن سبقوه على هذا المنحدر ما وصل إلى أعماق الهاوية.
أسما :
هذه قسوة منك على أبيك.
إحسان :
هو لم يعرف كيف يشفق، فلماذا تسألين الغير الشفقة عليه؟ أين هي أموالك يا والدتي؟ بددها ... أين ميراثي؟ أتى عليه ... أين ما خلفه له الآباء؟ ذهب إلى جحور الباغيات ... وموائد الميسر.
أسما :
ولكنك ابنته، وفي وسعك الأخذ بيده وحفظ مكانته (يدخل خالد بك) .
خالد :
ابنتي إحسان، اذكري أنني أبوك، وأن لي عليك حق الطاعة، فلا ترفضي ما أشير به عليك.
إحسان :
إن للشرف حقا أقوى من حقك؛ فلهذا أرفض فقد قال الله تعالى في القرآن:
وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما .
خالد :
أنا أدعوك إلى الزواج الشرعي.
إحسان :
بل أنت تكرهني على هذا الزواج فهو غير شرعي.
خالد :
أنا لا أكرهك، بل أطلب منك القبول .
إحسان :
قال سيد المرسلين: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.» وأنت لا تطلب من الزواج ائتلاف الزوجين ولا هناء المتعاقدين، إنما تطلب المال لفائدتك الشخصية.
خالد :
أيتها الحمقاء، نحن على أبواب الإفلاس ... سيباع هذا البيت ... سنطرد منه ... سنلقى في الطريق.
إحسان :
هذا جزاء المبدد، وخير لك أن تفقد هذا البيت وكل ما تملك، بل خير لنا أن نلقى في الطريق معا نتسول أو نعمل بأيدينا كسائر العمال، من أن نضحي العرض للاحتفاظ بالبيت.
أسما :
أنت تفهمين خطأ غرض والدك، هو يريد أن يضحي شيئا من حب الذات، وأن تقبلي الاقتران برمزي بك، فتصلحي من حالة والدك وتحفظي مركزه.
إحسان :
أنتم ترغمونني بهذه المغالطات على ذكر الحقيقة المؤلمة، أي الرجلين؟ الرجل الكريم الذي يعمل بيديه ليأكل إذا فقد ثروته، أم الذي يعيش من المتاجرة بجمال ابنته؟
خالد :
اخرسي، لعن الله بطنا حملك وأرضا أنبتتك وسماء أظلتك، يا مثال العقوق ستدفعي ثمن هذه الوقاحة، سأذلك إذلالا وأرهقك إرهاقا (يهجم عليها فتمنعه أسما) .
أسما :
كن حليما يا سيدي، فإن القوة والإكراه لا يفيدان من كان في مثل مركزك الحرج (يدخل الخادم) .
الخادم :
سيدي ... سيدي ... جاء المحضر ومعه شيخ الحارة وبعض الخواجات لبيع البيت في المزاد العلني.
خالد :
يا للفظاعة! يا للداهية! هل رأيت يا ابنة الأبالسة إلى أين وصلنا بعنادك؟!
إحسان :
هل كنت معك على موائد القمار ... أبدد المال ... وأرهن العقار (يدخل رمزي بك) .
رمزي :
لم تكوني معه أيتها العزيزة، ولكن الواجب يقضي عليك بمعاونة أبيك!
إحسان :
ومن أذن لك يا هذا أن تدخل البيت بغير إذن؟!
خالد :
أنا الذي أذنت له، هذا بيته ... يمرح فيه كيف يشاء، هذه إرادتي. هل فهمت؟
رمزي :
هون عليك يا صديقي، فإن إحسان هانم رقيقة المزاج.
إحسان (لوالدها) :
أنت تأذن للرجل الأجنبي أن يمرح في بيتك كيف يشاء؟! يا لنخوة الرجال! يا لشهامة الأبطال! هذا المنزل الذي تعرضه للامتهان أتركه لك ولضيوفك (تخرج مندفعة فيمسكها رمزي بك) .
رمزي :
إلى أين يا سيدتي؟
إحسان (بشهامة) :
لا تدع يدك تلمس هذا الجسم؛ فإن والدي أذن لك أن تمرح في البيت، لا مع أهل البيت.
رمزي :
ولكنني لم أسئ إليك فلم أقابل منك بهذه القسوة.
إحسان :
لأنك رجل بغير مبدأ ... لأنك مغتصب ... تتخذ من ضعف والدي ومركزه الحرج سبيلا لاقتناصي.
رمزي :
كل حسناء في القاهرة تتشرف بأن أقبلها عروسا لي؛ فإنني من الوجهاء ذوي الشهرة والثروة.
إحسان :
تتشرف بك ... من يقربها بريق الذهب ... ويعميها عن السلوك والأدب!
أسما :
دعها الآن يا رمزي بك. ألا ترى أن المجادلة تزيدها نفورا وشرورا. (لرمزي وخالد بك)
اذهبا إلى المحضر وتمما ما تريدان من الأعمال، ودعوا أمر إحسان إلى غير هذا الوقت.
رمزي (لخالد بك) :
أنا لا أدفع مليما واحدا يا سيدي بعد الآن ما دامت ابنتك ترفض الاقتران بي.
إحسان :
هل رأيت يا والدي؟! هو لا يسدد الدين إلا إذا اشترى العرض، وأنت تمالئه على ذلك أيها الوالد الحنون! آه. أين أنت يا أماه؟! تبصرين كيف يبيع زوجك ابنته الفتاة!
رمزي :
أنا أحبك يا عزيزتي ... أقدس الحب وأعظمه، فأنا لا أشتريك، وإنما أقدم قلبي وثروتي مهرا لديك.
إحسان :
عني يا ذئاب البشر، عني يا غواة القمار والموبقات، فما كل أنثى تغريها زخارف الكذب، ولا كل متأدبة تغويها بالذهب، اتركوني أخرج من هذه البؤرة، دعوني أطلب الصون والعيش بعيدا عن بيت تباع فيه البنات (تحاول الخروج فيهجم خالد بك ويمسكها) .
خالد :
إلى متى العقوق؟! إلى متى الوقاحة؟! إلى متى قلة الأدب والحياء؟! هكذا تخضعين ... هكذا ترغمين ... هكذا تختارين إرادة والدك (تجري أمامه وهو يضربها ويجري وراءها وأسما تحاول منعه ورمزي بك يحاول ذلك أيضا) .
إحسان (تقترب من مائدة وتأخذ سكينا وتطعن بها نفسها) :
بل هكذا أتخلص من وحشية المقامر السفيه (الطعنة الثانية)
هكذا أتخلص من والد يبيع عرض ابنته إرضاء لشهوته (تسقط على الأرض فيقترب منها رمزي)
ابعد أيها المقامر السكير ... ابعد، لا تجعل يدك تلمسني وإلا أغمدت في صدرك هذه السكينة (تصرخ وتتألم) .
رمزي :
ها هي انتحرت ... يا خالد بك.
خالد :
إلى جهنم وبئس المصير ... ابنة عاقة.
رمزي :
ونقودي ... كيف أستردها؟! كيف تردها إلي وأنت لا تملك شيئا ... إيه ... ضاعت أموالي؟!
خالد :
انتحار هذه السفيهة قضى على كل آمالي ... فقدت ثروتي وابنتي وآمالي!
رمزي :
أموالي ... كيف ترد إلي أموالي (يجري نحو إحسان)
إحسان ... حبيبتي إحسان (إحسان في حالة ألم ونزع) .
أسما :
ما هذه الوحشية أمام منظر الدم المسفوك؟! كلكم يبكي ثروته وماله ولا يستدعي الطبيب.
خالد :
بل أستدعي الموت فينقذني من الفقر ... من الألم والشقاء (يجذب السكينة من يد إحسان ويطعن نفسه في صدره) .
أسما :
رباه! إنهم ينتحرون جميعا واحدا بعد الآخر (إلى رمزي)
أنت سبب كل هذه المصائب، وقد انتحرت الفتاة فرارا منك فاخرج، فلا كنت ولا كانت الشهوة التي تجرد الرجال من مبادئهم وإنسانيتهم وتجعلهم وحوشا، اخرج يا سيدي ... أخرج ... ألا ترى أني آمرك بالخروج؟!
رمزي :
ولكن أموالي!
أسما :
اخرج وإلا دعوت الخدم.
رمزي :
اخرجوا أنتم، فإن البيت مرهون لي.
أسما :
إلي ... إلي ... يا خدم البيت ... إلي ... إلي ... أغيثوني ... أدركوني (يأتي خدم البيت فزعين)
اطردوا هذا اللئيم ... فقد كان سببا في موت إحسان ووالدها (يضرب الخدم رمزي ويطردوه) . (ستار)
الفصل الرابع (إحسان في سرير النوم مريضة وأسما إلى جانبها)
أسما :
مسكينة هذه الفتاة، فقد قاست آلاما حادة وعرفت المنغصات وهي في أول فجر العمر وربيع الحياة، فلو أن هذه النكبات حلت على غيرها لسحقتها سحقا (يدخل حافظ) .
حافظ :
كيف حالها اليوم يا سيدتي؟
أسما :
بخير أيها العزيز، فقد زالت كل أسباب الخوف وأظهر الطبيب الرضا والاطمئنان.
حافظ :
وهل تتألم كثيرا إذا مشت؟
أسما :
لا تتألم، وإنما لا زالت ضعيفة، فإن ما سال من دمها لا تعوضه إلا بعد زمن طويل.
حافظ :
وهل شربت الدواء الذي أعطيتك إياه؟
أسما :
نعم يا عزيزي، وفي الوقت الذي حددته.
حافظ :
إذن لا خوف من تنبهها الآن.
أسما :
لا خوف أبدا.
حافظ :
ما كنت أظن أنها تكره رمزي بك وتحتقره إلى هذا الحد.
أسما :
أوضح دلالة على احتقارها إياه أنها انتحرت فرارا من الاقتران به!
حافظ :
لعن الله الظن فقد يودي بصاحبه، آه يا صديقتي لو تعلمين كم تألمت عندما رأيت خطابها الذي أرسلته إلى رمزي بك.
أسما :
توهمت المسكينة أن الرجل على شيء من كرم الأخلاق والمروءة، فاعترفت له بأنها تحب رجلا اختارته للتزوج به، وتوسلت إليه أن يحترم عواطفها وأن يكف عن طلبها من أبيها.
حافظ :
يا ألله! كم كان موقفها حرجا وآلامها بارحة، لقد ظلمتها بإساءة الظن بها، ويلي أنا الشقي.
أسما :
أنت معذور؛ لأنك لم تر غير الخطاب وهو يبعث على الريبة.
حافظ :
لي بعض العذر، ولكنني تسرعت فنجم عن التسرع كل ما حدث لها من الارتباكات والآلام، ولولا لطف الله لماتت بالطعنات التي طعنت بها صدرها، آه يا إحسان الحبيبة، كلما تمثلت يأسك من الحياة وألمك منها ذلك الألم الذي حملك على الانتحار تمزقت أحشائي إشفاقا عليك وعطفا، كفاك تألما ونكدا، ولنبدأ حياة سعيدة هادئة، يجب أن تتنبه الآن ... (ينشقها شيئا فتنتبه) .
انظري يا إحسان. إن القلوب التي تآلفت في الحياة لا يفرق بينها الموت، ها هي روحي ... ترفرف حول فراشك ... تؤنسك في الخلوة ... وتحرسك عند النوم ... اسمعي دقات قلبي ... إنه ليختلج حتى ليكاد يطير من صدري ... تلك قوة الحب ... أقوى من كل شيء ... حتى من الموت، لقد تعاهدنا على الحب فلم تخوني العهد، وكنت بارة وفية؛ لهذا أضع أصبعك في خاتم الخطبة (يلبسها الخاتم)
هذا خاتمي، أنت تعرفينه حق المعرفة، وتعرفيني أيضا، انظري إلي، أنا هو الرجل الذي يحبك بكل قوى نفسه، الذي تحبينه، أنا هو حافظ.
إحسان (كأنها تحلم ... فتصرخ) :
ما هذه الرؤية المزعجة؟
حافظ :
ليست هذه رؤيا، هذه حقيقة، أنا هو حافظ ... القلب الخفاق المحب المنكود ... الرجل المجهول حتى من أخصائه ... المظلوم حتى من ذويه ... أنا هو الروح الحائر (تظهر الانزعاج وتخفي نفسها)
لا تنزعجي، ولا تضطربي، سأعود إلى مقري مع الأرواح، فإن الملاك الحارس يدعوني إليه (ينحني عليها يقبلها ويخرج إلى الوراء ... تظهر شيئا فشيئا علامات التنبه ببطء ثم تجلس وتصرخ) .
إحسان :
رباه! ماذا رأيت ؟
أسما :
حبيبتي! ماذا أصابك؟! ماذا تريدين؟!
إحسان :
أين هو؟ من أين جاء؟! وكيف خرج وتركني؟!
أسما :
من هو يا عزيزتي؟!
إحسان :
حبيبي ... أين حافظ؟! فقد رأيته الآن ... رأيته إلى جانبي ... سمعت صوته ... رأيت وجهه ... لثمني فمه ... أين حبيبي؟ أين حافظ؟ أين أنت أيها العزيز؟!
أسما :
رأيته في الرؤيا يا عزيزتي، فخففي عنك هذا التأثير، فإنه لا يناسب ما أنت فيه من الضعف.
إحسان :
أبدا لا رؤيا، لقد رأيته الآن وأنا بين اليقظة والنوم، لمست جسمه ... سمعت كلماته ... فهمت كل ما قال ... وحفظته كلمة كلمة.
أسما :
إن الحمى لا زالت تؤثر فيك يا بنيتي ... وأنت تعلمين أن حافظ مات ودفن، ومضى عليه أكثر من شهر في القبر، فهل يمكن أن يكون ما رأيت إلا في رؤيا؟!
إحسان (متألمة) :
صدقت يا أمي؛ إن السعادة والهناء لا تعرفها النفس إلا في الرؤيا، فإنها من غير الحقائق الواقعة، صدقت؛ فإن حافظ في القبر، ولكن ما رأيته كان له في نفسي تأثير الحال الواقعة المحسوسة، وكم يظهر العطف علي والإشفاق مما نالني من نكد العيش! وكم اهتزت نفسي وجسمي عندما انحنى علي وألبسني خاتم الخطبة في أصبعي! (تنظر ليدها)
رباه! هذا هو الخاتم ... هذا خاتم حافظ ... فكيف يمكن أن تكون المشاهدات في رؤيا (يدخل الخادم) .
الخادم :
سيدتي جاء المحضر والتجار ورمزي بك، يريدون بيع مفروشات البيت في المزاد العلني.
إحسان :
قل لهم إنني مريضة ألازم الفراش، فيمكنهم أن يؤجلوا البيع إلى وقت آخر. (يخرج الخادم)
ألم يكن الموت خير منقذ في هذه الظروف الحرجة، لقد انتزعوا ملكية البيت وجاءوا اليوم يأخذون الفراش، فكيف أعمل؟! وإلى أين أذهب؟!
أسما :
تعالي إلى منزلي أيتها الحبيبة تنزلين عندي على الرحب، فإنني لا أنسى أبدا أفضال والدتك علي (يدخل الخادم) .
الخادم :
المحضر يشدد بوقاحة، وهو يطلب الدخول مع التجار إلى هذه الغرفة لإجراء عملية البيع.
إحسان :
وأنا مريضة لا أستطيع الانتقال من الفراش! ادع إلي المحضر لعله ظنني أكذب للمحاولة والمراوغة (يخرج الخادم)
ما هذه العدالة الكاذبة؟! لا يرحمون المريض ينتزعون فراشه ... يلقونه في الطريق لسداد دين القمار ... الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون (يدخل المحضر)
أنا مريضة يا سيدي مرضا لا أستطيع معه القيام من الفراش، فهل لك أن تؤجل البيع حتى يتسنى لي الانتقال من الفراش؟!
المحضر :
أنا يا سيدتي آلة في يد القانون، والقانون يحتم أن يتم البيع اليوم، وليس بوسعي أن أخالف القانون، وإن لم أنفذ مشيئة القانون جاء غيري فنفذها في أثاث البيت وفي حضرتي أنا.
إحسان :
وماذا تفعلون بي وأنا ملقاة هكذا على الفراش الذي تبيعونه.
المحضر (يقف متحيرا) :
رباه؟! ماذا يستطيع الرجل الضعيف مثلي أن يفعل في مثل هذه الظروف؟! هل أوقف البيع ... لا أستطيع ... هل أتجرد من الإنسانية وعواطف المروءة والشهامة ... وألقي بهذه المريضة على الأرض لأبيع فراشها كما يحتم القانون ... وحشية لا يحسها القانون، ولكنها تتمثل في أشنع الصور وأفظعها أمام منفذ القانون، ما ذنب هذه المسكينة حتى تتألم كل هذا الألم؟! إنها مريضة ضعيفة! تطرد من فراش المرض وتلقى في الطريق، رباه ... ما أقسى الإنسان ... ما أظلم الناس حتى بالعدالة المشروعة (يدخل رمزي) .
رمزي (للمحضر) :
أنت تضيع الوقت يا سيدي، والتجار يتفرقون سآمة من الانتظار، وهذا ينافي مصلحة البيع في المزاد العلني.
المحضر :
ألا ترى يا سيدي أن هذه السيدة مريضة لا تستطيع الانتقال من سريرها؟!
رمزي :
وهل هذا يمنع من تنفيذ القانون لإعطاء المدين حقه من الدين؟!
المحضر :
ولكن الرحمة فوق العدل، وأنت صاحب الدين؛ فيمكنك الرفق بهذه المريضة والتنازل لها عن السرير ريثما تشفى.
إحسان :
لا تسأله شيئا يا سيدي، فإنني أرفض أن تكون الرحمة منه.
رمزي :
أنا لا أضن عليها بالرحمة، ولا أرفض أبدا أن أقبلها في منزلي بين أهلي، ولو أنها قبلت الاقتران بي ما وصلت إلى هذه الحالة السيئة.
إحسان (للمحضر) :
نفذ يا سيدي ما جئت من أجله، فخير لي أن ألقى في الطريق من أن أقبل رحمة من مقامر مراب فاسق؛ فالفقر والمرض ... وكل أنواع الشقاء ... وغضض العيش ... أقبلها بصدر رحب إذا لم يكن تفريج الكرب إلا بواسطة هذا المرذول، هو غني يا سيدي بالمال قوي بالثروة، وأنا غنية بالقناعة قوية بالمبادئ الشريفة (تحاول القيام فتقع على الأرض فيغمى عليها ... يدخل حافظ متنكرا) .
حافظ (للمحضر) :
لماذا أنتم هنا يا سيدي في غرفة المريضة؟!
المحضر :
بأمر القانون نبيع أثاث الغرفة بالمزاد العلني.
حافظ (يرى إحسان ملقاة على الأرض) :
ومن ألقى هذه السيدة على الأرض؟!
المحضر :
هي التي أرادت النهوض فسقطت!
حافظ :
هل فقدت الرحمة من القلوب إلى حد تبيعون فيه فراش المريضة؟! (إلى رمزي بك)
لقد دخلت هذا المنزل باسم القانون، وانتقمت ممن رفضت الاقتران بك بسلاح القانون، وهذا السلاح هو الذي أستخدمه الآن لطردك من هذا البيت وحفظ كرامته (إلى المحضر)
كم تطلب وفاء للدين والمصاريف يا سيدي؟
المحضر :
مائتي جنيه.
حافظ :
ها هي يا سيدي نقدا في يدك.
رمزي :
ولماذا تدفع أنت المال؟!
حافظ :
أدفعه حتى لا يقال ضاعت في هذا العصر مروءة الرجال، أنت تستخدم المال للغواية، وغيرك يجعله للحماية والوقاية، اخرج يا سيدي فلم يعد يسمح لك القانون بالبقاء.
إحسان :
ولتحي المروءة ممثلة في شخصك المحترم.
حافظ :
أشكرك. ألا تسمعون أنني آمركم بالخروج.
المحضر :
اخرجوا جميعا باسم القانون (يخرجون) .
حافظ (لرمزي بك وهو خارج) :
ظننت يا سيدي أن الفقر والفاقة وضعف المرض ترغم الفتاة على بيع نفسها. كل مهذبة متربية ... كل ذات مبدأ تؤثر الموت على الإذعان مكرهة، فابحث عن نشدتك بين نسوة الطرقات والحانات، لا بين ذوات الصون وثبات العائلات. اخرج يا سيدي.
إحسان :
بأي لسان أشكرك يا سيدي؟! وكيف أوفي لك هذه المروءة؟!
حافظ :
بالمسامحة على هفوة بعث عليها التسرع فأسأت غير متعمد.
إحسان :
أسأت إلي أنا يا سيدي؟!
حافظ :
نعم، أسأت أيها الملاك الطاهر ... أسأت بك الظن، فسببت لك كل هذه المنغصات. (ينزع النقاب عن وجهه ويرتمي عند قدميها)
سامحي المسيء الأرعن واغفري زلته.
إحسان (ترتمي عليه) :
حافظ حبيبي ... حافظ ... أنت حي ترزق (ترجع عنه بذعر )
لا ... لا ... حافظ في القبر ... فمن أنت أيها الرجل؟!
حافظ :
أنا ذلك الذي تظنينه في القبر ... أنا حافظ ... أسير جمالك ... عبد كمالك ... قتيل هواك ... فلماذا تنفرين؟!
إحسان :
حافظ دفنته بيدي ... رأيته بعيني في جوف القبر جثة هامدة ... فكيف أصدق أنك هو ... هذه صورته ... هذه ملامحه ... هذا صوته هذا هو حافظ ... ولكن لا ... حافظ في القبر!
حافظ :
نعم دخل حافظ في القبر؛ خدع الناس جميعا بموته الكاذب ليعود إليك حرا من مطاردة القانون، لا تطلبه الحكومة ولا يطارده الناس، لم أمت يا عزيزتي وإنما جئت لأموت عند قدميك!
إحسان :
وهل تحتال حتى على الموت!
حافظ :
نعم، طمعا بالحصول على الحياة والحرية. إنهم يا إحسان يتخذون من القانون سلاحا كسلاح القناص، والضعيف المظلوم يتخذ الحيلة وسيلة للهرب والخلاص، لقد رأيت بعينيك قسوة العدل ووحشية بني الإنسان معك أنت البريئة المظلومة، لم يحترموا فراش مرضك ولا حجاب خدرك، مثلوا الوحشية بأوضح مظاهرها، فكم غيرك يتألم من أمثال هذه المظالم ... الأفراد ... والجماعات ... والأمم ... والشعوب ... كلها يا إحسان تشكو الظلم. (ستار النهاية)
Неизвестная страница