من شهور قلائل تلقت قواتنا خبرا رقصت له فرحا، أسعد خبر جاءها منذ أن غزت مصر، فقد قتل حامد، تصادف أن كان أحد ضباطنا الذين حضروا محاكمته يمر بداوريته في السوق، ولما رآه أطلق عليه النار في الحال، ولولا أنه فر هو وداوريته في إبان الارتباك الشديد الذي عم السوق، لكانت الجماهير قد أكلتهم بأظافرها وأسنانها.
ولن أحدثك عن الغضب الجامح الذي رج مصر من أقصاها لأقصاها، ولا نتيجة هذا الغضب، ويكفي أن كانت إحدى نتائج مصرعه أن حرقت قلعة شطانوف بكل ما فيها، وثارت القاهرة للمرة الثانية، وأعلن المماليك استقلال الصعيد وأصبح الوضع من الخطورة بمكان، وكثيرا ما رأيت في أحلامي أيامها أننا نذبح كلنا على قارعة الطريق، كنا نحيا فوق قمة بركان نخاف أن يفتح فاه الضخم ويبتلعنا.
وما كادت قواتنا تتنفس الصعداء - رغم كل الاعتداءات التي حدثت - بعد مصرع حامد السلطان حتى جاءتنا أنباء لم نكن ننتظرها، فالفلاحون لم ينقلوا حامد من المكان الذي لقي فيه مصرعه أبدا، ظل في مكانه لا يمسه أحد، وفي ظرف ثلاثة أيام كانوا قد بنوا فوقه ضريحا ذا قبة عالية.
والذي جن له كليبر أن الناس بدءوا يفدون لزيارة الضريح في جموع لا يحصى لها عدد، تتوافد كل يوم وتلتقي حول الضريح كما تتجمع جيوش النمل حول كسرة الخبز، جن كليبر لأنه أدرك أن قتل السلطان حامد لم يغير شيئا، كل ما حدث بعد أن كان حامد اسما تتناقله الأفواه أنه أصبح حقيقة لها مكان وفوقها قبة عالية، تصور حين يصبح الشخص بموته أكثر خطورة من كل ما كانه أثناء حياته، وتصور الجماهير الغفيرة حين تأتي من أماكن بعيدة ساحقة البعد، فقط لتزور ضريح ميت، حتى ولو كان قاتله أحد الفرنسيين!
ماذا كان حامد هذا قد فعل ليتجمعوا حوله بتلك الطريقة المذهلة؟! وهل لأنه قتل فرنسيا انتقاما لمصرع زميله الفلاح يرفعونه إلى درجة كبيرة من التقديس؟!
أم لأنه تحرك في وقت كانت الناس في حاجة لأن ترى فيه واحدا يتحرك كي تنطلق من عقالها وتندفع في كل اتجاه؟!
قلت لأحد العمال الذين يعملون معي: «هل تحب السلطان حامد؟» - «أحسن من أولادي!» - «هل أنت مستعد أن تموت من أجله؟» - «لا أموت مرة واحدة، أموت مرات من أجله!» - «لماذا؟!» - «لماذا؟! هذه مسألة لا يصح فيها السؤال.» - «هل تعرف عنه شيئا؟» - «كل ما أعلمه أنني مستعد أن أفديه بروحي.» - «من هو السلطان حامد يا محمد؟» - «يكفي أنه مات شهيدا!» - «ولا شيء غير هذا؟!» - «لا شيء غير هذا!»
لقد جئنا نغزو هؤلاء القوم بتفوقنا، بمدافعنا، وموسيقانا النحاسية، ومطبعتنا، وتفاعلات كيميانا، ولكن، أنى لنا بقدرتهم الخارقة على التكتل والحب والبقاء؟! أنى لنا بإيمان كهذا؟! أنى لنا بالقدرة على أن نكون أفرادا إذا أردنا، وكتلة واحدة حين نريد؟!
ممكن أن نكون قد أدهشناهم بحضارتنا، ولكن، صدقني لقد روعوني بحامدهم.
ومسكين جنرال كليبر!
Неизвестная страница