كنت قد عدت إلى القاهرة من الإجازة القصيرة، وكلي تفتح لا لمسألة السلطان حامد وحدها، ولكن للحياة نفسها.
وكم أدركت خطئي لأني ظللت فترة طويلة من حياتي لا أفكر إلا فيها وحدها! فكما يقولون قد تجد ما تفكر فيه فيما لا تفكر فيه، وقد تجد ما لا تفكر فيه فيما تفكر فيه.
لا بد أن هذه الحكمة صحيحة إلى حد ما، ولو إلى الحد الذي يجعلني أومن أن لقائي بمدام إنترناسيونال كان مجديا، وبالمناسبة لم يكن اسمها إنترناسيونال، كان اسمها «جين»، ولم أعرف إلى الآن جنسيتها، فأحيانا كانت تقول إنها هولندية، والباسبور الذي معها كان من دوقية لوكسومبرج، وتقول: إن باريس هي محل إقامتها، وحين عرفتها كانت قادمة من جنوب أفريقيا في طريقها إلى زوجها التشيكوسلوفاكي الذي يعمل مهندس مناجم في بولندا، وبالشرف، أني لا أبالغ؛ فهي نفسها لم تكن تجد غرابة في هذا، كانت تهز كتفيها ببساطة وتقول: أنا إنترناسيونال، أما كيف عرفتها، فالمسألة في بساطة جنسيتها، الصدف المحضة دفعتني لأن أزور الإسماعيلية عقب الاعتداء الثلاثي على مصر، والصدف المحضة هي التي دفعتني لأن أقابل أحد أصدقائي الأطباء في مطعم اللوكاندة التي كنت أنزل فيها، والصدف المحضة هي التي دفعت صديقي هذا لأن تتولاه «نوبة شهامة» ويدعوني لأن أقيم معه في حجرته بمستشفى الإسماعيلية وكان يعمل فيه طبيبا مقيما، وأنا أحب جو المستشفيات والملابس البيض الحسان، ورائحة اليزول إذا جاءت إلى أنفي من بعيد وكانت لطيفة خفيفة.
وهناك عرفت مدام انترناسيونال، كانت إحدى مرضى المستشفى، وكانت موضوعة تحت الحراسة، فقد كانت أحد ركاب الباخرة «كارولينا» السويدية التي حجزها الاعتداء الغاشم في مياه القنال.
وكانت جين هذه ملحوسة لحسة منقطعة النظير، فهي لم تكن مريضة، ولكنها حاولت الانتحار في الباخرة، وأنقذوها في أول لحظة، ولكنها ادعت أنهم جاءوا متأخرين بعدما سرى الأسبرين في جسمها، وأن قلبها ما لم يعمل له «رسم» سيتوقف في الحال، وإذا عرفنا أن الباخرة لم يكن فيها جهاز رسم قلب كهربائي أدركنا أهداف مدام انترناسيونال، كان هدفها أن تهبط إلى البر وتعيش في مصر؛ إذ كانت قد زارت تسعا وثلاثين بلدة من بلاد العالم وكانت تريد أن تكملها الأربعين لتستطيع إذا عادت إلى باريس أن تحكي لصديقاتها عما رأته في الأربعين.
وسألتها: «ألست ذاهبة إلى زوجك في بولندا؟»
فقالت: «لا، نحن نلتقي على الدوام في باريس، فأنا لا أستطيع أن أحيا في غير باريس.»
وقلت لها مرة: «لم لا تفكرين في هدف لحياتك؟»
فقالت: «كيف أفعل هذا وهدفي في الحياة أن أحيا بلا تفكير؟!»
ولو لم تقل ذلك بطريقتها البادية الصنعة لحسبتها فيلسوفة، أو من المفكرين، وكان صديقي الطبيب لا يكاد يستقر في الحجرة أثناء الليل أو النهار خلال الأيام الثلاثة التي مكثتها في المستشفى، ما تكاد تمضي دقيقة حتى نسمع دقا: «الخواجاية عندها مغص يا دكتور»، ويذهب صديقي فلا يجد مغصا ولا إسهالا، ولا يكاد يعود حتى يعود الدق من جديد: «الخواجاية عندها احتباس في البول.»
Неизвестная страница