ولم أستطع إجابته، وكان أبي قد حضر فشيعنا إلى الباب وهو يضع يده ذات الأصابع الخمسة على كتفي ويقول لي: «يا بني، فيه حاجات كتير في الدنيا دي مالهاش تفسير، فاشمعنى نقيت حكاية السلطان حامد عشان تموت نفسك عشانها؟! علشان تلقى لها حل لازم تفكر وعشان تفكر لازم تكون عايش، وعشان تعيش لازم تاكل، كل!»
وظللت آكل حتى أبطلت التفكير، وحتى نما جسدي وكبرت، وتركت مدارس ودخلت مدارس، ونسيت كل شيء عن حكاية السلطان كعادتنا حين ننسى إذا كبرنا كل ما أرق تفكيرنا ونحن صغار.
6
وبعد سنين كثيرة وسنين، كنت في إجازة في البلدة ذات صيف، وعدت إلى البيت بعد المغرب فوجدت رجلا غريبا جالسا في وسط الدار يلتهم لقم العشاء بسرعة وتوحش.
ولم أستغرب لوجود الرجل، فقد قلت إنه لا بد واحد من ضيوف جدي الغريبين، وكان جدي رغم مضي كل تلك المدة لا يزال عجوزا كما هو، ولا يزال يزاول هوايتيه المحببتين، شرب القهوة الحلوة خلسة، واستضافة الغرباء، وكانت هوايته الأخيرة هذه مبعثها حبه الشديد للحديث، كانت لذته الكبرى أن يجد مستمعا ليحكي له، أو يجد حاكيا ليسمع له، وكان ساخطا على بلدتنا التي لم يعد فيها أحد يحسن الكلام، وفي النهاية أن من يحسنون فن الحديث قد ماتوا خسارة وتاواهم التراب، وتركوا جيلا كالبهائم المكممة لا يجيدون الكلام وكأنه بفلوس، ولهذا كان جدي شغوفا بكل غريب يهبط إلى بلدنا، وكان نادرا ما يهبط إليها غريب.
وما كان أسعده حين يتلفت للسلام بعد صلاة العشاء في الجامع فيلمح بين صفوف المصلين غريبا، فعادة الغرباء إذا هبطوا القرى أن يذهبوا إلى الجامع حيث فرص الاستضافة أكثر، وحيث يمكن المبيت إذا لم يجدوا المضياف الكريم، وكان جدي ما يكاد يلمح أحدهم حتى يسحبه من يده إلى بيتنا، وكم من المشاكل كانت تنشب ، ولكن كان لا بد أن توقد النار في النهاية ويتعشى الضيف، وتوشوش كنكة القهوة على مهلها في النار ويتكئ جدي على مسندين ويخرج صندوق «المضغة»، ويروح يلوك أوراق الدخان التي قضى ساعات كثيرة من اليوم يدقها في الهون ويضيف إليها التوابل، ولا بد أن يحضر جدي للضيف كيفه، سجائر إذا كان يدخن، وجوزة إذا كان من كيفه المعسل ويبدأ بهذا الكلام.
وغريب أمر هؤلاء الناس الذين كانوا يفدون على بلدنا؛ إذ هم في العادة لم يكونوا يزورونها لقضاء عمل معين، هم فئة عجيبة من الناس تلف القرى وتقضي في كل قرية ليلة، ومعظمهم لا يجيدون حرفة ما، أناس هائمون على وجوههم هكذا، أو كما يقولون سائرون بلاد الله لخلق الله، بعضهم لصوص تابوا، وبعضهم عمال من المدينة عاطلون، وبعضهم عندهم لوثة، وكثيرون فلاحون أفلسوا من كار الفلاحة الشاق ولم يوفقوا إلى عمل آخر، ولكنهم يتفقون جميعا أن لكل منهم قصة، وقصة في أغلب الأحيان رهيبة دامية؛ أزواج عشقت زوجاتهم عليهم وطردتهم بعدما جردتهم من كل ما يمتلكون، أناس يقولون إنهم محكوم عليهم بأن يظلوا تائهين في بلاد الله هكذا إلى أن يحين أجلهم، وتسأل عمن حكم فيقولون: هو، فتقول: من هو؟ فيقولون: هو والسلام! أناس تلمح في عيونهم نظرة حائرة تائهة غير مستقرة، نظرة كلب ضال، نظرة من لا يعرف له بيتا ولا أهلا ولا أحد وراءه يهمه أمره، نظرة من لا يعرف إلى أين المصير ولا يهمه أبدا إن كانت الشمس ستشرق مرة أخرى.
ولعلني ورثت تلك الهواية عن جدي، ولكن متعتي الكبرى أنا الآخر كانت أن أربض بجواره إذا جاء الغريب، ولا تستطيع قوة في الأرض أن تنتزعني من مكاني أو تمنعني من سماع حديث الغريب أو تأمل هيئته أو قراءة ما يدور في وجهه.
تلك الليلة أيضا جلست أحدق في الغريب الجديد، كان يرتدي جلبابا قديما من العبك، وعمامة حمراء فيها قطعة سوداء من الخلف، ولم يكن مظهره يدل على حيرة أو جنون، عيناه فقط كانتا مطبقتين على الدوام، لا يفتحهما إلا حين يتكلم حتى إذا ما سكت أطبق أجفانه في الحال.
وكانت لجدي طريقة ساحرة في بدء الكلام وفك عقد اللسان.
Неизвестная страница