فقد اتسعت ابتسامته حتى شملت وجهه كله، وبدأت السلسلة تضطرب في يده، وأصابعه تتجاذبها بلا وعي وفي عصبية.
وقلت في نفسي: عظيم! إنه يريد أن يكلمها.
وأن ينظر الشاب إلى فتاة مسألة سهلة، وأن يبتسم لها مسألة أسهل، أما أن يكلمها، فتلك هي المشكلة، المشكلة التي شغلت جيلنا كله أيام أن كنا طلبة في الكليات وشبانا حديثي التخرج، كنت لا تجد شابا منا إلا ولديه مشكلة من هذا النوع، وكل يوم ينتحي بك صديق من أصدقائك ركنا ويسوق مقدمات طويلة، ويدعي أول الأمر أن المشكلة خاصة بشاب آخر، ثم ينفجر في النهاية قائلا: أحبها يا أخي، وأعبدها، وهي جميلة، وأراها كل يوم، وتراني، وأجلس بجوارها في المدرج أو في الأوتوبيس وأبتسم لها كثيرا، وأحيانا يخيل إلي أنها تبتسم لي، فدبرني، ماذا أصنع؟!
وتجد أن الحل في غاية السهولة، فتقول: كلمها يا أخي، كلمها، ولا بد أن يضحك مستشيرك ضحكة هستيرية مغتصبة ويقول: «وجبت إيه من عندك؟! ما انا عارف، إنما ازاي؟ إزاي اكلمها؟!»
ولا تظن أن مستشيرك هذا قد فتح صدره لك وحدك باعتبارك صديقه الحميم، فلست إلا واحدا من عشرات وربما مئات، حدثهم، وكاشفهم، وخبط رأسه في الحائط أمامهم وهو يقول: «المشكلة كيف أكلمها؟!» وتظل المشكلة معلقة شهورا طويلة وربما سنين، أحد زملائنا ظل يحب زميلة له خمس سنوات بأكملها، دون أن يجرؤ على مخاطبتها، وحين جمع شجاعة الدنيا وذهب يحادثها، ألقى على مسامعها الجمل الخمس التي كان قد جهزها، ثم استأذن منها وغادرها في الحال، حتى قبل أن تفتح هي فمها وترد.
ونفس الوضع لدى الفتيات، ولكنهن لا يملأن الدنيا عويلا وصراخا كما يفعل الشبان، هن يصمتن على نار، والمشكلة تحيرهن، وصدورهن العذراء تحترق احتراقا داخليا لا تطفئه دموع، ولا تنهدات، وتؤججه الأغاني والروايات، وكل جنس يريد الآخر، ويراه، ويلمحه، وليس بينه وبين الآخر مسافة، ومع هذا فهناك حائط زجاجي سميك لا يدري أحد من أقامه ولا يجرؤ أحد على كسره.
ولكن جيلنا أفاق، فوجدنا إخوتنا الصغار، وأطفال جيراننا، وأولاد المعارف، قد استطالت أجسامهم فجأة، واخضرت شواربهم، وكشفوا الصدور والسواعد، وبدأت أصواتهم تتغير، وبدأت إذا حاولت أن تمنع الواحد منهم عن مناقشتك قال لك: «إزاي؟! أنا مش عيل، أنا راجل زيي زيك!»
وكان الشاب لا يزال يبتسم في غموض وحيرة، ويحرك رأسه ليأخذ وجهه أوضاعا مختلفة، وينظر إلى قدميه مرة، ثم يسرح فجأة ويتأمل سقف العربة، ويمسك بعامود الأوتوبيس، ويقبض عليه بشدة لكي تبدو عضلات ذراعه المنتفخة ثم يرمق بقية الركاب، ويتململ محرجا، ويعود ينظر إلى الفتاة، تلك النظرات الخاصة.
وابتسمت، كان الشاب الصغير واقعا في نفس المشكلة التي لم نجد لها حلا، ترى هل لم يجدوا لها هم الآخرون حلا؟ ارتباك الشاب واضح، وأتحداه إن كان يستطيع أن ينجح فيما فشلنا فيه!
كان لا يزال يحاصرها بنظراته ورغباته الخرساء، ويحاول أن تلتقي أعينهما ليكلمها بعينيه، وكانت الفتاة واقفة بجواره تماما، ولكنها لم تكن تنظر إليه، كانت عيناها مركزتين على رأس أخيها الصغير، ومع هذا كانت تبتسم بطريقة ما، ابتسامة تحس معها أن الفتاة وإن كانت لا ترى نظرات الشاب الموجهة إليها وتدعي أنها لا تحفل بوجوده، ومع ذلك تحس من الطريقة التي تبتسم بها أنها تدرك وجوده، وتشعر أنه يحاصرها بنظراته، وأنه حائر مرتبك متردد، وكأن لها ألف عين غير مرئية، تنقل لها بطريقة خفية كل ما يحدث عن كثب منها.
Неизвестная страница