وتدافع الأطفال حول الموكب ووراءه حين خرج من بيت الخولي في طريقه إلى بيت الناظر، ومضى الموكب يتعثر في حزنه وحماسه في طرقات العزبة المليئة بأكوام الأتربة وقش الأرز، والدنيا نهار، والشمس قريبة من الأرض منكسة، وفاطمة في الوسط لا يزال وجهها متحجرا، وعيونها مفتوحة كعيون العميان وقلبها غائص تحت أقدامها، كلما خطت خطوة أحست أنها تطؤه، وتطأ معه كل خجلها العذرى، وكل أحاسيسها الحلوة أيام كانت طفلة، وأيام كبرت، وأيام كانت تغني في الأفراح، وتحلم بأن يكون لها فرح وزفة وجلوة وليلة حنة حيث يترقب الجميع خروجها ترقبهم للملكة، واليوم هم يترقبون خروجها، مئات العيون تنظر لها، وتحملق فيها، مئات، لا، بل آلاف، الدنيا كلها عيون مفتوحة كالفناجيل لا تنظر إليها وإنما تنظر إلى أخص خصائصها، بلا حياء وبوحشية وتخترقه، وتهتك شرفها، ويسيل دمها، ويقطر لدى كل خطوة تخطوها ولدى كل حجر تتعثر فيه، وهي حافية عارية ذليلة لا يرحمها أحد.
وحاولت صاحبتها حكمت أن تجذب الشاش فوق وجهها وتغطيه، ولكن فاطمة أزاحت الشاش كاشفة وجهها، ما فائدة إخفاء الوجه وجسدها كله عريان؟!
والموكب الحزين المتحمس ذو عشرات الأذرع والرءوس يمضي ووراءه ذيل من الأطفال والكلاب الجائعة، يمضي ويثير سحب غبار، ويشتت قوافل الإوز البيضاء، ويطير العصافير والحمام آخذا طريقه إلى بيت الناظر. •••
في ذلك الوقت كان عم ضرغام خفير الجرن يجعجع ولا أحد يستمع إليه، فالناس قد تعودوا على جعجعته، كان هو الصعيدي الوحيد في العزبة، ومن يوم أن جاء وهو يخفر الجرن، وتعدى السبعين وهو لا يزال يخفره، رأسه ضخم أسود، وملامحه غليظة دائمة التكشير، وشاربه الأبيض طويل غزير كشوارب الكلاب، وشعر رأسه أكرت أبيض، وعرقه يسيل على الدوام بطريقة تجعل وجهه الأسود دائم اللمعان وكأنما يعرق زيتا، وكان لا يتكلم إلا جعجعة لا يفهمها أحد وكأنه هبهبة كلب، ولا يجعجع إلا إذا اقترب أحد من الجرن، حتى ولو بحسن نية، وقد عاش في العزبة ثلاثين عاما لا يعرف أحدا ولا يأخذ على أحد، الكل يعرف اسمه وهو لا يعرف أي اسم، كل ما هنالك إذا كان الواحد منهم بعيدا عن الجرن فليس له دعوة به، أما إذا اقترب أحد جعجع له حتى يبتعد.
ولم تنقطع جعجعة عم ضرغام، فقد كان يجعجع لغريب، كان غريب قد عاد من هروبه واختبأ في «حلة» الذرة في الجرن ليرقب عن كثب ما يدور في العزبة ويتنسم أخبار فعلته الشنعاء، ووجهه الأسمر قد أسود، وطاقيته قد كبسها فوق رأسه بطريقة لا تظهر معها «قصته»، وهو خائف جاد نادم متوجس وكأنما قد أفاق لنفسه بعد غفوة سنين، وأدرك أن قلة أدبه وفراغ عينه وغوايته للنساء كانت عيبا ما بعده عيب، ولمح فاطمة وموكبها وهو في طريقه إلى بيت الناظر، وازداد وجهه سوادا ، وبالغ في إخفاء نفسه داخل كومة الذرة الحطب وكف عن النظر.
كان من فرط خوفه من فاطمة وبعدها في نظره قد ازدادت رغبته فيها، وكلما ازدادت رغبته ازداد بعدها عنه واستحالة وصوله إليها، ولم يكن يريد بها شرا، ولم يكن يريد منها قليلا أو كثيرا، كل مناه كان أن يقول لها العواف مرة، فترد عليه بلهجة يحس معها أنها ترد عليه، عليه هو غريب، ولكنها لم تكن تفعل، وكان يعزي نفسه بإيقاع نساء أكثر، ومع هذا يزداد رغبة في أن ينال من فاطمة كلمة أو نظرة أو حتى لفتة تلقيها إليه عبر الكتف أو من تحت ثقل المقطف، ولم تكن تلك أول مرة ينتظرها فيها غريب وهي في طريقها إلى غيط أخيها حاملة المشنة وفيها الإفطار، تخب في ثوبها الأسود، والمشنة عايقة على رأسها وكأنها برنيطة، وريحها الحلو يهب على الغيط والشجر والخضرة والترع، فيكاد يملأ الجو بعطر كعطر النسيم يوم شم النسيم، لم تكن تلك أول مرة ينتظرها فيها ويراها وهي لا تراه وهو خائف أن تراه، ولكنها كانت المرة الأولى التي يتمنى أن تراه فيها، المرة الأولى التي يتمنى أن يلتقي بها وكأن الأمر صدفة، ويفعل معها ذلك العيب الذي أرقه وأقض مضجعه فوق تبن الوسية، عيب أن تقول لبنت ليست أختك أو أمك: «ازيك يا فاطمة»، فترد عليك بخجل لا ترد به أمك أو أختك.
ولكنها ما كادت تراه خارجا من الذرة حتى تجمدت في مكانها وكأنها رأته عاريا، كما ولدته أمه، وكأنها رأت العيب يخرج لها من الذرة، العيب الذي كواها فرج بنظراته محذرا إياها منه، وإذا بالمشنة تسقط منها، وإذا بها تصرخ بأعلى صوتها، وإذا بالدنيا تنقلب، وإذا به يطلق لساقيه الريح ويهيم على وجهه في الغيطان. •••
وعلى عكس ما توقعت العزبة، رسمت الست أم جورج علامة الصليب على صدرها، وأبدت أسفها البالغ، ورحبت بأن تفعل ما في وسعها لكشف الحقيقة مقسمة بالمسيح الحي، أن تجعل زوجها يحبس غريب في النقطة، ويسلط عليه الظابط ليربطه في ذيل الحصان ويعلقه على عامود التليفون، كانت الست أم جورج معروفة بصلاحها وتقواها وأدبها حتى إن أحدا لم يكن يعرف اسمها الحقيقي، وكانت ترغم زوجها أبو جورج الناظر على أن يصحبها للكنيسة في البندر القريب صباح كل أحد رغم تذمره من هذا العمل وهو الذي يقضي مساء كل سبت يعب كاسات العرقي عند بنايوتي البقال في القرية المجاورة الذي أحال بقالته إلى خمارة، وأم جورج قصيرة بيضاء شاحبة البياض شعرها مفلفل بالشيب وفي منتصف ذقنها ثلاث نقط موشومة، وكانت تعرف فاطمة، وتسمع عنها، وكانت معجبة بجمالها، بل كثيرا ما كانت ترسل في طلبها لتأتي كي تساعدها في عمل صواني البسكويت الذي يفطر به أبو جورج ولا يرضي بسواه، بل أحيانا كانت ترسل لها فقط كي تجاذبها أطراف الحديث، وتأخذ من فمها الحلو كل أخبار العزبة النسوية، وهي المحرم عليها أن تختلط بنساء العزبة، ولولا فارق السن لأصبحت صديقتها الصدوقة.
وأفظع خجل هو ذلك الذي أحسته فاطمة وهي تدلف إلى بيت الناظر لا مطلوبة ولا مرغوبة، وإنما شرفها معروض على الست أم جورج، الست التي كانت بالأمس فقط تقبلها في شفتيها بطريقة غريبة وتقول لها إنه لولا الدين لخطبتها لأخيها الذي يعمل صرافا في البحيرة.
تسمرت فاطمة في مكانها على العتبة، ولكنهن دفعنها دفعا لا مجاملة فيه حتى سقط الشاش من فوق رأسها، وتولت أم جورج طرد جورج من البيت وإغلاق الباب الخارجي وباب الحجرة الداخلي وشيش النوافذ وزجاجها، وكانت مقاومة فاطمة مقاومة الخجل الفطري، ولكنهن تكاثرن عليها وأرقدنها على السرير بالضغط والجذب وتولت إحداهن تقييد يديها، وأمسكت امرأتان كل بساق من ساقيها، وامتدت أيد كثيرة، أيد معروقة جافة، حتى بقايا الملوخية التي عليها جافة، وامتدت عشرات العيون الصادقة في بحثها عن الشرف والمحافظة عليه، امتدت كلها، انغرزت وقلبت وتفحصت حتى وهي لا تدري علام تبحث وأم جورج قد تولاها ارتباك عظيم، وكأنها المكشوف عليها لا الكاشفة، تنهر النسوة بلا فائدة، وتطمئن فاطمة بلا فائدة أيضا، والشد والجذب والصرخات المكتومة تدور في صمت وفي همس مروع، وسكون الترقب قد خيم على الحجرة، وامتد منها إلى البيت وإلى الخارج وإلى العزبة وإلى الكون كله فصمت، صمت حتى وصل الصمت إلى رءوس الرجال حول فرج، وإلى المتناثرين قريبا من الدوار، وعند المكنة وفي الغيط، الذين كانوا يتابعون كل شيء يدور داخل منزل الناظر حتى دون أن يروه.
Неизвестная страница