وجاء الطبيب زوج العالمة المشهورة، وشعر قاسم بأنه شحن الجو بمزيد من التوتر. وسمع أمه وهي تقول: أنا لا أصدق الأطباء ولا أعترف إلا بطبيب واحد هو خالق السماوات والأرض.
وتمر الأيام ويتساءل قاسم أين أحمد؟! أين غابت نضارته وجماله؟!
عاد عصر يوم من الكتاب.
دهمه البيت بمنظر جديد، رأى أهله جالسين في صمت غريب. في حجرة أحمد لمح أمه وجدة صديقه لأبيه، وفي حجرة المعيشة رأى إخوته وأخواته ... عامر وحامد وصدرية وسميرة وحبيبة. أما مطرية فكانت تجهش في البكاء وإلى جانبها يجلس محمد إبراهيم واجما يدخن غليونه. وتسرب الخوف إلى قلبه مع الهواء المفعم بالحزن، وأدرك بطريقة ما أن ذلك العدو الذي سمع عنه في مناسبات ماضية، الذي رآه يخيم فوق الجنازات المتجهة نحو الحسين، قد اقتحم بيته وخطف أحب خلق الله إلى قلبه. وصرخ باكيا حتى حملته أم كامل إلى السطح. ومن وراء خصاص نافذة الحجرة الصيفية رأى جدة أحمد تحمل بين ذراعيها لفافة مزركشة وتستقل حنطورا مع ابنها وعمرو أفندي. وذهب الحنطور يتبعه حنطور آخر يحمل عامر وحامد وعمه سرور أفندي. جنازة من نوع جديد فهل انتهى أحمد؟! أبى أن يصدق ذلك أو يسلم به. آمن من كل قلبه بأنه سيراه مقبلا ذات يوم مطلا بعذوبته الوردية، ولكنه لم يكف عن البكاء. وفي الليل انفض الجميع، نهره أبوه قائلا: كفاية!
فسأل أباه برجاء: أين ذهبتم به؟
فقال عمرو: لم تعد طفلا، أنت في الكتاب وتحفظ سورا من كتاب الله، أحمد مات، وكل إنسان سيموت كما يشاء الله، وهذه هي إرادة الله.
فتساءل محتجا: ولكن لماذا؟ - إرادة الله، ألا تفهم؟! - لا أفهم يا بابا. - لا ... هذه قلة أدب أمام الله ... سيذهب أحمد إلى الجنة بغير حساب، وهذا حظ عظيم ...
فاحذر قلة الأدب.
فصاح: أنا حزين جدا يا بابا. - اقرأ الفاتحة يبرد قلبك.
لكن قلبه لم يبرد. وكان كلما تذكره بكى. وقيل إن حزنه عليه فاق حزن أمه نفسها ... ولم يسل عن حزنه حتى تحطم واقعه وخلق خلقا جديدا لم يجر لأحد على بال.
Неизвестная страница