وتلا ذلك مناقشة مع عدنان الابن الأكبر لأحمد اعتبرها محمود بك قحة تستحق الزجر. وكان أن خاطب الشاب عمه بشيء من العنف اعتده الرجل جريمة. وسرت النار من فرد إلى فرد. تخاصم الشقيقان، وانحازت كل زوجة إلى زوجها ممزقة الولاء لشقيقتها، وتبادل أبناء العم أسوأ ألوان السباب. وتهرأت عروة الأسرة، وانطوى كل فرع على نفسه في دوره بالسراي كأنه لا يعرف الآخر، وخابت مساعي رشوانة وعمرو وسرور في إصلاح البين، بل إن حامد بن عمرو - وكان يقيم مع زوجته شكيرة في دور محمود وأسرته - وجد مشقة وحرجا ليحافظ على صلته الطيبة بآل أحمد خال أبيه. وانتقل أحمد بك إلى العزبة في بني سويف ليتسلم أرضه على كبر، فيزرع ما يزرعه منها ويؤجر ما يؤجره، ولقي في ذلك من المتاعب ما لم يتصوره وتعرض لخسائر لم تجر له في حسبان. وقبيل الحرب العظمى الثانية بقليل أصيب الرجل بالفالج وحمل إلى فراشه بالقاهرة في انتظار النهاية. كان أول من هوى من الجيل الثاني العتيد، وكانت الأمراض ترشح بقية الجيل للحاق به بطريقة أو بأخرى، وكان عمرو ما زال يقاوم الأجل، وفي الحال زار محمود بك وقال له: آن لك أن تنسى الخصام وأسبابه وأن تعود شقيقك.
وصمت الرجل متأملا ثم قال: ثمة أمور لا تنسى، ولكني سأفعل ما يليق بي .. وما تدري أسرة أحمد بك إلا ومحمود بك يستأذن في الدخول. وجموا ووقفوا له متأدبين وقد دمعت أعينهم. وكان بصحبته زوجته وأبناؤه فتم التصافح وقال الرجل: يذهب الشقاق وينسى ويظل القلب ينبض بدقات القربى.
ومضى إلى أخيه المطروح فوق فراشه بلا حركة ولا نطق. انحنت فوزية هانم فوق أذنه وهمست: أخوك محمود بك جاء ليطمئن عليك.
فانحنى بدوره فوقه ولثم جبينه ثم استقام وهو يقول: العفو عند الرحمن، شد حيلك.
ورفع الرجل جفنيه الثقيلين، وتبدى عجزه عن النطق، ولكن لم يشك أحد في الأثر الطيب الذي اختلجت به وجنتاه المحتقنتان. وأسلم الروح عند منتصف تلك الليلة الحزينة.
أدهم حازم سرور
مهندس معماري من خريجي عام 1978. استقبل حياته العملية وهو ابن خمسة وعشرين في القاهرة الحافلة بالمشكلات، ولكنه لم يعثر في حياته بمشكلة واحدة. وتلاطمت حوله أمواج البشر والمركبات وانفجر هديرها مثل عزيف البراكين، ولكنه نعم في فيلا والديه بالدقي بالهدوء والسكينة وشذا الورد والأزهار، وتحير جيله في مسالك الحياة بحثا عن الهوية والبيت والزوجة وتحقيق الذات ولكنه وجد مكتب والده الهندسي في انتظاره ليشغل فيه مركز السيادة المرموق. وسيم مثل أبيه، ومثله أيضا ضعيف العين اليسرى لدرجة العمى، ولا يعرف من شئون الدنيا إلا فنه ولا ينتمي إلا لأحلام التفوق والثراء، ويكاد لرقة دينه أن يكون بلا دين عن غير إلحاد. وقالت سميحة هانم أمه مخاطبة أباه: خسرنا أخاه الأكبر، فدعني أهيئ له حياة محترمة!
فقال برقة مشفقا كالعادة من إغضابها: هذا جيل يختار لنفسه فلا تتحدي كبرياءه ... ولكنها غضبت رغم رقته، اشتعلت كالعادة صائحة: في أسرتكم عرق قذر أخشى أن يسوقه إلى طريق أخيه.
فأشعل سيجارة وقال لها: افعلي ما بدا لك.
ولكن أدهم كان مبادرا بأكثر مما تخيلت، فأخبرهما وهم جلوس في حديقة ميناهاوس صباح يوم العطلة بأنه اختار شريكة حياته ... وفزعت أمه وحملقت في وجهه متسائلة، وحدس الشاب مخاوفها فقال باسما: كريمة، في السنة النهائية بكلية الحقوق، أبوها محمد فوزي مستشار بقضايا الحكومة.
Неизвестная страница