لشد ما أحاول أن أصف الحب وصفا طبيعيا يدنيه من هذه الأفهام الغليظة الجاسية التي تريد أن يخلق فيها الحب من أوصافه لتفهم الصفة والموصوف معا ... وإن الإنسان ليستطيع أن يحيل الجمر فيجعله رمادا، ولكنه متى همد الجمر بقي رماده كأنه همود القدرة الإنسانية نفسها فلا سبيل من بعد إلى بعث الحياة النارية فيه؛ وقديما كان هذا من شقاء أهل العقول في الناس؛ فإن المصلح يستنفد قوى عقله فيهم ولا يزال يأتيهم بكل شيء عفوا سهلا لا احتباس في أمره حتى يأتي الموت على نفسه، ثم لا يكون إلا أن يعرفوا بعد ذلك أنه كان مصلحا ... كالذي ينظر حتى يحور الجمر لعينيه رمادا فيعرف من الرماد أنه كان جمرا، ولو فهم الناس الحب على حقه لاستجدوا لأنفسهم عقولا، فإن الطبيعة نفسها متى أرادت أن تجدد إنسانا لتبعث منه رجلا من رجالها، شاعرا أو حكيما أو بطلا، تجلت على نفسه في صورة إحدى الحسان وتركته محبا، فلا تكون آلام الحب وآماله في باطنه إلا تغييرا نفسيا كأنه على ذلك إنما يهدم ويبنى.
وأعرف رجلا كأنه نزغة شك بين أهل العزائم، وهو من أولئك الذين لا يعرفون الحب إلا عبثا من العبث وباطلا من البطالة، وقد جعل يصفه مرة بأنه جنون أو نوع من الجنون، وأن الشباب ينتحر به انتحارا لذيذا كما ينتحر الصيني بالأفيون، إذ يستل روحه فيتأمل في جوانبها ويتلمى بإشراقها ويلذ هنيهة بأجمل ما صنع الله ثم يردها مريضة كليلة قد حال من الخمود حالها، ثم يفيق وينبعث كأنه مطرود من السماء - ورآني صامتا كأنما تبعثرت نفسي
4
فمر في هذيانه عجلا غير رائث، كأن شيطان البغض ينفس على لسانه، وكأنه ليس في الأرض محب غيري فليس فيها عاذل غيره، وأنا في كل ذلك أصعد فيه وأصوب فلا تأخذ منه عيني إلا رجلا موضوعا في جلده وثيابه كما يطمر لوح الثلج في اللفائف والقشور.
الحب جنون، ولكن النبوغ جنون كذلك؛ أما الشباب الذي ينتحر به فإنما هو ذلك الشباب الهرم الفاني الذي يعدل في بعض النفوس الضعيفة ذلك الهرم الشاب في بعض الشيوخ المتصابين، وليت شعري ما عيب الغذاء الجيد إذا تناوله المحموم فكان غذاء لعلته وحال منها إلى علة جديدة؟
مثل ذلك البغيض يرى الدنيا كأنها معدة واسعة وكأنها فيها قوة من قوى الهضم ... فالمعاني التي لا مادة فيها هي عنده بسبيل المادة التي لا معنى لها، ولن يستطيع أن يفهمه معنى الحب الصحيح بما تشربه نفسه إلا من كان فيه شيء من القوة الخالقة؛ إذ لا فرق بين من يقدر على أن يجعل المعدة قلبا ومن يقدر على أن يجعل مثل هذا محبا ومن يقدر على أن يجعل إنسانا من الناس كأنه أحد الملائكة الذين لا يأكلون ولا يشربون ... ومهما جهدت به فإنك لا تزيده إلا يبسا وموتا، كأشعة الشمس: تميت الزهرة التي نفدت مادتها وهي نفسها التي كانت تحييها من قبل.
لا أنقص عندي من الرجل الذي يحال التمام فيتحول إلى معنى واحد، فيكون عقلا كله أو قلبا كله أو بطنا كله؛ لأنه لا يتم بواحدة من تلك إلا إذا كان فيه العالم كله. إنما هي ثلاثة: المبدأ الشريف للنفس، والفكر السامي للعقل، والحب الطاهر للقلب؛ هذه هي معاني الكمال الإنساني.
وإذا أنت رأيت من ينتحل الحب جبانا بكيئا متبلدا كأنه حشرة في ترابها، ورأيته يبكي بجوارحه وأعصابه المتألمة بدموع أقبح من صبيب العين الرمداء يغسل بها الحب ليجعله طاهرا بزعمه كما يغسل الميت ... فاعلم أنه راجع من آخر الطريق وهو يحسب ظله أنه في أولها؛ لأن عواطفه قد هرمت وأقبلت تدلف في سبيل الحياة، ولا غرو فإنك ترى الطفل يتدفع مسرعا كأنه واثب إلى المستقبل، والشيخ يتسكع مبطئا كأنه منقلب منه؛ والحب والحياة شبيهان في الطفولة والهرم.
آه! ما أبعد ما أحاول وصفه، فإننا نلتقي ألفاظنا الكثيرة في هذا الشعور العميق الذي نسميه الحب ونظن أننا استخرجناه فيها وأن الألفاظ قد لبسته حتى لا فضلة منه؛ وما أشبه ذلك من عملنا بصنيع رجل يدلي في أبعد غور من المحيط حبلا قد طاول به شعاع الشمس حتى إذا هبط القاع جذبه فلا يجد فيه من المحيط كله إلا قياس العمق في لجة واحدة يومئ إليه بلل قليل من نضح الماء.
ماذا تبلغ العبارة من حب تخرج كل أنة فيه وكأنها صوت انقطاع خيط من خيوط الحياة في القلب؟
Неизвестная страница