الحقيقة الخالصة كالصديق الخالص المخلص؛ يجد الإنسان من المال والمتاع ما يبذله ثمنا للدنيا فيحوزها ولا يجد ثمن الصديق إلا أن يبذل له ذات نفسه!
أي عدو لصيق نفذ إلى حياتك أيتها الجميلة، وقد تكفي نظرة واحدة من عينيك النجلاوين وابتسامة واحدة من فمك الوردي ليؤلف الشاعر من وصف تأثيرهما في نفسه كتابا خالدا في فلسفة الصداقة وجمالها، ولذتها في النفس وحلاوة آمالها؟ لقد أنفذوا في قلبك مسمارا من الذهب ... وأصبحت لا تشعرين من ثقل الحياة وآلامها إلا أن هذه الشمس مطرقة ذهبية ترفعها الأقدار لتدق بها عليه من لدن تشرق إلى أن تغيب، فالألم الشديد في بقائه وأشد الألم في نزعه، وإذا انتزعه الموت أو غير الموت أو رقت لك الملائكة يوما فجاءتك في ثياب الحدادين لمعالجته واجتذابه فهل ينتزع من قلبك هذا الثقب العميق الذي أحدثه فيه وملأ غوره بالألم ومرارة الحياة؟
يا لها عداوة ثابتة بعقد وشهود ... وبين القبول والرضى والبركات ... وفي ثياب العرس أيضا ...؟
ويا لها سخرية فظيعة من القلب الإنساني وما فيه من الفضيلة والحب!
ويا له من نفاق بارد يراءى به الله خالق القلب، وتقابل به الملائكة موئل الفضيلة، وتواجه به هذه الحسناء عروس الحب في وقت معا!
وكم من مر رأيت عالما يوثق عقدة الزواج بخطبته، وكاهنا يربط القلبين بكلماته رباطا مقدسا، فكنت أهتز من الفرق إلى القدم خشية أن تكون روح المصادفة العمياء في ثياب هذا العالم أو الكاهن، فإن ثلاثة تأتي إلى الإنسان من تلقاء نفسها وهو ينتفي منها جهده : هذه المصادفة، والعداوة، والنحس؛ وقلما أحس إنسان بإحداها إلا فوجئ بثلاثتها جميعا، وكذلك أشأم ما يعد في الشر تعدد شؤمه!
وأنت أيها القمر حدثني بربك: ألست تسخر من هؤلاء الكتاب والأدباء والمصلحين الذين يصفون داء الشرق المريض المحتضر بمقالات أكثر عددا من تراب القبر، ثم يريدون ليصفوا دواءه فتراهم من اختلاط آرائهم وتنوعها كأنما يحملون صيدلية بحالها إلى بيت المريض زعما أنهم مهما أخطئوا فلن يخطئوا أن يكون في بعض ما تحتويه من السوائل والعقاقير ما فيه شفاء ... ولا يعلمون أن التاريخ الإنساني وإن لم يكن نسائيا غير أن المرأة هي التي تلده وترضعه بأخلاقها حتى يتماسك ويدرج ثم يذهب يافعا، وأن العظمة التاريخية وإن كانت مترجلة إلا أن في باطنها دائما روح أنثى، حتى إنها أعظم ما تكون إذا همت همها لشيء من آمال هذه الروح.
السفينة لا تزال تجري بمجدافيها ما اتجها في الحركة إلى جهة واحدة، فإن اختلفا وتدابرا في هذه الحركة التوت السفينة أولا واضطربت ثانيا وانقلبت آخرا؛ وهل الرجل والمرأة إلا مجدافان في زورق البيت (العائلة) الذي يعبر بهما نهر الحياة!
ألست تعلم أيها القمر وأنت ابن الصحة والعافية الذي هرم ولم يزل فتي، أنه ما دمنا لا نرى عند رأس هذا الشرق المريض إلا لحى وشوارب فإننا لا نرى ثمة إلى أعشاش الجراثيم الاجتماعية ... وأنه إذا وجد هناك نساء من أمهات الحب والفضائل وجد معهن من يلدنهم من رجال العزم والمبادئ الثابتة؛ وهل الحب والفضيلة والعزم والمبدأ المخلوق منها جميعا إلا عناصر الطبيعة الحية في التاريخ الذي لا يموت من بقاء مادته من الإنسان.
واها لهذا المريض الذي يوثقونه بتلك الربط الممزقة من المقالات ويدفنونه في هذه الأكفان المنشورة من الصحف ولا يدعونه يتنفس إلا من جراثيم اللحى والشوارب التي تريه ظلال الآخرة ... وهو في كل ذلك الكرب الذي أخذ بأنفاسه لا يجد السبيل إلى روح من الحياة الطيبة في نفس امرأة فاضلة.
Неизвестная страница