ولكنهم يريدون أن يمحوه بتة؛ أفليس هذا منتهى التوحش في القياس؟
ليت القوم لم يكفروا بالنطق فيما لا يعرفون فقد كانوا يؤمنون بالصمت، وإن السكوت عن الخوض في أمر الغيب ليكاد يكون أفضل بحث فيه؛ على أننا نرى الكلام
2
أصل البلاء، فإن من أهل الأديان من هم شر عليها من الكافرين بها وسواء على الله أكان فاسد الفكر صاحب رأي في الدين أم صاحب رأي في الإلحاد.
ولو نظرت إلى فرق الجدليين المختلفة على كثرتها وتعدد مذاهبها لرأيت أن كل فرقة هي في الحقيقة عقل رجل ذكي - استهوى أصحاب فرقته - لا دين رجل عاقل؛ لأن الدين لا يتجزأ؛ إذ هو عبادة القلب - الذي لا يدل على وحدانية الله شيء مثله - لله الواحد الذي ليس كمثله شيء؛ ولكن العقل لا يترك هذا القلب لنفسه، بل يعده بما فيه من الحس والشعور كأنه رأس ماله في التجارة العلمية، وكثيرا ما يكون أمرهما كالتاجر الذي يخسر ماله ثم يعمد إلى ضبط حسابه بعد خسارته فلا يرد عليه الحساب شيئا إلا تفصيل ما خسره بما يشبه في التحسر واللهفة أن يكون خسارة ثانية!
الفرق بعيد بين أن تكون القوة آتية للقلب من العقل، وبين أن تكون آتية للعقل من القلب، فإن تسلط أحدهما على الآخر يضعف أكثر خواصه، فالعقل موضع الخطأ والصواب؛ لأنه آلتهما جميعا، وأظهر خواصه الشك؛ لأنه الخاصية التي يمكن في العقل أن توفق بين الخطأ والصواب قبل أن يتزايل إثناهما فيتباينا؛ وهذه الصناعة العقلية كثيرا ما يقتضى لها إيجاد المعضلات التي لا تحل كي تلقي للعقل شغلا طويلا ثم يحكم عليها آخر الأمر حكما منطقيا أنها لا تحل ... وكثيرا ما تطلب البرهان على شيء ما فإذا أصابته (أي: البرهان) جعلته شيئا آخر وطلبت عليه برهانا ... وهلم جرا حتى يقطع بها فتصل إلى ما لا برهان عليه.
والخطيئة إنما تكون في العقل بديا، فتخلق فكرا، ثم تنحدر مع القوة إلى القلب كأنها قوة له، ثم تقع وتتمثل وفيها سخط القلب ورضى العقل غالبا أو رضاهما معا في القليل النادر؛ وهذا السخط القلبي هو الذي يترك في الرأس أثرا من ذكراها، وهو الذي يسميه بعض الناس ندما، ويسميه بعضهم صوت الضمير.
ذلك أمر العقل، أما القلب فهو موضع الحقيقة السماوية التي تظهر بين الناس في هيئاتها فيسمونها المحبة، وبين الملائكة فيسمونها الإنسانية، وعند الله فيسميها الإيمان، وما كان في القلب غير ذلك فهو من تسلط العقل واستبداده.
وأنت لا ترى أسعد الناس وأهنأهم بسعادته إلا ذلك الذي يجمع قلبه وعقله أن لا يصدر أحدهما عن الآخر إلا راضيا مرضيا فترى في آثار عقله طهارة القلب وإيمانه، وفي آثار قلبه إجادة العقل وإحسانه: ولو كشف ذلك عن بواطن الأنبياء لتجلت لعينيك هذه الحقيقة ماثلة.
فمن ترى هذا الملحد الذي يحدس لك بعقله وكأنما يحرك يده بعينيك في شبر من الماء، ويحاول أن يوهمك أنه هز السماء وأنت ترى خيال السماء؟ ليخلق الناس إن استطاع بلا قلوب، فإنه سيجدهم لا محالة بلا إيمان؛ وإلا فليتركهم فإن في العالم غير صناعة العقل أشياء كثيرة، واليوم الذي يكون فيه كل الناس عقلاء في الرأي يكون كل الناس مجانين في الحقيقة.
Неизвестная страница