وينتهي التدليك ويقول حمدي: والآن تأخذ الدوش يا سعادة البك. - متشكر يا أستاذ.
ويزداد الأمل في نفس حمدي. إن الأستاذ لا يأخذ أقل من خمسين قرشا بقشيشا، فإن تضاءل المبلغ وتضاءل فخمسة وعشرون قرشا ولا أقل. لا يمكن أن يكون أقل من ذلك. ومن يدري لعل زبونا آخر لا يعبأ بالجو الحار، ويأتي مثل هذا المغفل الذي يستحم. وكان الزبون تحت الدوش يفكر فيما يمكن أن يقدمه بقشيشا. الله يجازيك يا سامح. منك لله. أهذه عملة؟ ماذا أعطي هذا الأستاذ الذي يتقن ثلاث لغات ويتكلم رابعة، وهو بعد هذا كله أو قبل هذا كله على هذه الخبرة العظيمة بالتدليك وبتفاصيل جسم الإنسان؟ خريج معهد عال على الأقل، إن لم يكن سافر إلى الخارج وتخصص. طبعا، وإلا فكيف له بهذه اللغات جميعا؟ وراح يسخط على ابن عمه سامح الذي أوقعه في هذه المشكلة. وينتهي الزبون من الحمام ويذهب إلى حيث ترك ملابسه، ويأخذ في ارتدائها ويأتي إليه حمدي: أتحب أن أساعد سعادتك؟ - العفو يا أستاذ.
فرجت، هي الخمسون قرشا، على الأقل إن لم يصل إلى جنيه كامل. ويقف حمدي بجانب البك، ويروح الزبون يختلس النظرات إلى حمدي، وفجأة يستقر رأيه على أمر، ويطمئن. ويتم ارتداء ملابسه، ويخرج إلى الغرفة الخارجية من الحمام، ويخرج حمدي من ورائه، ويذهب حمدي إلى المنضدة التي يستقبل عليها نقود الزبائن، وقد كاد قلبه أن يقفز من بين جنباته في انتظار البقشيش الذي سيقدمه البك إلى الأستاذ، ويخرج البك المحفظة ويفتحها ويخرج منها جنيها، جنيها واحدا، ويبتسم حمدي: لا بد أن الخمسين قرشا في جيبه لا في المحفظة، كثيرون يفعلون ذلك، كثيرون لا يضعون في محافظهم فئات أقل من الجنيه حتى لا تنتفخ المحفظة بالأوراق قليلة القيمة. ويقدم الزبون الجنيه إلى حمدي ويأخذه ويظل ناظرا إلى الزبون، ولكن الزبون يقول في حزم: ألف شكر يا بك.
ويستدير إلى الباب الخارجي ويدلف منه إلى الخارج.
وحين يعود حمدي إلى البيت تسأله زوجته في لهفة: هل أحضرت الدواء؟ - لا، ولكن أصبحت بك. - ماذا؟!
ويرتفع صراخ الطفل من جديد.
الست عيشة
كان نجاحها في الحياة قوامه أن أثرياء الزمن الماضي كانوا لا يسمحون لزوجاتهم أن يخرجن إلى الأسواق ليشترين ما يحتجن إليه، فلم يكن هناك بد من أن تنتقل الأسواق إلى السيدات في بيوتهن. وهكذا أصبحت بقجة عيشة أم أمين هي محلات الموسكي، وتحت الربع والمغربلين، بل ومحلات شيكوريل وعمر أفندي وصيدناوي وغيرها، تجتمع جميعها على تنافرها وتباغضها في بقجة الست عيشة. وتنتقل هي بين البيوت تعرض ما اختاره ذوقها، أو هي تتلقى الرغبات فتحفظها في دقة ووعي دون أن تكتبها؛ لأنها بطبيعة الحال لا تكتب، وتعود بعد ذلك حاملة كل هذه المحلات بين أعطاف بقجتها العتيدة.
وقد كانت عيشة في ذلك الحين البعيد من الزمن مليحة الوجه، أكسبها حمل البقجة تنغيما في الخطوات، فكأنما هي ترقص حين تسير. وقد كانت ذات قوام فارع مياد يغري العين والخلجات المعربدة في نفوس الرجال.
وقد كانت وظيفتها تلك تثير في نفوس رجال كثيرين مكامن الطمع؛ فهي أولا تكسب الكثير من تجارتها، وهي أيضا ذات مدخل إلى بيوت العلية من القوم، وإن لها عندهم لكلمة، وإن لها في الحديث دهاليز. وقد استطاعت بعد أن مرنت على حمل البقجة أن تحمل في ثناياها صورا لفتيات وفتيان، وأصبحت تبيع مع الأقمشة وحاجيات الستات حديثا عن فلانة بنت فلان، أو فلان بن فلان، ويتم زواج وتقبض عيشة الثمن؛ وهكذا كثرت حول معاصمها الأساور، كما كثرت العقود التي تلفها حول عنقها.
Неизвестная страница