وكان الأستاذ الحكيم بعد أن استمع إلى القسم واقفا يردد هذه العبارات وعيناه تذرفان الدموع، وقد قابلتهما عينا ولي العهد في هذا الموقف الرهيب بدموع حارة، التقت مع دموع الشيخ على رصيف الحديقة المرمري، فانبثق من امتزاج دموع الشيخوخة المتألمة بدموع الشباب المتوثب نور تلألأ في الأجواء ورسم العبارة التالية: ما أجمل هذا الالتقاء! وما أروع هذا الامتزاج في سبيل الإنقاذ!
وما هدأت نفس الشيخ نوعا، حتى أخذ يواصل حديثه بصوت متهدج، فأنشأ يقول:
ح :
تذكر يا بني كيف استذلنا شداد، وكيف يتحكم بالمملكة، إنه أصبح الحاكم وراء الستر والحجب، بعد أن استولى على قسم كبير من أراضي المملكة ومدنها، وتعلم - كما يعلم الواعون من الرعية ورجال الحل والعقد - أن السبب فيما وصلنا إليه من استسلام وخنوع، إنما هو تفكك في أوصال المجتمع، بدأ منذ أن زينت حاشية السوء لجلالة الملك سياسة جديدة؛ هي سياسة فرق تسد، إنها سياسة الطغاة، وهي هي سياسة الطامعين في الاستيلاء على مقدرات غيرهم من الأمم، ويؤسفني أن أقول: إن صاحب الجلالة والدك قد التقى في هذه السياسة الخرقاء مع شداد خصمه، وأصبحا يتعاونان على إذلال هذا الشعب المسكين بتفريق كلمته، وقد كانت واحدة في أوائل ملكه، وفي أيام أجدادك العظماء، ولا فرق عندي أن يكون ذلك مقصودا أو غير مقصود، فالشعب ينهار، ولعل شدادا هو الموحي بتلك السياسة بطريقة غير مباشرة، وما حاجته للإيحاء المباشر وفي خدمته من حول أبيك من جواسيس وأعوان، يخونون بلادهم، ويخدعون الملك ليترفوا وليثروا على حساب شعب مسكين، استمر طويلا يصفق لهم ويهلل، وهو لا يدري أنه يرقص على القبر الذي سيدفن فيه، وأنه يصفق لمن سيتولون أمر دفنه، ولكن الشعب مهما صبر فلصبره حد، ومهما تحمل فإنما يحتمل لأجل، ولا سيما متى استشرى الفساد وتفاقم أمره، وأبعد المخلصون من رجال الدولة والقديرون، لفائدة الأنصار والمحاسيب من جهلة وأغبياء، إلا في شئون الشغب والتدليس، عندئذ تكثر الرشوة، وينتشر البغي والجور، وتتفشى الأمراض الاجتماعية على ما ترانا عليه اليوم، فإذا قدر للأمة البقاء أوقظ روح الخير في رجالها الأحرار، فيقومون للعمل بالتؤدة والحلم والموعظة الحسنة أولا، وإلا فالثورة تصبح واجبة، وكل ثورة فكرية لا تبلغ الهدف تؤدي إلى ثورة الدم حكما حسب طبيعة الحياة، ونحن اليوم - وقد استنفد الأحرار كل ما لديهم من وسائل إعادة الأمور إلى نصابها - في دور ثورة الدم وهي تتهيأ، وأصبحت وشيكة الاشتعال، وأخشى عليك وعلى أبيك وعلى العرش ذاته من لهيب نارها، لذلك أردت مصارحتك لتكون أنت ولي العهد قائد هذه الثورة، فبذلك تحفظ على جلالة أبيك حياته، وعليك عرشك، وعلى الأمة كيانها، وتبعد عنا سيطرة شداد وتحكمه.
و :
أشيخ هرم يتكلم عن الثورة وإليها يدعو، وعلى أبي تريدني أن أثور؟
ح :
ليست الشيخوخة بالعمر، وليس الهرم هرم الجسم، وإنما الشيخوخة في خبل العقل، وما الهرم إلا في خمود نار الثورة في النفوس، لا حياة لأمة لا تستمر نار الثورة مشتعلة في نفوس رجالها، ولا خير في شعب لا يعرف كيف يثور، ولا أمل في ولي عهد يستسلم للدعة، ويطمئن للترف، ويتلهى بالوهم وخرافاته، وبالتقاليد البالية وآفاتها، فلا تجد نار الثورة إلى قلبه سبيلا.
و :
مهلا أيها الشيخ الوقور، والله إن نار الثورة تحرق كياني كله، إنني أرى ما يراه الناس من فساد وإفساد، ومن استغلال واستهتار، ومن بغي وجور، ولكنني ما كنت أدري أنه يجوز لابن أن يثور على أبيه، وما كنت أقدر أن نار الثورة ألهبت قلوب الشيوخ بشعلة الشباب.
Неизвестная страница