وما كاد يصل الشاب في حديثه الصارخ إلى ذكر الحمق والنفاق والجنون والشعوذة، حتى انتفخت أوداج الساحر، واصفر وجهه من الغضب، فثار الناس على ذلك الشاب، وأخذوا يكيلون له الشتائم، فبعضهم أخذ يقول: إنه وقح قليل التهذيب، وآخرون كانوا ينعتونه بالحمق والسفه، وجميعهم قرروا أنه مجنون يجب أن يعالج في مستشفى المجانين، ولم تهدأ ثائرة الناس، ولم تسكن ضجتهم إلا عندما أخذ الجند هذا الشاب، وقد امتنع عليهم فجروه على الأرض جرا دون رحمة ولا شفقة، وكانوا يضربونه بهراوتهم ويركلونه بأرجلهم بعنف وقسوة وجفاء افتر لها ثغر الساحر عن ابتسامة عريضة وزفرة عميقة، عبرتا عن الرضا والقبول وعن التشفي والانتقام، وقد زادت ابتسامته عرضا وطولا وعمقا في مبناها وفي معناها، عندما ألقى الجند القبض على شاب آخر أراد أن يدافع عن رفيقه متمردا على الدجل والشعوذة والنفاق، ومنددا بجهل الشعب وحمقه وانهيار أخلاقه وحقارته.
هذا هو جو الموكب بعد أن اعتقل الشابان، ولا أدري، أكان السبب عدم وجود شبان آخرين، أم أن الخوف والذعر أسكتهم؟ لم يذكر راوي الحكاية شيئا عن هذا، ولكن باستطاعتنا أن نفترض أن الكهول والشيوخ، وهم من تتجسم فيهم روح المحافظة على التقاليد ولو كانت فتاكة، ومهما كانت سخيفة، وهم الذين تأخذهم شعوذة صوفية في عبادة الشكليات والمظاهر وإن كانت سببا للتذلل والانحطاط وقبول الاستعباد، نعم، باستطاعتنا أن نفترض أن هؤلاء وربما انضم إليهم كثير من الأولاد كانوا وحدهم المتظاهرين، وأن وجود هذين الشابين كان صدفة عارضة، كما يمكننا أن نفترض أنه كان هناك شباب من نوع آخر، فسدت تربيته وبكرت شيخوخته، فلم تتحقق فيه معاني الشباب، ولم تتفتح في نفسه أزاهره، مالي أشتط؟ فعفوا يا قارئي العزيز، كان الأجدر أن أقول: ربما كان سائر الشباب في تلك المظاهرة من الشباب الهادئ العاقل الرصين، ومن الذين لم يتذوقوا طعم الجنون، جنون الشباب، وربما كان من الشباب المكبوت أو ممن أرعبه الذعر من تصرفات الجنود.
ومن يدري؟!
وكيفما كان الأمر، فإن الموكب استمر بهدوء وسكون، وعادت له روعته بعد أن ارتاح الناس من جنون الشباب وطيشه، حتى وصل إلى دار الساحر، فترجل هذا وحيا الناس مبتسما ابتسامة الظافر، وحيا الأتباع الذين رافقوه وكانوا في ركابه، وأرسل إلى الملك العظيم تحية الشكر والعبودية والخضوع والتذلل، ودخل داره مطمئنا آمنا.
الفصل الرابع
قال الراوي: لم يتجاوز الساحر عتبة باب الدار حتى بادره الخادم بقوله: القاعة مزدحمة بالزائرين يا سيدي، ويظهر أنهم من الكبار الكبار، وكان الخادم يقول ذلك والدهشة تعقد لسانه.
إنه تعود أن يرى في دار سيده أناسا من السوقة، وأكثرهم من الفقراء، يأتون لمعرفة بختهم أو لكشف الغيب أو المستقبل، وقد يقصدونه لمحاولة استهواء حبيب أو للإيقاع بعدو إذا لزم الأمر، أو للحصول على رقيات وتمائم وتعاويذ وأحراز، يعتقدون أنها تقيهم من العين أو المرض، أو تشفيهم من الأدواء والعلل، أو تحفظهم من السحر ومن تعديات الناس، ومن الأحراز ما يكون للمحبة، فيصبح حاملها محبوبا لدى الآخرين، إلى غير ذلك من أغراض ومطامع قد تواجهها بعض المصاقبات أو تلائمها بعض المصادفات في بعض الحوادث، أو في وهم بعض الناس ممن في نفوسهم ضعف ومرض، وممن في تفكيرهم التواء، فيبنون من الحبة قبة، ويصلون لخوارق العادات بخوارق الانحراف في الفكر وفي الشعور، فتستقر في نفوسهم صور الشعوذة حقائق راهنة يؤمنون بها، ولا يقبلون فيها أي تأويل، والغريب أنهم ينسون أو يتناسون في إيمانهم هذا العدد الكبير، وهو الأكثر حكما، مما لم تواجهه مصاقبة أو تلائمه مصادفة أو وهم من الرقى والتعاويذ والأحراز، وقد أعمى المشعوذون قلوب الناس بإلقاء هذه العبارة الساحرة ونفثها في الصدور: من لا يؤمن لا يشهد. فإذا لم تواجهك مصاقبة أو صدفة اتهموك في إيمانك، وكفى الله المؤمنين القتال، فأنت في حلقة مفرغة ليس لها أول ولا آخر.
وكان إذا ما جاء الكبار فإنهم كانوا يأتونه فرادى ومتنكرين في أكثر الأحيان، أما الكبار الكبار فإنهم كانوا إذا أثر سخف الشعوذة في نفوسهم، يستقدمونه خفية إلى قصورهم أو دورهم، وفي الانخداع بالشعوذة صغار، وفي الاعتقاد بها عار وأي عار، وقد لا يشعر بذل ذلك الصغار وبحقارة هذا العار إلا من ارتفع مستواه عن السوقة من الناس وجاهة أو علما أو خبرة، فإذا ما انطلى سحر الشعوذة على أحد هؤلاء التجأ إلى التغطية والتلبيس، وإلى التنكر والتدليس، وفي ذلك كله، سواء كان ذلك في السوقة أم في الكبار أو الكبار الكبار، دلالة واضحة على ضعف في النفس وخئور في العزيمة، وجبن عن مواجهة الحوادث بتفكير ذاتي واستقلال في التأمل.
ولا تكون هذه الظاهرة إلا في عصور الانحطاط في الأمم، وهي من أولى أمارات التأخر والانهيار.
فلا تستغربن - أيها القارئ الفطن - دهشة الخادم، وقد رأى الكبار والكبار الكبار يغشون الدار بهذه الكثرة دون تنكر ولا استخفاء.
Неизвестная страница