إذ الواقع قد أجبرهم على صنوف من التدرج والمسايرة، بحكم قاس لا يرد، فنظروا في قواعد التصحيح والترجيح عندهم، وخطة اختيار المذاهب والقضاء بها، وهي القواعد التي تتبعها النحاة تتبعا، وقد قدم الفقهاء من ذلك ما غيروا به التشريع في الأحوال الشخصية، وكانت لهم في هذا محاولات متفرقة، آخرها - وقد يكون أوسعها - صنيع لجنة الأحوال الشخصية التي مضت عليها أعوام تباشر عملها، وقد أخرجت منه ما أصدرته الحكومة قانونا بعدما أقره البرلمان، وهيأت قدرا آخر للإصدار.
وقد آثرت ألا أقول في هذا شيئا من عندي، وإن كنت أستطيع هذا القول، فوجهت سؤالا كتابيا في ذلك إلى أحد أعضائها المحترمين، ليجيب عنه كتابة أيضا، ولعله من حسن الاتفاق أن هذا العضو المحترم هو صاحب مقال «اجتهاد عمر» الذي صدرت هذا الحديث بالإشارة إلى ما كان من أمره، وما انتهى إليه الحال من جعل المحرم بالأمس تشريعا اليوم، وهذا العضو هو حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري، الذي تعرف اللجنة له في عملها أثرا محمودا ونشاطا بارعا.
قلت له في سؤالي: «... أعرف أنكم أعددتم في اللجنة التحضيرية للتشريع الجديد - في الأحوال الشخصية - مذكرات في هذا التشريع، فأرجو أن تتفضلوا ببيان علمي واف عن «الدستور» الذي اتبعتموه في اختيار الأقوال والآراء الفقهية، ولكم الفضل والشكر.»
فتفضل بإجابة كتابية موقعة منه، ألخص منها هذا الدستور محتفظا بعباراته نفسها لتروا ما فعل أصحاب الأصول التي حملت عليه أصول النحو حملا. (5) دستور شرعي للتجديد النحوي
فقد قال: إن اللجنة التحضيرية التي تقوم بإعداد المشروعات الفقهية - وهو أحد أعضائها الثلاثة - قررت مبادئ أقرتها فيما بعد اللجنة العامة، وتلك الأصول هي: (1)
أن الشريعة جاءت لمصالح العباد، وأن الدين يسر، وأن المشقة تجلب التيسير، وأنه كثيرا ما أخذ المتأخرون بالقول المرجوح واعتمدوه لتغير الزمان أو الأعراف، أو لأنه أرفق بالناس، وعلى هذا الأساس سارت اللجنة في عملها على النظام الآتي: (2)
أن تجمع الآراء من الكتب الفقهية كلها، بل من غير كتب الفقه أيضا ككتب السنة والتفسير، ولا تعتمد على المنصوص عليه منها صراحة فحسب، بل يعتمد على المنصوص، وعلى ما يؤخذ منه، ومن علله، وعلى القواعد العامة المذهبية، والقواعد التي أقرها جمهور الفقهاء. (3)
ألا تتقيد بمذهب واحد في مسألة بعينها، «بل ينتزع حكم المسألة الواحدة من مذهبين أو أكثر، ولا تتقيد بما نص على أنه القول الأصح أو الأرجح في مذهب من المذاهب، بل يؤخذ بالمرجوح وبه يفتى ويقضى.» (4)
أن تتخير أكثر الأقوال ملاءمة للمصلحة العامة، مراعاة لما يوافق حاجة الأمة ويساير رقيها الاجتماعي، على ضوء التجارب القضائية، وما وقفوا عليه من الشكاوى الحقة.
فإذا ما سمع حديثنا عن «هذا النحو» من يرى الاتباع خيرا من الابتداع، ومن يحمي قواعد هذا النحو من كل يد متناولة، فهل تراه سيدعي للنحو قدسية دينية؟ وهل تراه سيجعل تغير النحو عسيرا كتغير الفقه، ويلحق النحو بالفقه في هذا كله مهما تكن مبالغته وتطرفه؟! وهبه سيفعل هذا كله على بعده، فإنا نقول له: إنا لن نطلب في هذا النحو أكثر مما فعل أصحاب الفقه في الفقه، وهو أصل لهذا النحو في تفكير أصحابه، كما سمعنا قولهم في ذلك، وها هم أولاء الفقهاء، وقد مهدوا لنا سبيلا لا بدع بعد ذلك في أن نسلكها، وحيث كان الأمر على ما سمعت من الدستور الشرعي، في تناول الفقه وإعداده للتشريع المساير للحياة، فإن من الحق الذي يقره المحافظ المتبع، بل الجامد الراكد، أن نتبع تلك القواعد الإجمالية في تهذيب هذا النحو، فنقرر: (أ)
Неизвестная страница