ثم أعود فأكرر هنا ما أشرت إليه من قبل؛ إذ بينت أننا لم نأخذ بالخطة الحرة للجيل قبلنا، ولا أخذنا بالدستور الشرعي الذي تقدم إليه الفقهاء حولنا، بل رجعنا إلى ما وراء ذلك، فلزمنا أصول النحاة، ولم نعتمد على شيء أبعد مما أباحوه في غير تعي ولا لوم.
وكل ما عرضناه هنا من حل قد التزمنا فيه أصول النحاة التي دونوها، ولو قد جاوزنا ذلك إلى ما وراءه من عمل الفقهاء اطمئنانا إلى حمل أصول النحو على أصول الفقه منذ القدم، وتقديرا للفرق الفسيح بين ما للفقه من قدسية ليس للنحو شيء منها إلخ، لو أخذنا بقواعد أصحاب الفقه في صنيعهم، فتوسعنا في فهم المذاهب النحوية دون وقوف عند نصوصها، وأخذنا الأحكام من التعليلات، أو من القواعد العامة للمذهب النحوي، أو من القواعد العامة للنحاة جميعا، كما فعل أصحاب الفقه، أو لم نتقيد بمذهب واحد، ولفقنا الحلول من مذاهب متعددة كما فعلوا، أو شعرنا بالحرية في اختيار ما يساير الحياة ويلائم تطور الجماعة كما فعلوا، إذن لأوفى بنا ذلك كله على أبواب من التصرف في هذا النحو، لم نفتح هنا شيئا منها يذكر.
وإنكم بهذا لتقدرون ما في الذي عرضناه آنفا من اعتدال، قد يرهب أن يعده الزمن منا جمودا لا يرضي عشاق التجديد. (15) شبه واهية
وبعد؛ فهذه فكرة حدثت فيها - كما عرضتها هنا - كثيرين من أولي العناية بهذا النحو منذ بضع سنين، وانتهزت لذلك الفرص لتكون دعوة سرية ممهدة، ولأسمع ما عساه يكون هناك من اعتراضات عليها، ربما أكون قد فتنت عنها أو لم أنتبه إليها.
وقد لقيت الدعوة - في الجملة - غير المحاربة والمخالفة المنكرة، إن لم أقل إن بعض أصحاب الصفة الخاصة في الأمر، قد اطمأنوا إلى جملتها، لكن بقي أثر الإلف والتقليد، يدفع نفرا إلى الجمجمة بأشياء هي خواطر حائرة، فيها كثير من اللين والوهن، فلا أسميها اعتراضات، وأكثر ما تنعت به أنها شبه واهية؛ منها: (أ) القرآن وهذا التدبير
ولم أجد من صور هذه الشبهة في صورة تناقش، وإنما هو شيء يسبق إلى الوهم لظروف اجتماعية وعملية، أو منفعية خاصة، وقد سمعتم ما تلونا من قراءات القرآن في جل ما قلناه، وسمعتم أن كل قراءة حجة، فلم يبق إلا أن يكون فيما نستعمله من اللغة ما هو غير الذي نقرؤه في قطر من الأقطار، ولا بأس بهذا لأن هذا الاختلاف واقع بين ما نتعلم اليوم من القواعد، وبين قراءات القرآن، التي تقرع أسماعنا به في الإذاعة - على الأقل - كل حين، فلو غيرنا ما نتعلمه بما هو مخالف لقراءة وموافق لأخرى، فما حدث جديد ولا بدع، ولا انتقض شيء، ولا كانت مشكلة.
على أنا نفرض أبعد ما يتصور، وهو: أننا أصلحنا لغة الحياة يوما ما، بغير ما قرئ به القرآن، فهل نكون قد فعلنا ما لم نفعله أو يفعله أصحاب هذا القرآن من قبل؟ لا، فقد وقع وتم، ما هو أخطر من ذلك وأشد؛ إذ مضى الهجاء والإملاء العربي يوافق كتابة المصحف حينا، ثم تغيرت قواعد الكتابة العربية، وتقرر ما يخالف رسم المصحف، فقال الزمخشري منذ مئات السنين: «... وقد اتفقت في خط المصحف أشياء خارجة عن القياسات، التي بني عليها الخط والهجاء، ثم ما عاد ذلك بضير ولا نقصان، لاستقامة اللفظ وبقاء الحفظ، وكان اتباع خط المصحف سنة لا تخالف.»
41
بل لم يقف الأمر - كما تعرفون - عند هذا الحد، فقد أفتوا بكتابة المصحف على قياسات الهجاء الجديد تيسيرا للتعليم، كل هذا والكتابة والخط والهجاء غير الإعراب والضبط؛ لأن اختلاف الكتابة يمنع قراءة القرآن والاتصال بالمصحف، أما هذا الإعراب والنحو فالقرآن معرض فيه للغات المختلفة، وعنه أخذنا، فشتان بين اختلاف الكتابة عن المصحف، واختلاف النحو عن بعض قراءات هذا المصحف.
وكل هذا، على فرض أننا هذبنا لغتنا بغير ما في المصحف، وهو ما لم نقترح منه شيئا، ولم يقع منه شيء إلى الآن، بل الذي عرضناه قراءات من القرآن نفسه. (ب) حال التلاميذ
Неизвестная страница