وقد يقال: ولماذا لا يفصح صاحب الرأي المستقل عن رأيه هذا داخل التنظيم الذي ينتمي إليه، سواء أكان ذلك التنظيم مجموعة صغرى جزئية أم مجموعة كبرى شاملة؟ والجواب هو أن ذلك الرأي المستقل قد يجيء منصبا على إطار التنظيم نفسه، ومن ثم فلا يجوز أن يكون تابعا له وثائرا عليه في آن واحد، والنتيجة التي أريد أن أصل إليها، هي أن البديلين اللذين أتصورهما ليسا إما اتحاد اشتراكي وإما أحزاب، بل هما إما اتحاد اشتراكي وإلى جانبه مستقلون، وإما أحزاب وإلى جانبها مستقلون، أعني أنه من الضروري أن يوجد مكان لصاحب الرأي المستقل، كائنا ما كانت صورة التنظيم الواحد، أو التنظيمات المتعددة بعد ذلك.
إن الإنسان ليزداد ثقة برأيه، إذا ما وجد هذا الرأي نفسه عند إمام من أئمة الفكر، مشهود له بارتفاع المكانة، وحسبي هنا أن أعتصم برجل هو الإمام الغزالي؛ فللغزالي كتاب اسمه «ميزان العمل»، أراد به أن يرسم خطة للحياة العملية السليمة، ولقد جاءت في نهاية هذا الكتاب عبارة جديرة بالوقوف عندها والتأمل في مضمونها:
يقول الإمام أبو حامد الغزالي في عبارته تلك - جوابا على من يسأله إذا كان من الضروري، أن يكون للإنسان مذهب يتبعه، يقول ما معناه: لماذا تلتزم مذهبا بعينه، ما دامت المذاهب كثيرة أمامك، وليس لمذهب منها معجزة، تجعل له الترجيح على سواه؟ إن صاحب المذهب قد اختار لنفسه ما ذهب إليه، فما منفعتك أنت فيما اختار هو لنفسه؟ فنصيحتي إليك هو أن تحذر الانضمام إلى المذاهب، واطلب الحق بفكرك المحض، فلعلك أن تكون فيما بعد صاحب مذهب لمن شاء أن يتبعك «ولا تكن في صورة أعمى، تقلد قائدا يرشدك إلى طريق، وحولك ألف مثل قائدك، ينادون عليك بأنه أهلكك وأضلك عن سواء السبيل، فلا خلاص إلا في الاستقلال.»
وليس هذا «الاستقلال» الذي يرى الغزالي أنه وحده طريق الخلاص، مستطاعا لكل إنسان، مهما كانت درجة تحصيله وفكره، بل المفروض هنا بالطبع ألا يتصدى للرأي المستقل، إلا من اجتمعت له الوسائل التي تعينه على ذلك، وإلا فهل يجوز لمن لم يلم بأصول الشريعة - مثلا - أن يستقل برأيه في مسألة تندرج في هذا المجال؟ هل يجوز لمن لا علم له بعلوم الفيزياء والكيمياء، أن يدلي برأيه الخاص في مشكلة من مشكلات هذه العلوم؟ لا، فالرأي لا يكون إلا لمن في مستطاعه أن يرى، والرؤية لا تتاح إلا للخبير، كل خبير في مجاله الخاص.
وكان المجال الذي يعنيه الإمام الغزالي حين قال: «لا خلاص إلا في الاستقلال»، هو مجال العلوم الدينية ومذاهب الفقه، لكننا هنا نتوسع في التطبيق، ليشمل المبدأ سائر مجالات النظر، فأقل ما يقال - اهتداء بنصيحة الغزالي في وجوب «الاستقلال» بالرأي، أن نطالب بمكان مشروع في أي نظام سياسي نختاره، لصاحب الرأي المستقل، إذا دل تاريخه الفكري على أنه قادر على هذا الاستقلال.
إننا نبالغ في المذهبية حتى لنجاوز بها في كثير من الأحيان حدود السياسة، إلى ميادين ما كان ينبغي لها قط أن تتورط في المذهبية، كميادين التعليم، والأدب والفن؛ فمن المألوف في حياتنا الفكرية أن يصطرع رجال هذه الميادين على أسس أو مذاهب، ليست هي على كل حال أسسا أو مذاهب، اقتضتها وأنبتتها حياتنا. لقد استمعت ذات يوم في غرفة المسافرين بمطار القاهرة، إلى شابين جلسا إلى جواري، ودارت بينهما معركة كلامية حادة، اشتعلت ألفاظها واحمرت لها وجوه وارتعشت شفاه، حول نقد الشعر على أي أساس يقوم؟ هل نقيمه على أساس المعادل الموضوعي الذي قال به «إليوت»، أو نقيمه على أساس «أيديولوجي» بحسب مضمونه الاجتماعي؟ قلت لنفسي ساعتئذ، مشفقا على المتقاتلين - وأظنهما كانا في طريقهما إلى بعثة دراسية في الخارج - أليس الأجدر بهذين الشابين أن يقيما الأحكام على الشعر العربي نفسه، يدرسانه شاعرا شاعرا، قصيدة قصيدة، لينبث الأساس النقدي من تربته المباشرة؟
ونعود إلى مجال الرأي السياسي، وهو مدار الحديث، فنقول إن الانتماء مقدما إلى مذهب معين أو حزب معين، قد يكون التزاما مسبقا بفكرة لم تلدها الممارسة والمعاناة، نعم إن مثل هذا الالتزام «الجاهز»، يجعل الحياة العملية أيسر بالنسبة إلى الكثرة الغالبة من الناس؛ لأن هذه الكثرة لا تجد من وقتها فراغا، يكفي للتأمل النظري في شئون السياسة، فيلائمها أن تلبس الرداء «جاهزا»، حتى لا تتعرض لمشقة «التفصيل»، الذي يصمم الثوب على قد صاحبه، لكن هذه القوالب الفكرية قد يضيق بها من يكون بمستطاعه أن يصوغ لنفسه القالب الذي يلائمه، وربما تبعه آخرون إذا وجدوه ملائما لهم.
افرض أننا دعونا إلى إقامة حزبين، فالأرجح في هذه الحالة أن يقال: حزب لليمين وحزب لليسار، ولقد حاولت بكل صدق وإخلاص، أن أرسم الحدود الفاصلة بين اليمين واليسار، فما استطعت؛ لأنني إذا وجدت هذه الحدود على شيء من الوضوح في مجال النظم الاقتصادية والاجتماعية، فلست أجدها كذلك في مجال الفكر والفن والعقيدة، ولقد سبق لي أن كتبت منذ ما يقرب من عشر سنوات، مقالا بعنوان: يمين الفكر ويساره، ما معناهما؟ أردت به أن «أفهم» ولم أرد قط - ولا أريد الآن - أن أتحدى أحدا، أردت عندئذ، وما زلت أريد، أن أفهم، وإني لفي عجب أشد العجب - كما قلت في ذلك المقال - ممن يجدون في أنفسهم الجرأة على القذف بكلمات يحملونها أضخم المعاني، بغير أن يكونوا على بينة - ولو إلى حد محدود - مما يقولون ويكتبون! و«اليمين» و«اليسار» كلمتان أراهما تستعملان على نطاق واسع، للتفرقة بين الأفكار والمواقف والأشخاص، فهذه الفكرة من اليمين، وتلك من اليسار، وكذلك هذا الموقف وذاك، وهذا الرجل وذاك، فماذا يا ترى عساها أن تكون تلك الصفات التي - إذا ما توافرت في شخص - أدخلته في زمرة اليمين أو في زمرة اليسار؟ وإن الداهية لتصبح أدهى، حين نجعل أصحاب اليمين، يتصفون كذلك بالرجعية واللاعلمية، وأن نصف أصحاب اليسار بالتقدمية والعلمية في وجهة النظر.
كان الأجدر - في نظري - أن نجعل الأولوية للمشكلات نفسها التي تعترض طريقنا، نطرحها أمامنا ونحاول أن نلتمس لها الحلول، دون التقيد بمذهب سابق؛ لأن مثل هذا التقيد السابق قد يورطني في «أيديولوجية» مترابطة الأطراف، مع أنني ربما أردت الأخذ ببعضها دون بعضها الآخر، وأود هنا أن أستطرد قليلا؛ لأقول: إن ما يسمونه اليوم بالأيديولوجيا مساو لما كان أجدادنا يسمونه «الملة»، واستمع إلى فيلسوفنا الفارابي يقول في «كتاب الملة» تعريفا لهذه الكلمة: «الملة هي آراء وأفعال، مقدرة مقيدة بشرائط ، يرسمها للجميع رئيسهم الأول، يلتمس أن ينال باستعمالهم لها غرضا له فيهم، أو بهم، محدودا.» والسؤال عندي هو: لماذا يكون هذا التقيد ملزما للجميع؟
على أني أريد أن أضعها واضحة أجلى وضوح؛ إن صاحب الرأي المستقل، لا حق له في تغيير الواقع الفعلي من حياة الناس، وكل حقه منحصر في إبداء الرأي، لعله أن يصادف عند الناس اقتناعا، فيغيرون واقعهم وفق ما يسن لذلك من قوانين ونظم، إنه رأي سقراطي أعتقد في صوابه، فلقد هاجم سقراط كثيرا من أوضاع مجتمعة، وحوكم وحكم عليه بالموت، فينما هو ينتظر تنفيذ الحكم في السجن، مهد له تلاميذه الأغنياء طريق الهرب، لكنه رفض ذلك وسخر منهم أشد السخرية، قائلا ما معناه: إنني أطيع القوانين القائمة إلى أن أفلح في إقناع الناس بتغييرها، ومحال علي أن أعبث بها كما أهوى.
Неизвестная страница