رأينا القصة كاملة ليلة أمس في التليفزيون، وأصبحنا هذا الصباح، فإذا بالصحيفة اليومية التي في يدي، تسجل ردود فعل غاضبة من الجمهور، يحتج فيها الناس على نشر مثل هذه القصة الموجعة، وكان الأساس فيما أرسله القراء إلى الصحيفة هو «أخلاقية» هذا النشر، هل يجوز خلقيا أو لا يجوز؟ يقول أحدهم: إن السيدة الجانية قد حوكمت ونالت عقابها، فلماذا تحاكم مرة أخرى على الملأ؟ ويقول آخر: كيف يحق للتليفزيون أن ينشر الشريط الذي سجلته الشرطة سرا، دون أن يؤخذ رأي الجانية وذويها؟ ويقول ثالث: هل كان من حق الشرطة بادئ ذي بدء، أن تصور حياة الناس على غفلة منهم؟ وهكذا وهكذا.
تلك - إذن - هي شريحة من حياة «الغرب» الحديث، مما أعتقد أنه مستحيل الحدوث في حياتنا؛ فأولا يكاد يستحيل علينا أن نترك الأم في عجز شيخوختها، لتسكن غرفة وحدها في بيت العجائز، فما دام لها البنات، فلا بد لإحداهن أن ترعاها، مهما ثقلت رعايتها على أفراد أسرتها، لا سيما والأم برغم شيخوختها الضعيفة لم يكن بها مرض ظاهر، ولم تكن فقيرة بحيث يعجز رعاتها عن نفقاتها، بل كانت ذات ثراء ليس بالقليل.
لقد أنعم الله علينا بثقافة ترفض رفضا قاطعا مثل هذا التحجر في القلوب، فالعلاقات الرابطة بين أفراد الأسرة عندنا، توشك أن تكون أمرا مقدسا، لا تدنسه أبالسة الشر والطمع، إلا في حدود ضيقة يقتضيها ضعف الطبيعة البشرية آنا بعد آن، وأما من حيث «المبدأ» فنحن بحمد الله ننعم بالدفء في علاقاتنا الأسرية، وكأن كلا منا قد أمن الكوارث بفضل أفراد أسرته، الذين قد يظن بينهم التباعد، ولكن ما أن تكرث أحدهم الكارثة، حتى تراهم قد التفوا حوله من حيث يدري ولا يدري.
وأعود إلى الصحيفة اليومية في يدي؛ لأستعيد قصة امرأة خرجت من السجن لتوها، بعد أن أمضت بين جدرانه أربعة أسابيع، لماذا؟ لأنها نذرت حياتها للحيلولة بين الثعالب وصائديها، فها هنا ما زال صيد الثعالب في الغابات هواية محببة للقادرين عليها، فقالت هذه المرأة لنفسها: كيف يجوز للإنسان مطاردة حيوان ليلهو؟ أليست تلك الثعالب كائنات حية أراد لها خالقها أن تحيا؟ ومن هذه العقيدة عند المرأة، انطلقت لتنفق جهودها وأموالها في معاكسة اللاهين بمطاردة الحيوان وصيده، فرفع بعضهم إلى المحاكم لما ناله من ضرر، وحكمت عليها المحكمة بالسجن أربعة أسابيع، خرجت بعدها بالأمس، لتعلن في الصحف أنها لن تكف عن الدفاع عن الحياة في أية صورة كانت، ولينلها من عنت القضاء ما ينالها، ولم يفتها أن تندد بالعدالة في بلادها، إذا كان معناها قد انحدر في أذهان القائمين عليها إلى هذا المنحدر المشين.
وإذن فهذه شريحة أخرى من حياة «الغرب»، فيها المثل الأعلى، وفيها الإصرار على الجهاد، في سبيل ما يقيمه الإنسان لنفسه من نماذج المثل العليا، ولعل هذا الجانب من حياة «الغرب»، تؤيده قصة أخرى في هذه الصحيفة اليومية نفسها، عن امرأة شابة تطلعت إلى أن تجوب منطقة صحراوية في قلب أستراليا، فذهبت وحدها واستأجرت أربعة جمال، وكان معها كلبها، وظلت تتحسس طريقها هناك أربعة أشهر، تكشف لنفسها الجديد، فما وهنت لها عزيمة، ولا أغراها شبابها أن تحيا حياة المتعة في المدن، وبمثل هذه العزائم تبنى الحضارات.
وصورة أخرى تقدمها الصحيفة، وهي أن رجلا من أصحاب الأعمال في فرنسا، ذهب أثناء النهار إلى منزله لطارئ عارض، فإذا هو أمام مفاجأة أفقدته صوابه؛ إذ رأى أحد العاملين عنده مع امرأته في فراشه، فكان أن فصله من العمل فور لحظته، فهل يخجل العامل من فعلته؟ أبدا رفع أمره إلى القضاء؛ لأنه لم يكن من حق صاحب العمل أن يفصله بغير إنذار ومهلة من زمن، وبغير تعويض يحدد القانون مقداره. والأعجب أن تأخذ المحكمة بوجهة نظره، وتحكم على صاحب العمل بغرامتين يدفعهما للعامل؛ إحداهما للفصل الفوري، والأخرى للتعويض عن الضرر. لكن صاحب العمل قد هاله هذا الظلم، فاستأنف، ومن حسن الحظ أن المحكمة هذه المرة، قدرت ظروفه وأعفته من الغرامتين.
وأعود إلى الصحيفة لأستخرج من صفحاتها عجبا من العجب: جمعية هدفها المطالبة بأن يكون للراشدين من الرجال أو النساء حق الاتصال الجنسي بصغار السن، وأرادت هذه الجمعية أن تعقد مؤتمرا، فاتفقت مع أحد الفنادق في لندن، أن يؤجر لها بهوا من أبهائه ووافق مدير الفندق، لكن حدث أن سمع العاملون بالفندق بأمر هذا الاجتماع وأهدافه، فهددوا صاحب الفندق بأن يتركوا أعمالهم إذا ما تم الاجتماع، لكن أعضاء الجمعية أصروا على الاجتماع في ظل ما اتفقوا عليه، دونما أدنى خجل من وضعهم الشاذ، بل إنهم ليعلنونه في صراحة تثير العجب.
ثم أفتح الصفحة في منتصفها، فإذا أنا أمام ذخر من الأدب والفن، ملأ صفحتين متقابلتين؛ ترجمة حديثة لحياة جلادستون، كتاب عن الشيوعية في كمبوديا، تعليق على المجلد الثالث من الترجمة الذاتية، التي يخرجها عن حياته رونالد دنكان، عرض لكتاب جديد عن الطعام، وكيف كانت ألوانه، وطرائق طهوه في التاريخ القديم، موجز سريع عن محتوى ثلاثة كتب جديدة، عن حياة الجريمة بين أناس في العصور القديمة والوسطى، كانوا يدعون الورع في ظاهر حياتهم، لا سيما من رجال الدين عندئذ، تعليق على خمس قصص مما أخرجته المطبعة هذا الأسبوع، ثم استعراض غني للمهرجان السنوي الذي يقام في أدنبرة، عن الفنون بكل صنوفها.
وما دمت أتحدث عن الحياة الفكرية ، فلا بد لي من ذكر حديث ربما كان أبرز ما وقع في مجال التأليف، وهو أن جماعة من رجال الدين هنا، كانوا منذ نحو شهرين، قد أصدروا معا كتابا عن العقيدة المسيحية، التي تقول إن الله قد تجسد في المسيح، فرفضوا هم هذا التصور، وأطلقوا على كتابهم ذاك عنوان «أسطورة تجسد الله في المسيح»، فسرعان ما تألفت جماعة أخرى من رجال الدين أيضا، وأخرجوا معا كتابا للرد على الكتاب الأول، وأسموا كتابهم هذا «حقيقة تجسد الله في المسيح»، ولقد امتلأت الصحف الأدبية بالمقارنة بين الكتابين، وأرجح الرأي عند المعلقين، هو أن الجماعة الثانية كانت أعمق بحثا من الجماعة الأولى.
جمعت هذه الأشتات بعضها إلى بعض، وهي أشتات مأخوذة من صحيفة واحدة في يوم واحد، فألفيتها تصور مناخا ثقافيا ليس بينه وبين مناخنا الثقافي شبه، لا من قريب ولا من بعيد، فخرجت بنتيجة مؤكدة، وهي ضرورة أن يكون لكل ثقافة قومية معاييرها الخاصة، بالإضافة إلى المجال المشترك، الذي يجب أن يتفق فيه الناس جميعا، وأعني به مجال العلوم وأشباهها، ومن هذه وتلك تكون صورة العصر.
Неизвестная страница