وأصل ثالث ثابت في «طبيعتنا»، هو المحافظة الشديدة على العرف الاجتماعي، فليس من السهل على المصري أن يخرج على هذا العرف، حتى وإن تمنى له أن يزول حين لا يجد في قيامه حكمة ظاهرة، بل إن المصري منا قد يكتب ويكتب، داعيا إلى تغيير عرف من الأعراف الاجتماعية، ولكنه لا يجرؤ هو نفسه على تغييره، فإذا كان هذا في ظاهره جمودا، فهو على الأقل يضمن للجماعة، ألا تتسرع في تغيير أرعن، لا يتفق مع نضجها الثقافي والحضاري.
تلك طائفة من الأصول الثابتة، التي يتكون منها ما نعنيه، عند الإشارة إلى «طبيعتنا»، وأما ما هو «نابع» من تلك الطبيعة، فهو كل شيء يحافظ لنا على الشعور الديني، وعلى كيان الأسرة وعلى العرف الذي تواضع الناس بصفة عامة، على أن يتعاملوا على أساسه.
وبديهي أن الثوابت الممتدة على آماد طويلة من التاريخ، يصاحبها خصائص أخرى متغيرات، لا يبالي المجتمع أن يراها تتبدل مع تبدل الظروف، بل ربما رأيناه يطالب بتبديلها، كلما اقتضت لها ضرورة الحياة أن تتغير، مثال ذلك: إن كيان الأسرة الذي نحرص على بنيانه، وعلى ما ينطوي عليه من علاقات التراحم والتعاون بين أفراد الأسرة، من الوالدين إلى البنين، ومن الإخوة إلى أبناء العم والخال، أقول إن هذا الكيان الأسري قد يلحق به «الوساطة»، بين أفراد الأسرة الواحدة، بحيث يضحي الفرد منهم بصالح الآخرين، في سبيل خدمة يؤديها إلى أقربائه، لكن هذا التفريع عرضي، قد لا يلزم حتما عن الأصل؛ ولذلك كان من الممكن أن يدخل هذا الفرع في دائرة ما يتغير، حين تتطلب ظروف المجتمع أن يتغير.
وكذلك حقوق المرأة وواجباتها، هي مما يلحق بالكيان الأسري، ولكنه أيضا مما يمكن أن يطرأ عليه التغير، دون أن نمس الكيان الأساسي بسوء، فقد تعمل المرأة داخل البيت أو خارج البيت، وتظل الوشائج القوية رابطة بينها وبين أفراد أسرتها. وبمناسبة المرأة وحقوقها، نقول إن في البحث الاجتماعي الذي قام به معهد البحوث في اليابان، ورد سؤال موجه إلى الرجال والنساء معا، هو: لو كانت حياتك لتبدأ مرة أخرى، وكان لك حق الاختيار، فهل تحتفظ بجنسك الحالي أو تغيره بالجنس الآخر؟ فكان جواب الرجال جميعا أنهم يختارون الذكورة، وأما النساء فكان نصفهن فقط هو الذي قال إنه يختار الأنوثة، والنصف الآخر يتمنى لو خلقن رجالا، مما يدل على أن الرجل، ما يزال يتمتع بحقوق اجتماعية أكثر من المرأة، ويريد الاحتفاظ بما يتمتع به، وأن نصف النساء يرون تغيير الجنس؛ طمعا في الامتياز الاجتماعي الذي يظفر به الرجال.
إلا أن الحديث في العناصر التي تتألف منها «طبيعتنا»، وفي ما هو نابع منها، حديث طويل متشابك الأطراف، لكن الموضوع حيوي، يعتمد على وضوحه وضوح ما نجيزه، وما نمنعه من مقومات حياتنا الجديدة، ما دمنا قد صرحنا في مواثيقنا الوطنية بأن «طبيعتنا»، هي ينبوع التطور الذي نرتضيه، والواجب محتوم على المراكز العلمية، أن تقطع فيه بالقول الذي لا يتركنا لاجتهاد الآراء.
المصريون وسر خلودهم
الوقت صيف، والمكان شاطئ الإسكندرية الجميل، والصحبة جماعة ربطتها روابط الود والوفاء، وموضوع الحديث هو مصر: مصر السماء، ومصر الأرض، ومصر البحر، ومصر الزرع، ومصر الصحراء، ومصر العمارة والحضارة، ومصر المصريين.
نقرأ تاريخ الأقدمين الأولين، فنقرأ عن الأكاديين والآراميين والحيثيين، والآشوريين والبابليين والفينيقيين والمصريين؛ ذهبوا جميعا، وبقي المصريون كما كانوا مصريين من أول الدهر، فيما سجل التاريخ وقبل أن يسجل.
بقي المصريون كما كانوا من أول الدهر مصريين، يربطون الرباط الوثيق بين الأرض والسماء، بين الحياة وما بعد الحياة، ورفعوا لذلك رمزا ناطقا في مسلاتهم وأبراجهم ومآذنهم؛ مسلات الهياكل وأبراج الكنائس ومآذن المساجد، ارتفعت كلها لتشير إلى السماء، وكأنها أصابع السبابة من الأيدي، انبسطت لتشهد أن لا إله إلا رب العالمين، وهل كانت مصادفة شاردة من مصادفات التاريخ، أن قويت المسيحية في كنف الإسكندرية، قبل أن تعبر البحر إلى أوروبا، وأن اجتمع تراث الإسلام في حمى القاهرة، بين جدران الأزهر الشريف؟ إنها مصر، بلد العقيدة الدينية نشأة ورعاية.
لقد قيل إن حضارة الإنسان قائمة على ركائز ثلاث (والقائل هو وايتهد): صناعة مصر، وديانة فلسطين والجزيرة العربية، وفلسفة اليونان وعلومها، ولكني أقول إن ذلك وإن يكن صحيحا، إلا أنه صحيح على سبيل التغليب، فالأغلب على مصر أن تكون منشأ الصناعة، والأغلب على فلسطين والجزيرة العربية أن تكون منشأ الديانة - ديانة التوحيد - والأغلب على اليونان أن تكون منشأ الفلسفة والعلوم، ومع ذلك فإن هذه الركائز الحضارية الثلاث، لم تجتمع كلها بنسبة واضحة إلا في مصر، فأنت صادق إن قلت عنها إنها مهد الصناعة، وأنت صادق إن قلت عنها إنها البادئة بعقيدة التوحيد، وأنت كذلك صادق إن قلت عنها إنها منشئة الفلسفة والعلوم، لقد قال رينان عن اليونان إنهم معجزة البشرية، وكان ينبغي أن يقول هذا القول عن المصريين الذين علموا اليونان.
Неизвестная страница