فمن ذا الذي يريد الآن حاكما يبدأ حكمه بخطبة، يهدد فيها أصحاب الأبصار الطامحة والأعناق المتطاولة، بأنه محطمها ومريق دماءها؟ من ذا الذي يريد الآن حاكما يقول للناس - حالفا بالله - إن رءوسهم قد حان أوان حصدها، وإنه هو صاحبها الذي يطيح بها متى شاء، تلك قيم بين حاكم ومحكوم، ربما ساغت لسابقين، لكننا نرفضها اليوم رفضا حاسما، ففيم إذن حفظ عبارة كهذه وروايتها والتمزز بجرسها، كأنها تعبر لنا عن نزعة سادية مكتومة في صدورنا؟
أول التقدم حافز يحفزنا إليه، والحافز موضعه العقول والقلوب، والذي يثبته في موضعه ذاك مقروء ومسموع، ومحال أن نقرأ وأن نسمع ما يقذف بنا القهقري، إلى عصور خلت وذهبت قيمها مع التاريخ، ثم نطمع في الوقت نفسه أن يكون لنا من الحضارة العصرية نصيب.
وكذب بطن أخيك
كان النبي - عليه الصلاة والسلام - قد رأى رجلا مهموما لمرض أخيه بإسهال أصابه، فأمره النبي بأن يسقيه العسل، لكن الرجل لم يلبث أن عاد ليشكو، بأنه قد سقى أخاه عسلا حتى أفرط، فزادت علة أخيه، فقال عليه الصلاة والسلام: «صدق الله وكذب بطن أخيك».
ومعنى ذلك - فيما فهمت - أن المبدأ العام قد يكون سليما في ذاته، ولكن الخطأ يأتي من طريقة التطبيق، وهذه الحالة التي عرضناها، مثل شاهد على ذلك، فالقاعدة العامة بأن العسل شفاء للناس، قاعدة صحيحة، على شرط أن نحسن تطبيقها، فلا نتزيد ولا نقصر! وعلى ذلك فلا يجوز لنا أن نترك شيئا، نافعا في ذاته وبحكم طبيعته، بسبب مضرة نشأت عنه لسوء استخدامه - هكذا يقول ابن رشد، الذي أخذنا عنه الحديث النبوي الشريف.
ثم يستطرد فيلسوفنا ابن رشد في عرض فكرته، التي كان بصدد الدفاع عنها، وهي ضرورة أن تدرس الفلسفة اليونانية القديمة، وذلك ردا على اتهام الدارسين لتلك الفلسفة، والكاتبين في مجالها، بأنهم قد ضلوا السبيل القويمة؛ إذ جاوزوا - في رأي أصحاب الاتهام - حدود الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة، فيقول ابن رشد في دفاعه عن الفلسفة، إن من يمنع الناس القادرين المؤهلين عن النظر في مصادر الفلسفة، بحجة «أن قوما من أراذل الناس، قد يظن بهم أنهم ضلوا بسبب النظر في تلك المصادر.» إنما هو كمن «يمنع العطشان شرب الماء البارد العذب، حتى يموت من العطش، بحجة أن قوما شربوا ماء، فشرقوا به وماتوا.» فالخطأ في مثل هذه الحالة، هو أن الموت بسبب العطش أمر محتوم، بحكم طبيعة العطش وما يؤدي إليه، فلا يجوز أن تقاس عليه حالة الموت عن الماء بالشرق؛ لأن الشرق أمر عارض، قد يحدث وقد لا يحدث، ومعنى ذلك - عند ابن رشد - هو ألا نترك شيئا ضروريا في ذاته، بحجة أنه قد أحدث ضررا عارضا لخطأ في استعماله.
إن المعركة لم تنقطع بين أئمة الفكر من العرب الأقدمين، منذ فتحت لهم أبواب الثقافة الأجنبية على مصاريعها - وكان ذلك في القرن التاسع الميلادي - إذ لم يخل الموقف أبدا من أصوات ترتفع حينا بعد حين، رافضة لتلك الثقافات الدخيلة، على ظن منها بأن في الموروث القومي ما يكفي، ولا حاجة بالناس إلى زيادة تأتي من عند غرباء، ولكن تيار الحياة الدافق كان أقوى من تلك الأصوات الرافضة، ولعل آخر المعارك في هذا الميدان، كان الحوار الحاد الذي استغرق ما يقرب من قرن كامل، جاءت في أوله هجمة الغزالي على الفلسفة اليونانية، التي لم تكن في رأيه مما يتسق مع عقيدة الإسلام، ثم جاء في آخره رد ابن رشد على تلك الهجمة الغزالية، كان ذلك إبان القرن الثاني عشر الميلادي، ولقد شاء سوء الحظ لتاريخنا الفكري، أن يكون الهجوم هذه المرة أقوى من الدفاع ، فانسدلت الستائر على نوافذ الحياة الثقافية، ليظل الفكر العربي مغلقا على نفسه نحو سبعة قرون، بعدها ارتفعت تلك الستائر عن أبصارنا شيئا فشيئا؛ فكانت تلك هي النهضة العربية التي نعيشها اليوم.
ولكن الأيام في دورانها، قلما تمحو القديم كله، لتثبت الجديد كله، بل يحدث في معظم الحالات، أن يتبدل في الحياة الثقافية حشوها، وتبقى هياكل البناء على صورتها التي ترتفع حينا بعد حين، متشككة فيما ننقله إلى ساحتنا من ثقافة الغرباء، تماما كما كانت ترتفع بين القدماء، وبالحجة نفسها، وهي أنها وافد دخيل علينا، قد يفسد جوهرنا الأصيل، وإنك لترى أصحاب الأصوات الرافضة هؤلاء، يذكرون لك حالات من الفساد، الذي أصابنا بالفعل من ثقافة العصر وحضارته، وكثيرا ما يطلقون على الموقف كله اسم «الغزو الثقافي»، ليحدثوا في النفوس كراهية ونفورا؛ إذ من ذا الذي يرضيه أن تغزوه جيوش الأعداء، هاجمة عليه من خارج حدوده؟ فماذا في وسعنا أن نرد به هذا الضلال، بأقوى مما رد به ابن رشد ضلالا، مستعينا بالحديث الشريف الذي قيل فيمن أساء استخدام العسل، حين أراد الشفاء لأخيه، فظن سوءا بالعسل نفسه، مع أن السوء في طريقة استخدامه، والحديث الشريف قد أسلفناه، وهو «صدق الله وكذب بطن أخيك.»
كان الصراع بين القدماء حول فلسفة الغرباء وحدها، أيقبلونها أم يرفضونها، وأما صراعنا نحن اليوم، فهو حول فلسفة الغرباء وعلومهم في آن معا! نعم، إن الرافضين لحضارة العصر، قد يتحفظون أحيانا، أو قل إنهم قد يتواضعون أحيانا، فيقولون: أما علوم الغزاة فهي مقبولة؛ لأن العلوم ملك الجميع، وأما غير العلوم مما له صلة بالإنسان وحياته، كالأدب، والفن، والعلوم الإنسانية نفسها، من علم نفس إلى علم اجتماع وعلم اقتصاد؛ فلسنا بحاجة إلى ما يقوله الغرباء، ولنا في ثمارنا ما يكفينا، فالصيحة اليوم عارمة، ثم هي تشتد في كل يوم قوة واتساعا، بأنه ينبغي للعرب أن تكون لهم علومهم الخاصة في النفس والاجتماع والاقتصاد.
ولست أريد - هنا والآن - أن أصادر على هذه الصيحة ومطالبها، ولكن الذي أتمسك به إلى آخر نفس من حياتي، هو أن نلتزم، في كل ما نتصدى له من هذه الميادين، منهج البحث العلمي الموضوعي النزيه، وأقول ذلك والخوف يملؤني من شياطين الهوى؛ خشية أن تفعل فعلها في رءوسنا، فتغرينا بأن نجعل للعاطفة صدارة على المنطق العقلي، ومعنى العاطفة هنا، هو أن نشترط على أنفسنا - بادئ ذي بدء - أن تكون النتائج النهائية من بحوثنا «العلمية» هي كذا وكذا، قبل أن نمضي في تلك البحوث بعقل علمي محايد، بغض النظر عما يؤدي إليه ذلك العقل العلمي من نتائج.
Неизвестная страница