خرج دون كيخوته في مغامراته، وهو يتوهم أن المجال لم يزل هو نفسه المجال، الذي نشط فيه الفرسان الأقدمون، الذين قرأ عنهم أخبارهم وأراد أن يحيا على نموذجها، فكان المسكين يضرب في فجاج الأرض، وكأنه حفنة من حروف طارت من صفحاتها التي هي مدونة فيها، لم يكن عندئذ إنسانا كسائر الأناسي من حوله: تجري في عروقه مثلما يجري في عروقهم من دماء، بل كان كتابا يسير على ساقين، ولم يكن كسائر الناس يرى الأشياء من حوله ، ثم يصطنع لها ما يناسبها من حرف وكلمة وعبارة، بل كان على عكس ذلك، يبدأ بما عنده هو من حرف وكلمة وعبارة؛ ليقحمها على الأشياء الخارجية إقحاما، فكان وكأنه إنسان من ورق، عظامه لغة قرأها في قصص الفرسان، كما رواها الرواة، ولحمه نصوص محفوظة، ودماؤه هي المداد الذي سال على صفحات الكتب كلمات.
كان دون كيخوته في سعيه الواهم، تجسيدا لتراث مكتوب؛ فأخذ يلتمس له في حياة الواقع شبيها يؤيده ويحميه؛ ولأمر واضح المرمى، جعله المؤلف رجلا نحيلا ضعيفا، أثقل جسده بدروع، لم تخلق إلا لأجساد قوية سليمة؛ فازداد هزاله هزالا، وهو تحت دروعه الثقال، ولأمر واضح كذلك، جعله المؤلف يركب حمارا عليلا، ويحسب أنه إنما يعتلي جوادا، كجياد أسلافه من الفرسان، فكانت كلها رموزا مكثفة، تصرخ بالدلالة على أن أوان الفروسية قد فات ومات، ومن أراد إحياءه في غير عصره، كان كمن أراد أن يخرج من الماء شعلة نار.
كان دون كيخوته في تجواله منسوجا من حروف، التقطها من صفحات الكتب، بل لم تكن تلك الحروف هي لحمة كيانه وسداه فحسب، بل زادت على ذلك، فأصبحت هي القانون الذي يحدد له ما يجب، وما يجوز وما يمتنع؛ ولذلك كان كلما صادفته على الطريق ظروف طارئة، رجع إلى النصوص المنقولة المحفوظة؛ ليرى فيها ماذا يجب على الفارس أن يصنعه إزاءها؛ ليؤدي واجبه على الوجه الذي ترضى عنه الفروسية وقوانينها. لقد كانت القصص التي قرأها دون كيخوته عن الفرسان الأسبقين، بمثابة الأساطير؛ ولذلك كانت لها خصائص الأساطير، ومن هذه الخصائص أن الأسطورة لا تتقادم مع الزمن، فهي في أي وقت، وفي كل وقت، تبدو وكأنها بنت يومها؛ ولذلك فالأسطورة تلمع دائما ببريق الحق، وإذن فلم يكن شذوذا من دون كيخوته، أن يتأثر بما قد قرأ، على النحو الذي تأثر به، معتقدا دائما أنه أمام نصوص أزلية أبدية، تحمل الحق في سطورها، وترسم طريق الواجب بحروفها.
وكان من أول تلك الواجبات المفروضة عليه، أن يعيد نثر الحياة المحيطة به، إلى شعر الحياة التي كانت ، أن يرد صلابة الواقع، كما يحسه ويعانيه، إلى ملحمة من ملاحم الماضي المجيد، فمحتوم عليه أن يظل في أرجاء الأرض، باحثا عن المواقع التي يراها مطابقة للصور التي قرأ عنها في حياة الفرسان، وهم في عز مجدهم؛ لأن كل موقع وكل موضع، يرى فيه تطابقا مع النصوص، ينهض شاهدا على أن النصوص، تحمل الحق في كلماتها، وما دامت تحمل الحق، فلا بد من أن يسلك على هداها، وهو مطمئن لسلامة ما يفعله.
وحتى إذا أعجزته الحيلة عن أن يجد التطابق المنشود، بين العالم كما هو واقع، والنصوص كما قرأها في الكتب ووعاها، حاول أن يقرأ ذلك العالم الواقع، قراءة جديدة يهتدي بها بخياله، فيحوله بالوهم عما هو عليه، إلى ما كان ينبغي في رأيه أن يكون عليه. إن الأشياء في هذه الدنيا الواقعة، قد يمكن تفسيرها على أوجه كثيرة، فلماذا لا تبحث فيها عن الرؤية، التي تجعلها تعبر الفجوة التي حدثت بينها وبين نصوص الكتب، تعود فتطابقها من جديد، كما كانت تطابقها أيام الفرسان؟ فكأنما كائنات الدنيا - بهذه النظرة - هي رموز يقرؤها القارئ على نحو ما يشتهي أن يقرأها، وليست هي بواقع صلب عنيد، لا مناص للإنسان من الإذعان له، والتكيف لطبائعه.
فهذه - مثلا - قطعان من الغنم ترعى، وتلك أكواخ صغيرة تناثرت فوق المرج، وأولئك فتيات راعيات ساذجات فقيرات، فلماذا لا نرسل الأوهام في كل هذه الأشياء؛ لتصنع لنا من قطيع الغنم جيشا، يصلح أن نواجهه مواجهة الأعداء في ساحة القتال، ولنصنع من الأكواخ قلاعا حصينة تستحق التأهب للهجوم والغزو، وتجعل لنا من أولئك الراعيات سيدات مهذبات، ممن كن في حماية الفرسان الأولين؟ وإذا ظل الاختلاف قائما بين ما هو واقع من جهة، وما هو منصوص عليه في الكتب من جهة أخرى، لجأنا إلى السحر، ننزل فعله على الأشياء لتخرج من طبائعها، وتتحول إلى ما يجعله على الصور التي نريدها لها، والتي تكون بها مسايرة للنصوص ذات العصمة والخلود، ذلك هو المغزى وراء شخصية دون كيخوته، وهو أن يرسم للناس صورة من يريد للزمن، أن يكر راجعا إلى الوراء، وصورة من يظن أن الماضي، هو وحده الزاهر الزاهي، الذي يقاس عليه! ولكن ماذا لو حاول دون كيخوته، أن يلوي مجرى الزمن عن اتجاهه؟ ماذا لو أراد أن يرغم الأشياء الواقعة، على أن تطابق نصوصه، فلم يستطع؟ أليست النتيجة الحتمية عند المشاهد، هي أن يجد كلمات الكتب القديمة، قد أفرغت من مضمونها؛ لأنها فقدت قدرتها على أن تشير إلى أمور الواقع؟ وإذا هي فقدت دلالتها الحقيقية، فهل يبقى أمامها إلا أن تنطوي في صفحاتها، وتنغلق في محابس كتبها، ليعلوها العفار، فتذهب عنها النضارة، وتصيبها صفرة المرض؟ إن الكتب القديمة عندئذ تنعزل وحدها، وتبتر الصلة بينها وبين الدنيا التي حولها، فلا تعود أنفاسها تستمد الهواء من خارج، فتضطر إلى امتصاص نفسها، وابتلاع ريقها، إلى أن يشاء الله لها أمرا.
وأما الواقع الجديد، الذي استعصى على السحرة، أن يردوه إلى صورة النماذج المخزونة في الكتب، فيمضي قدما، باحثا له عن كتب جديدة تسايره، يكتبها كتاب آخرون، وفي هذا تكون الصحوة التي يسميها التاريخ بالنهضة، كان ذلك في اليقظة الأوروبية، فهل يصلح لنا سواه في اليقظة العربية؟
وحدة النظر
لقد جاءت هذه الأسابيع القليلة الماضية، منذ اليوم السادس من أكتوبر؛ لتقيم لنا البرهان واضحا، على أن الفكر والأدب والفن جميعا، تستطيع أن تلتقي كلها في اتجاه واحد؛ فالفكرة، والنغمة، واللفظة، والخط واللون، إن هي إلا جوانب متعددة، من منشور زجاجي واحد، يسقط عليه شعاع الضوء، فيتفرق ألوانا مختلفة، تؤكد ما بينها من اتساق وتكامل؛ ففي غضون هذه الأسابيع القليلة الماضية، رأينا كيف انسابت الأفكار في مقالتها، والأنغام في معزوفتها، والألفاظ في قصائدها وأغنياتها، والخطوط والألوان في لوحاتها، وكأنما جميعا قد انبثقت من عين واحدة، ونطقت بلغة واحدة، واختفت الفوارق التي تفصل بين قديم وجديد، أو بين وجدان وعقل، أو بين علم وفن؛ لأن هذه كلها - وإن تعددت وسائلها - جاءت لتعبر عن كيان واحد، بكل ما في مقوماته من جوانب، ثم جاء ذلك التعبير - وهذا هو المهم - صادقا لا محاكاة فيه ولا تصنع.
لم تكن هذه حالنا دائما، فقد سألت نفسي ذات يوم قريب، وكان ذلك قبل السادس من أكتوبر: ترى إلى أي حد تتجه أوجه نشاطنا في ميادين الفكر والأدب وجهة واحدة، كما ينبغي لها أن تفعل، لو كانت بيننا الروابط الحيوية، التي تجعل من الأمة أمة واحدة؟ وليست وحدة النظر بين المجموعة المترابطة من الناس، تقتضي بالضرورة أن يتحد أفراد تلك المجموعة في وسائلهم، إذ في وسع هؤلاء الأفراد أن يوجهوا أنظارهم وجهة واحدة معينة، كأنما تشيع بينهم النظرة إلى مجدهم القديم، أو تشيع النظرة إلى المستقبل المأمول، ومع ذلك يختلفون في طرائق التعبير باللفظة والنغمة واللون، وأعتقد أنه بغير الاتحاد في اتجاه النظر، يتعذر أن يعيش القوم في مناخ وجداني واحد.
Неизвестная страница