ولم تكن أوربة أحسن حالا، فكان الحكم في إسپانية، التي ستصبح مقرا لدولة زاهرة تحت الحكم العربي، بيد القوط المسيحيين الذين لم يستطيعوا أن يتمدنوا، والذين أكلتهم الانقسامات الدينية فاستغاثوا بقيصر الروم، فلم يعتم حلفاؤهم أن صاروا أعداء تجب محاربتهم، وفقدت رومة الإيطالية نفوذها القديم، وأصبح اسم الروماني محتقرا في كل مكان، وصار البرابرة يتناوبون السيطرة عليها.
ولم تكن الفوضى ظاهرة في مكان ظهورها في سورية التي هي أول قطر استولى عليه العرب، وكان هم المدن السورية، التي لم تنلها أيدي التخريب في الحروب الرومية الفارسية الدائمة، والتي لم تزل على شيء من النضارة، مقتصرا على المعاملات التجارية والمجادلات الدينية، ولم تبال بما كان يقع خارج أبوابها، وكانت تهجر أريافها، ولم يكترث أهلوها لشيء من المبادئ القومية، وكانوا مستعدين لتلبية نداء أي فاتح يعد بإطعامهم، وكان الأريستوقراطيون من سلالة فاتحي سورية، الذين أفسدهم توالدهم والأمم الآسيوية، قد انحدروا إلى الحضيض فخسروا قيمتهم ونفوذهم.
شكل 3-1: ثلاث قطع من نقود الخلفاء الأولين (أخذت صور هذه النقود والنقود التي تليها من مجموعة مسيو مارسيل).
ونحن، عندما بحثنا في كتابنا السابق عن مختلف العوامل التي تؤثر في تطور المجتمعات، قلنا: إن المثل الأعلى هو من أهمها، وذكرنا أن عبادة الوطن والمعتقد الديني وحب الاستقلال والمجد والأمة والمدنية ... وغيرها من المثل العليا هي من الخيالات من الناحية الفلسفية، وأن مثل هذه الخيالات هي التي تقود الناس دائما، وأن أمر النظم السياسية والاجتماعية التي وقت البشر حتى الآن قد استقام بفضلها، وأن عظمة الرومان قامت على عبادة رومة على الخصوص، وأن رومة كانت سيدة العالم حين كان الروماني يضحي بنفسه في سبيل زيادة سلطانها.
وكانت الأمم الإغريقية الرومانية والآسيوية، وقت ظهور محمد، قد فقدت مثلها العليا منذ زمن طويل، فلم يبق لحب الوطن، وعبادة الآلهة أثر في نفوس أبنائها، وكانت الأثرة كل ما في قلوب هؤلاء الأبناء، والأثرة إذا كانت دليل قوم عجزوا عن مقاومة قوم آخرين مستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل معتقداتهم.
وقد استطاع محمد أن يبدع مثلا عاليا قويا للشعوب العربية التي لا عهد لها بالمثل العليا، وفي ذلك الإبداع تتجلى عظمة محمد على الخصوص، وذلك المثل الأعلى الجديد هو من الخيالات لا ريب، شأن المثل العليا التي ظهرت قبله، ولكنك لا تجد من الحقائق ما هو قوي قوة هذه الخيالات، ولم يتردد أتباع النبي في التضحية بأنفسهم في سبيل هذا المثل الأعلى طامعين في الجنة التي لا يعدلها شيء من متاع هذه الحياة الدنيا.
ولم يلبث الإسلام أن من على جميع الشعوب التي خضعت لسلطانه مثل ما منت به عظمة رومة على الرومان، فمنح تلك الشعوب مصالح مشتركة، وآمالا مشتركة موجها بذلك جهودها نحو غرض واحد مع أنها كانت ذات مصالح مختلفة قبل ذلك.
شكل 3-2: قطعة من نقود الخليفة الأموي هشام، بدمشق (108ه / 725م).
شكل 3-3: قطعة من نقود الخليفة المهدي (162ه / 779م).
شكل 3-4: قطعة من نقود الخليفة المأمون (218ه / 833م).
Неизвестная страница