وكان العرب والبابليون يتنافسون في الاتجار مع الهند، وكان البابليون يصلون إلى الهند بطريق البر أو بطريق البحر من خليج فارس، وكانت قوافل البابليين تنقل السلع إلى سورية؛ لتوزعها على العالم، مارة في طريقها إلى دمشق من تدمر وهليوپوليس (بعلبك) المهمتين اللتين لا تزال بقاياهما الماثلة في الصحراء تثير عجب السياح.
فبمثل تلك العلاقات التجارية التي دامت مئات السنين نتصور ما كانت عليه مدن جزيرة العرب، ولا سيما مدن اليمن النضرة التي اغتنت بالتجارة وألفت أطيب النفائس، وندرك سر إجماع مؤلفي اليونان واللاتين والعرب على امتداح ازدهار تلك المدن العجيب.
ولم يسطع نجم حضارة العرب قبل محمد في اليمن وحدها، فما جاء في أقدم روايات التاريخ عن حضارة الحيرة والغساسنة يثبت، أيضا، درجة استعداد أتباع محمد للقيام برسالتهم في عالم المدنية.
وقد تحدثنا عن الحيرة التي مجدها العرب، وقلنا إنها كانت تنافس القسطنطينية وعاصمة الفرس، ولم تقل عنها أهمية مملكة غسان التي أسسها عرب اليمن بعد ظهور المسيح بزمن قليل، والتي دام سلطانها نحو خمسمائة سنة، واشتملت على ستين مدينة محصنة كما جاء في كتب التاريخ.
وظهرت عظمة حضارة مملكة غسان من حل الكتابات الحميرية المنقوشة على آثارها التي اكتشفت بالقرب من عاصمتها القديمة بصرى الواقعة على حدود سورية، ومن بقايا قنواتها التي تشهد بما كان عند سكانها من الاستعداد الكبير للقيام بالأعمال العظيمة.
وإذ كان عرب الحيرة وغسان متصلين بالفرس والرومان كان تأثير هؤلاء في حضارة أولئك كبيرا، وغير ذلك أمر حضارة اليمن العربية التي هي أقدم من حضارة الرومان، والتي يجب أن يبحث فيها عن بقايا حضارة العرب القديمة، والتي نأسف على بقائها بعيدة من يد البحث والتنقيب حتى الآن، فيظل اطلاعنا على أمر مدن اليمن القديمة ناقصا نقصان اطلاعنا السابق على آثار الآشوريين التي كانت مطمورة تحت رمال الصحراء.
وتدل جميع الدلائل على أن كل تنقيب في بلاد اليمن يأتي بأحسن النتائج، فقد حدث مسيو هاليڨي، الذي جاب بلاد اليمن منذ بضع سنين، ولم يسطع أن يقوم بأي حفر كان، أن العرب يعثرون أحيانا على تحف ذهبية وفضية بين خرائب اليمن، وأنه وجد بجوار الحرم غير البعيد من صنعاء مسلات ذات كتابات كثيرة، وأنه اكتشف باب معبد حميري منقوشة على حجارته صور حيوانات ونباتات.
واشترى مسيو شلونبرجر في القسطنطينية حديثا مئتي قطعة من نقود ملوك اليمن التي اكتشفها عربي في صنعاء فترجع في قدمها إلى ما قبل الميلاد، ولهذه النقود، التي لم يوجد منها قبل ذلك سوى قطعتين أو ثلاث قطع في جميع المتاحف الأوربية، أهمية خاصة، فعلى أحد وجهيها صورة جانبية لملك متوج يذكرنا شعره المضفور بضفائر ملوك الرعاة الذين خرجوا من بلاد العرب وملكوا مصر زمنا طويلا، والذين اكتشف مسيو ماريت بعض تماثيلهم المعروضة اليوم في متحف بولاق، وعلى الوجه الآخر صورة بومة، ويظهر أن رسام تلك النقود اقتبس رسومها من النقود الإغريقية التي كانت تتداولها أمم البحر المتوسط ذات العلاقات التجارية الكثيرة بالعرب.
ومهما تكن الآثار التي ألمعنا إليها آنفا ناقصة فإنها مما تتم به روايات قدماء المؤلفين، ومما نبصر من خلاله ازدهار حضارة العرب الغابرة التي نسيها الناس في الوقت الحاضر فتنتظر من يكشف الغطاء عنها، والتي نرتدع، بما نعرف عنها من العلم القليل، عن عد العرب همجا، والعرب هؤلاء قد ظهروا على مسرح التاريخ قبل الرومان بقرون كثيرة، وأنشأوا المدن العظيمة، وكانت علاقاتهم بأرقى شعوب الأرض وثيقة. (4) أديان جزيرة العرب القديمة
كانت عبادات القبائل العربية قبل ظهور محمد كثيرة إلى الغاية، وكانت عبادة الشمس وأهم النجوم أكثرها انتشارا، وأخذت القبائل العربية عن الأمم التي كانت تتصل بها كثيرا من آلهتها، فكان زونها
Неизвестная страница