حقا إن ما ذكره المؤرخون ضعيف إلى الغاية، ولا يقف أمام سلطان النقد، وطريقة التحليل العلمي أفضل وسيلة لإيضاح شأن أمة كالأمة العربية.
والغرب وليد الشرق، ولا يزال مفتاح ماضي الحوادث في الشرق، فعلى العلماء أن يبحثوا عن هذا المفتاح فيه.
وتبدو الفنون واللغات وأكثر الديانات العظمى بارزة في الشرق، ويختلف سكان الشرق الآن عن سكان البلدان الأخرى في المبادئ والآراء والمشاعر.
والشرق يتحول ببطء، ويقترب حاضره من ماضيه، ويستطيع من يبحث في أحواله الحاضرة أن يصل إلى صميم الأجيال الغابرة.
والشرق مرجع دائم لرجال الفن والعلم والأدب، وما أكثر ما جلست تحت نخلة أو أمام معبد فأخذتني سنة، وخضت في بحر من الخيالات، وأبصرت من خلالها سالف الأجيال، وتمثلت لي مدن غريبة ذات أبراج مشرفة، وقصور عجيبة ومعابد شامخة ومآذن رفيعة تتلألأ تحت وهج الشمس، ورأيت قوافل من أهل البدو وجموعا من الشرقيين بملابسهم الزاهية، وشراذم من الأرقاء السمر، ونساء مخدرات تجوب تلك المدن!
ولا مراء في تواري نينوى ودمشق وأورشليم وأثينة وغرناطة وممفيس وطيبة ذات مائة الباب وأفول نجمها، ولا ريب في أن قصور آسية ومعابد مصر صارت خرائب وأطلالا، ولا شك في أنه لم يبق من آلهة بابل وسورية وكلدة ووادي النيل سوى ذكريات، ولكنه يستتر تحت هذه الأنقاض عبر لا تحصى، وتشتمل هذه الذكريات على معان بعيدة الغور، وتنطوي أخبار تلك الشعوب التي تناوبت ما بين عمد هركول ونجود آسية الخصيبة، وما بين شواطئ بحر إيجة المخضرة ورمال إثيوبية المحرقة، على أسرار وألغاز.
وتلك البقاع القاصية حافلة بالمعارف، وقد يغير الباحث آراءه بسببها، ويدل درسها على وجود هوة عميقة بين الناس، وعلى بطلان مزاعمنا في الحضارة والإخاء العالمي، وعلى اختلاف ما نخاله ثابتا من المبادئ والحقائق باختلاف البلدان.
وفي تاريخ العرب، إذن، مسائل كثيرة تتطلب حلا، وفيه دروس وعبر جديرة بالحفظ، والعرب عنوان أمم الشرق التي تختلف عن أمم الغرب، ولا تزال أوربة جاهلة لشأنهم، فلتعلم كيف تعرفهم، فالساعة التي ترتبط مقاديرها في مقاديرهم قد اقتربت.
وإن ما بين الشرق والغرب من الاختلاف عظيم إلى الغاية في الوقت الحاضر، ويبلغ في عظمه ما يتعذر معه اعتناق أحدهما لمبادئ الآخر وتفكيره.
وقلبت مبتكرات العلوم والصناعة كيان الغرب المادي والأدبي رأسا على عقب، وتعاني مجتمعاته المسنة تحولا بعيد المدى، ويقاسي خلافا شديدا، ويكابد في سبيل معالجة الشرور التي نشأت عن ذلك الخلاف أزمة عامة تسوقه باطراد إلى تبديل نظمه، ويئن من عدم الانسجام بين المشاعر القديمة والمعتقدات الجديدة، ويألم من تصدع مبادئ الأجيال السابقة.
Неизвестная страница