وأرى العرب والبربر غير مستعدين في الوقت الحاضر، لهضم طرق حياة الأوربيين ومشاعرهم ونظرهم إلى الأمور، وذلك أن الحضارة عند أكثر الأوربيين هي قضاؤهم لمعظم أوقاتهم، وإن شئت فقل عشر ساعات أو اثنتي عشرة ساعة، في المعامل أو المكاتب أو الحقول؛ لنيل عيشهم اليومي على أن يستأنفوا العمل في الغد، وأن عيشا مثل هذا مما لا يرضاه العربي والبربري اللذان ليس لديهما من الاحتياجات المصنوعة ما عند الأوربي، واللذان يأبيان أن يكون لهما مثل تلك الاحتياجات.
والأوربي في نظر العربي أو البربري سيد يعانيه ما ظل مغلوبا على أمره، فإذا سنحت الفرصة للتحرر منه لم يحجم عن اهتبالها. (2) استقرار العرب بإفريقية
لاقى العرب في فتح إفريقية من المصاعب ما لم يلاقوه في فتح مصر، ولم يستقر أمرهم بها إلا ببطء شديد، أي أن البربر لم يتوانوا عن مقاتلة العرب، وإنهم استردوا استقلالهم غير مرة.
وخضعت إفريقية الشمالية للوندال، الذين أتوا من إسپانية، أكثر من مائة سنة (429م-545م) بعد أن خضعت للرومان عدة قرون، ثم طردهم منها جيش جوستينيان الذي أرسله بقيادة بيليزير، ثم استولى قوط إسپانية عليها، وكان القوط مالكين لبعضها حين ظهور العرب على مسرح التاريخ.
ويحيط بتاريخ ولايات إفريقية شيء من الغموض أيام الفتح العربي، ونعلم مع ذلك، أن إفريقية كانت على شيء من الطمأنينة والهدوء وقتما أراد القيصر هرقل أن يمنع تقدم العرب، فكان هذا القيصر يفكر في السفر بحرا إلى قرطاجة؛ ليتخذها عاصمة له بدلا من القسطنطينية التي كانت تأكلها الفتن.
شكل 5-7: مسجد القيروان القديم (من صورة فوتوغرافية).
ولم يكن سكون إفريقية غير مؤقت، والواقع أن إفريقية كانت ميدانا لمختلف المذاهب الدينية التي تقيمها وتقعدها فضلا عن غزو الأجنبي.
نعم، أصبحت إفريقية نصرانية كمصر، ولكن انتحالها للنصرانية لم يتم إلا بعد أن أريقت سيول من الدماء، وذلك أن قسطنطين، لما جلس على العرش، رأى تلك المذاهب الدينية سبب كل اضطراب وهيجان فلم ير غير قهرها بالأسنة والسيوف.
وأنشأ الرومان والبزنطيون مدنا مهمة في إفريقية، وزينوها بمختلف المباني التي لا تزال خرائبها باقية، وكان نفوذهم محليا، ولم يعد هذا النفوذ حدود المدن، فبدوا فاتحين لإفريقية أكثر من أن يكونوا مستعمرين لها.
وكانت مقاومة الروم للعرب في شمال إفريقية ضعيفة كما في مصر، ولولا البربر لتم للعرب فتحها بسرعة، ونشأ عن استبسال البربر في مقاومة العرب أن اضطر العرب إلى خوض خمس معارك هائلة، وقعت في نحو نصف قرن؛ ليكونوا سادة شمال إفريقية.
Неизвестная страница