هكذا كان الشأن ولا يزال، وفي التاريخ أكبر عبرة لذوي الألباب، هذه دولة الفرس أيضا كانت تدين بالمجوسية التي أطبق الناس على تعريفها بأنها «الدين الأكبر والملة العظمى»، كان لها من الشأن ما كان، حتى إذا تسللت إليها الاختلافات الدينية تحلل جثمانها، وحل مكانها الإسلام، فلقد قام فيها قبيل ولادة النبي العربي رجل اسمه مزدك (مزدق أو مز دك) فقال بالأصلين؛ أي النور والظلمة، وأدخل عليهما طريقة التثليث التي قال بها الروم، فذهب إلى أن الأصول والأركان ثلاثة: «الماء والنار والأرض»، وأنها اختلطت فحدث عنها إلهان اثنان، وهما مدبر الخير ومدبر الشر، ثم نهى الناس عن المخالفة والمباغضة والقتال، ولما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب النساء والأموال، أحل النساء والأموال وجعل الناس شركة فيها، كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ،
3
وأعقبه ويصان ثم «مرقيون»، فمزجا بالمجوسية شيئا من تثليث النصرانية ؛ فاضطرب الدين الكبير في الشرق، كما اضطرب الدين الكبير الآخر في الشمال وفي الغرب، وكان ذلك ممهدا لظهور دين جديد لصلاح العالم، وأعني به دين التوحيد.
لم يقف الاضطراب في فارس عند حد الدين، بل اضمحل أمرها بالحروب الكثيرة التي اشتبكت فيها قبيل ظهور الإسلام، فإنها ما كانت تفرغ من مغير حتى يهاجمها آخر هو أشد وأقوى، وما زالت تتوالى عليها صدمات خاقان الترك الأعظم، ثم قيصر الروم، ثم ملك الخزر، وذلك كله في أيام هرمز أبي كسرى أبرويز، إلى أن اجترأ الأعادي على فارس وسقطت هيبتها من النفوس، حتى إن خلقا من العرب خرجوا عليها، ونزلوا في شاطئ الفرات، وشنوا الغارة الشعواء على أهل السواد، وقد أشرت إلى شيء مما كان بين فارس والروم، فأما خاقان ملك الترك الأعظم فقد سبق معنا القول إنه كان يهاجم الروم بقومه من شمال القسطنطينية، وقد أراد أن يهاجمهم أيضا من جهة الجنوب حينما رأى اختلال دولة الفرس، فأرسل إلى هرمز وإلى عظماء مملكته وأساورة بلاده يؤذنهم بإقباله ويقول: «رموا لي قناطر أنهار وأودية أجتاز عليها إلى بلادكم، واعقدوا القناطر على كل نهر لا قنطرة له، وافعلوا ذلك في الأنهار والأودية التي عليها مسلكي من بلادكم إلى بلاد الروم؛ فإني مجمع على المسير إليها من بلادكم.» فأنكر هرمز ما ورد عليه من ذلك؛ فأرسل رجلا من أنجاده لمحاربته وصده عن بلاده، وهو بهرام (جوبين أو شوبين)، وقد عاد قائده مظفرا منصورا بعد أن قتل خاقان وأسر ابنه، وحمل إليه من الأموال والجواهر والأواني وسائر الأمتعة مما غنمه وقر مائتي وخمسين ألف بعير، ثم دبت عقارب السوء بينه وبين هذا القائد العظيم فتنكر لهرمز وجوه الدولة وأعيان الجيش فخلعوه - كما قلنا - وولوا بهرام، هذا في خطب يطول.
ولكن كسرى أبرويز بن هرمز أسقطه بمساعدة ملك الروم، وجلس على عرش أبيه، وقد أرسل إليه القيصر ثوبين فيهما علامة الصليب فلبسهما، فقال الفرس: «قد تنصر الملك.» وحقدوا عليه بهذا السبب، وفوق ذلك لم يحسن سياسة الجند ؛ فخالفوا عليه وانضم أكابر قواده إلى ملك الروم، ثم فسدت عليه نية ملوك العرب فزاد ذلك في اضطراب الأمر بفارس، وزاد شغب الأمة على كسرى أبرويز، فقتلوه لتجبره واحتقاره العظماء وعتوه، وذاك أنه كان قد جمع من المال ما لم يجمعه أحد من الملوك، وبلغت خيله قسطنطينية وأفريقية، وكان له اثنا عشر ألف امرأة وجارية، وألف فيل إلا فيلا واحدا، وخمسون ألف دابة، ومن الجواهر والآلات والأواني ما يليق بذلك، فعتا واستهان بالناس والأحرار؛ فلذلك اكتسب عداوة أهل مملكته لأمور وقعت منه:
أولا:
أنه أمر بقتل كل مقيد في سجونه، وكان عددهم 36000 رجل، ولكن الموكل بهذا الأمر الفظيع توقف في تنفيذه.
ثانيا:
أنه احتقر الأمة واستخف بعظمائها.
ثالثا:
Неизвестная страница