ويقاطعها وجدي في محاولة للحزم: زهيرة، كفى. - ثورة تحرق نفسي أطلقت لها العنان في أول لحظة شعرت فيها أنني في حمى الله بعيدة عن مصر، وأنني أستطيع أن أقول ولا تهددني بما تملكه في مصر من جبروت وظلم وطغيان. أقوم الآن إلى صديق.
وقامت إلى صديق وبدأت معه الحديث محاولة أن تزيل عنه الغربة المادية والنفسية التي يعانيها، ولم تدهش حين وجدته سعيدا بأنه في الطائرة بعيدا عن أهله. «ترى ما الذي يلاحقك أنت أيضا أيها الطفل رائع الجمال في بيت أمك وأبيك؟ كان الله لك يا بني وكان الله لي.»
12
لم يكن عبد الغني ولا عبد الودود يتصوران أن يحيط كل هذا الدمار بأبيهما، حتى لقد كانت هند، وهي الأم التي ليس لها إلا صديق، أكثر صلابة من زوجها وتحاول أن تصبره: يا صابر، لقد فقدت وحيدي، فأستحلفك بالله ألا تجعلني أفقدك أنت أيضا.
وفي إصرار وألم: لم تفقدي صديق، ولن تفقديني حتى نجده. - أتتصور أنه حي ولم يأت طوال هذه المدة؟ - وأنا أيضا لا أتصور أن يصدم شخص طفلا بسيارة ويختطفه. - الصدمة قاتلة، والمجرم أراد أن يخفي معالم جريمته. - يا ستي لا يمكن، أين تظنين أنني كنت أذهب في الصباح طوال الأيام الماضية؟ - لا أدري. - كنت أظل الساعات الطوال في شارع الملاهي، حركة السيارات بطيئة للغاية لزحمة المرور، لا يمكن أن تكون الصدمة قاتلة في هذا المكان مطلقا. - ربما كان الشارع خاليا في هذا اليوم. - يوم جمعة، والملاهي مزدحمة، والمرور لا يسمح أن تسير سيارة بسرعة تؤدي إلى قتل من تصدمه. - لا يمكن أن تثق كل هذه الثقة من أجل استنتاجات مثل هذه. يا صابر، أرجوك، تحتسب لله، ولا توجد في نفسي أملا أعلم أنه لن يتحقق. - بل سيتحقق، وسترين إن شاء الله. - من أين لك كل هذه الثقة؟ - ومن يملك أن يرسل الثقة في النفوس إلا الواحد الحق، الملك، القدوس. - ما دمت مطمئنا، ففيم حزنك؟ - إنه بعيد عني ولا أعرف عنه شيئا، ما مصيره؟ إلى أين تقوده متاهات الحياة؟ هو حي، هو حي لم يمت، أنا واثق؛ لأن الله يمدني بهذه الثقة، ولكن كيف يحيا حياته؟ ما مصيره؟ إن الله لا يبتلي إلا عباده المؤمنين، هو مولانا وعليه توكلت، وإليه المصير. - وهل معنى هذا أن تترك زراعتك ولا ترعى شأنك؟ - اسمعي، أولادي أهملوا شأن أخيهم من أجل الزراعة، وكلاهما خريج زراعة، سأترك لهما كل شيء، ولكنني سأحتفظ بالملكية حتى تقسم على ثلاثتهم وليس عليهما وحدهما، فليفعلا ما يريدان، ولكنني سأظل أنا المالك.
وكذا انفرد عبد الغني وعبد الودود بشئون الأرض، يديرانها كيفما أرادا، ولكن صابر كان دائما قابضا على ما تغله، يعطي ولديه ما يريد أن يعطي، وينفق ما يشاء، ويدخر ما يشاء، وقد كان دائما حريصا على أن يجنب مبلغا من المال يعتبره حق صديق الذي ينبغي أن يبقى له لا يعدو عليه أحد.
كان المال يدخره صابر لصديق، وكان صديق قد التحق في بولندة بمدرسة تعلم اللغة الإنجليزية، فبهر المدرسين هناك بسرعة تعلمه بصورة لم يشهدها واحد منهم قط، وقد جعلهم هذا يتعهدونه بالرعاية ويمدونه بالكتب، وصديق يسير في تعليمه مقبلا عليه غير ملتفت إلى ما يلهو به أبناء سنه من ملاعب الأطفال. حتى لقد كانت زهيرة ووجدي يحثانه على اللعب فيتأبى عليه. وكما بهر صديق مدرسيه، بهر وجدي وزوجته بمحافظته على الصلاة في مواقيتها، وحين أدركهم شهر رمضان هناك أصر على الصيام، حتى لقد خجل منه وجدي وزهيرة وصاما هما أيضا، وأمرهما إلى الله.
وتمر السنة وتعود الأسرة التي أصبحت ثلاثة نفر إلى القاهرة، وفي الطائرة يسأل وجدي صديق: ما رأيك يا صديق، أتذهب إلى مدرسة عربية أم تكمل الدراسة بالإنجليزية؟ - أفضل أن أتمها بالإنجليزية. - لك ما تريد.
وتقول زهيرة: إنها فرصة أن يتعلم الإنجليزية وهو أصلا قوي في اللغة العربية. - معقول. - وخاصة أنه دائما يقرأ في القرآن، فلا خوف عليه في اللغة العربية أبدا. - لقد حفظت ربع القرآن والحمد لله، وفي فترة قليلة سأحفظه كله.
وفي اليوم التالي لوصولهم إلى القاهرة يقيد وجدي اسم صديق في مدرسة أساس التعليم فيها باللغة الإنجليزية.
Неизвестная страница