أما بعد، فإني التمست كلاما شافيا في الكشف عن تهافت الفلاسفة، وتناقض آرائهم، ومكامن تلبيسهم وإغوائهم، ولا مطمع في إسعافك إلا بعد تعريفك مذاهبهم، وإعلامك معتقدهم؛ فإن الوقوف على فساد المذاهب قبل الإحاطة بمداركها محال، بل رمي في العماية والضلال؛ فرأيت أن أقدم على بيان تهافتهم كلاما وجيزا مشتملا على حكاية مقاصدهم في علومهم المنطقية والإلهية، من غير تميز بين الحق والباطل، بل لا أقصد إلا تفهم غاية كلامهم من غير تطويل.
وحينما فرغ الغزالي من تلك الرسالة، عمد إلى أخرى أشد صعوبة وأكثر التواء، وذلك هو تصديه لكل هؤلاء، والتمييز بين حقهم وباطلهم.
درس الغزالي المذاهب الفلسفية كافة، ثم لخصها وركزها في عشرين مسألة رئيسية، استطاع أن يزيفها في قوة وتفوق تزييفا جر عليه عداء الفلاسفة عداء ملتهبا قاسيا، حتى إن ابن رشد كان يلقبه ب «الجاهل الشرير».
ولكنه من الناحية الأخرى رفع له مكانا في الشرق، وخاصة بين الدينيين لم يستطع باحث أن يزاحمه فيه رغم توالي السنين والقرون.
ولا جدال في أن الغزالي قد نجح في حملته نجاحا باهرا؛ لمكانته العلمية ولسلطانه الواسع على النفوس والقلوب، نجاحا نلمس أثره قويا واضحا في الشرق؛ إذ أصبح اسم الفلسفة فيه حليف الزندقة والإلحاد.
ولقد أنتجت تلك الحركة ثمارا طيبة؛ لأنها خففت من غلواء المذاهب الفلسفية، وأبعدت فتنتها عن كثير من العقول، إلا أنها كانت كما يقول الغزالي في موازينه العلمية: «إن لكل شيء وجهين؛ وجه خير ووجه شر.» لأنها أنتجت من الناحية الأخرى فكرة متطرفة مسرفة في التطرف، ترمي إلى النفور من الفلسفة طالحها وصالحها بلا تمييز أو تفكير.
وبلغ من الغلو في تلك الناحية أن حرم كثير من علماء الدين البحوث العقلية، بل اتخذ هذا التحريم حجة في المناقشات ودحض البراهين، حتى أصبح شعارا للجامدين من الفقهاء رمي المفكرين بالزندقة والإلحاد.
والغزالي لم يقصد هذا ولم يرم إليه، وإنما جرح من الفلسفة كل ما يتعارض مع أصول الدين وقواعده، وأما ما عدا ذلك فقد دافع عنه بحرارة وغذاه وأوضحه، ونشره على الخافقين في بحوثه ودراساته.
يقول الغزالي في مقدمة كتابه «تهافت الفلاسفة» ما خلاصته: «إن الفلاسفة من عهد أرسطو إلى عهدنا هذا قد بنوا مذاهبهم في الإلهيات على ظن وتخمين، من غير تحقيق ويقين، ويستدلون على صدق علومهم الإلهية بظهور العلوم الحسابية والمنطقية، ويستدرجون بهذا ضعفاء العقول، ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين نقية عن التخمين كعلومهم الحسابية لما اختلفوا فيها، كما لم يختلفوا في الحسابية والمنطقية.»
وبهذا المنطق القوي الواضح السائغ ناقش الغزالي الفلاسفة، فحطم ونقض جميع ما دبجت أقلامهم في الإلهيات وعلوم ما وراء الطبيعة.
Неизвестная страница