والعلم الحديث القائم على الاستقراء والمشاهدة يعترف في صراحة بأن للمعرفة وسائل أخرى غير الحواس الخمس، وأن هناك إلهامات روحية غامضة لا سبيل إلى معرفة أسرارها أو إنكارها أو التهكم عليها.
فمسألة العقل الباطني، والتنويم المغناطيسي الذي عجز الماديون عن إنكاره أو تشكيك النفوس فيه، ما هو إلا ضرب من ضروب الأرواح السابحة التي يمكن للأرواح البشرية أن تلتقي بها، وتتحدث إليها، وترشف من نبعها ومعارفها ما شاءت من أسرار وفنون.
وقد دل العلم الحديث على أن المنوم تنويما مغناطيسيا بعد أن تتعطل حواسه يتقمص شخصية أرقى من شخصيته، وتتلبسه روح عاقلة واسعة الإدراك سامية المعارف، تتحدث عن أدق المسائل وأغمض المسالك.
ومن مشاهدات العقل الباطني ما يلمح في كثير ممن نفذ إليهم شعاعه في ناحية خاصة كالحسابين على البديهة، وهم طائفة تلقى عليهم أغمض المسائل الرياضية وأدقها والتي تحتاج إلى زمن كبير في التفكير والعمل، فيجيبون عنها فورا وهم لا يدرون ولا يعرفون كيف ولا متى حصل هذا!
وهناك أطفال يوقعون على الموسيقا قطعا وألحانا يعجز عنها أئمة هذا الفن، وهم لا يعرفون كيف صنع هذا اللحن أو رتب ذاك النغم!
وقد كتب الشاعر «موسيه» عن نفسه فقال: «أنا لا أعمل ولكني أسمع فأفعل، فكأن إنسانا مجهولا يناجيني في أذني»، وكان «لامارتين» يقول: «لست أنا الذي يفكر، ولكن هي أفكاري التي تفكر لي»، وروى الشاعر «رينيه» أنه قد ينام غالبا وهو يعمل قطعة من الشعر لم تتم، فيستيقظ فيجدها تامة في اليوم التالي عندما يفكر فيها. أما «سقراط» فقد كان يسمع بأذنيه ما تلقيه إليه الروح.
بل إن هناك مذاهب فلسفية قديمة قامت بأسراها على المناجاة الروحية والاتصال بالله، ف «أفلوطين» في مدرسة الإسكندرية يرى: «أن الجذب والفيض هما السعادة التي ليست وراءها سعادة»، و«مالبرتش» في القرن السابع عشر يقول باتصال مستمر بين العبد وربه، فمعرفتنا ليست إلا فيضا من الله، وما يبدو منا من عمل خارجي ليس إلا ظروفا ومناسبات لتحقيق إرادة الله، وبهذا يتلاشى المخلوق في الخالق، ويندمج الأثر في المؤثر.
وأرسطو الذي كان واقعيا في بحثه وطرقه، ورجل مشاهدة وتجربة في ملاحظاته واستنباطاته؛ قد انتهى به الأمر إلى أن بنى دراسته النفسية على شيء من الفيض والإلهام.
ومن مذاهب العلم الحديث «مذهب المتأملين» الذين يؤمنون بالتأمل ويفضلونه على القراءات والدراسات. فأصحاب المذاهب الفكرية وقادة الرأي لديهم كانوا من المتأملين، ولم يكونوا من الذين أفنوا حياتهم في البحث والدرس.
والصوفية في الإسلام تحمل لواء الكشف الباطني، وقد ازدحمت مكاتب الفكر الإسلامي بتراث ضخم للصوفية التي حوت معارفها ينابيع من العلوم والفنون، أثارت جدلا وحوارا، ولا تزال تثير جدلا وحوارا.
Неизвестная страница