بالحرب تمحل الأرض وتضن بإنتاجها وتتقهقر الفلاحة ويقل الحصاد.
بالحرب تنهدم البلاد وتغور المتاجر في أودية الاضمحلال، وتنقطع الشعوب عن مشاركة بعضهم بعضا.
بالحرب تضعف الممالك وتقل رجالا ومالا. وبالجملة إنه بالحرب تذل البلاد وتبيد القبائل ويصفر الخراب.
ومع كل ذلك فقد تلد السلامة حروبا والحروب سلامة.
بناء على أن زيادة الراحة تنشئ أضرارا جمة لا تذهب إلا بواسطة التعب والرياضة. وأيضا زيادة التعب قد تسبب جملة أعراض رديئة لا يمكن إخضاعها إلى الزوال إلا تحت سلطنة الراحة والسكون.
أما ترى حينما تمردت علينا مملكة العبودية وأخذت تفسد في الأرض بواسطة أعوانها وتعيث بسذاجة شعوبنا كيف نهضنا ضدها ابتدارا، وأشهرنا أسلحة الحروب حذرا من أن يبتلعنا القعر وتطبق البئر علينا فاها؟
وهكذا أتممنا تشتيت شمل العدو، وصحنا عليه بصافور الغلبة والظفر، ضاربين بطبول الحرية التي نحن أولادها. وحينئذ فأنا الذي تدعونه وزير محبة السلام قد اخترقت بذاتي جماهير معسكر هذه الأعداء، واقتحمت قلاعهم ناضيا سيف الهمة والمسعى، حتى أنزلت بهم النكال دفعا لوقوع القلق والاضطراب في بلادنا، ورفعا لتسلط القبائل الأجنبية علينا؛ الأمر الذي يفعل الخراب أكثر مما تفعله الحروب، فهنا نرى أن السلامة قد أنشأت حربا.
وعندما تسترجع هذه الحروب راحتنا السابقة وهدوءنا الاعتيادي منادية بكون سيف السلطان طويلا؛ نقول من ثم إن صخرة الحرب قد أفاضت مياه السلامة الدائمة التي بها يتمتع كل آت بعدنا، كما يتمتع بماء هذه الصخرة التي فجرتها العناية بعصا موسى الإعتاق كل سارح في برية الحرية أو غابة الحق. وأومى إلى الصخرة التي يتدفق منها الماء وأحاط بالإيماء جميع الغابة.
وبينما كان هذا الوزير يتكلم كانت الملكة الآخذة وضع الجلوس المحتشم متكئة على ساعد العرش السامي ومزهرة راحتها بوردة خدها الأزهر، وعلى مباسمها تقرأ الحلاوة آية الكوثر، وهي تهز رجلها اللطيفة إشارة لاستيعاب الخطاب متوسمة بوجه محبة السلام بأعين تفيض جمالا وكمالا على طلعة تنفث في العقول سحرا وتدير على القلوب خمرا؛ فهي ترمي فؤاد فانوس - إلهة العشق - بنبال الفتور، وتأخذ قلب باكوس - إله السكر - بنشوة الخمور، مع أنها تخلق في مينارفا - إلهة الحكمة - مهابة واحتراما، وتجري في روح المريخ - إله الحرب - بردا وسلاما.
فما أتم الوزير كلامه إلا ورأيت زنجيين مهرولين من بعد إلى ساحة هذا المرسح ولم تزل بطون الأدغال تبتلعهما تارة وتتقاياهما أخرى حتى أدركا أخيرا هذا المحط، وسجدا على الفور تجاه المشهد الملوكي مكشوفي الرأس مطرقي الأعين، قد عبثت بأنفاسهما غصص الرعشة والهلع. وغب سجودهما أبرز أحدهما من جيبه درجا مطويا، ورفعه منشور لدى العظمة الملوكية مطأمن الظهر منحل العزائم.
Неизвестная страница